Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 45-48)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا ذكر سبحانه نُبَذاً من أحوال أهل الضلال ، وأصحاب الشمال بحسب العاقبة والمآل ، أراد أن يذكر نُبَذاً من أسباب شقاوتهم من أحوالهم وأفعالهم التي أوجبَت لهم هذا النكال ، وذهبت بهم إلى مضيق هذا الوبال ، إذ العاقبة لكلّ أحد من نتيجة السابقة ، والنهاية من مقولة البداية . ثمّ لا شكّ أنّ مجامع مبادئ الشرّ والعصيان في أفراد الإنسان ، منحصرة في أمور ثلاثة ، لأنّ له قوى ثلاثاً خلقها الله فيه لحاجته إليها ما دامت في الدنيا لتكون وسيلة له إلى حسن العاقبة في الأخرى - إذا صرفها فيما خُلقت لأجله - ، وهي بعينها أسباب الشقاوة - عند انصرافها في غير وجوه مصارفها الشرعيّة ومواضعها الفطريّة - . إحداها : القوّة الشهويّة ، التي من شأنها أن تستعمل في المستقبحات وتدفع القاذورات . والثانية : القوّة الغضبيّة ، التي من شأنها الغلبة والتهجّم والإيذاء . والثالثة : القوّة الإدراكيّة ، سيّما الوهميّة التي من شأنها الجَرْبَزَة والمكر والحيلة . فقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } إشارة إلى فعل القوّة الشهويّة على وجه الإفراط ، أي : كانوا في الدنيا متنّعمين مفرطين في المآكل والمشارب اللذيذة والمناكحات الشهيّة . وبيّن سبحانه أنّ الترف ألهاهم عن الانزجار ، وشغَلَهم عن الاعتبار ، فكانوا تاركين للواجبات طلباً للراحة . وقوله تعالى : { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ } أي : الذنب العظيم ، إشارة إلى فعل القوّة الغضبيّة ، إذ الإصرار على الذنب أن يقيم عليه ولا يقعد عنه بلوم لائم ، ولا ينزجر بزجر زاجر ، لشدّة القوّة وإفراط الداعية . ولمّا كانت القوة الغضبيّة أقوى من الشهويّة وأقرب إلى الأفعال الباطنة فكان ذنبها عظيما بالقياس إلى ذنب الشهوة . فكذلك ذنب القوّة الوهميّة اعظم من ساير الذنوب ، كما أنّ طاعتها أعظم أجرا من طاعة هذه القوى التي تحتها . قيل : كانوا يخلفون أن لا يبعث الله مَن يموت ، وأنّ الأصنام أنداد الله . وقوله : { يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } ، إشارة إلى فعل القوّة الوهميّة ، وهو الاعتقاد الباطل في استحالة البعث والنشور ، بناء على مقدّمات وهميّة وقضايا كاذبة ، يؤلف منها قياس مغالطي ، أو مقدّمات مشهورة ، وقضايا شبيهة بالحقّ يؤلف منها قياس جدلي ، وهذا أشدّ ضرراً وأكثر فسادا وأصعب انقلاعاً من قلوب الجماهير ، مثل قول مَن قال من منكري المعاد : إنّ الإنسان إذا مات وتلاشت أعضاؤه وصارت عظامه رميما وأجزاؤه تراباً وأجزاؤه تراباً فكيف يقبل الحياة تارة أخرى ؟ فإن قبلت الأجزاء الباقية نفس الحياة التي زالت عنها يلزم إعادة المعدوم ، وإن قبلت غير تلك الحياة يلزم كونها حيّة بحياة أخرى ، وحينئذ لم يبقَ فرقٌ بين المُعاد والمستأنف ، ولا فرق أيضاً بين أن يقال : ذلك الشخص عادَ حيّا ، أو حدث شخص آخر . ولتساوي نسبته إلى ساير الأشخاص لا اختصص لواحد دون واحد في كونه هذا الشخص بعينه ، إذ لا عبرة بالأجزاء الترابيّة . فقوله : { أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } - يحتمل أن يكون للإشارة إلى ما ذكر - على قراءة من قرأ : " أوْ آبَاؤنَا " بسكون الواو ، لتكون العاطفة فاصلة - وأمّا على قراءة مَن قرأ بتفح الواو فيكون واصلة ودخلت عليه همزة الاستفهام - وهم أكثر القرّاء وقراءتهم أصحْ - ليحسن العطف على المضمر في " لَمبْعُوثُون " من غير تأكيد بـ " نَحْن " ، لوجود الفاصل الذي هو الهمزة ، فيحتمل أن تكون الآية للإشارة إلى شُبهة أخرى لهم ، وهي أنّ مقدار جرم الأرض مقدار محصور معدود بالفراسخ والأميال ، بل ممسوح بالأذرع والأشبار ، وعدد النفوس غير متناه ، فلا يفي مقدار الأرض ولا يسع لأن تحصل منه الأبدان الغير المتناهية ، ولا يكون فهيا أمكنة جميع الخلايق السابقين منهم واللاحقين لعدم تناهيهم ، إذ لا قائل بأنّ المحشور والمُعاد بعض الناس دون بعض . وهذا الوجه أربط بما ذكره تعالى في الردّ عليهم وهو : { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } .