Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 5-5)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أي : يتصرف فيهما كيف يشاء ، إلاَّ أن مشيّته تعالى تعلقت بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتسكين الأرض في وسط الكل ، لقبولها الآثار النازلة عليها من السماء - من الأنوار والأمطار - ، ليتولّد منها المركّبات ، وتتكون منها الكائنات - من المواليد الثلاثة وغيرها - ، الحاصلة من الأسباب الفعلية والانفعالية السماوية والأرضية ، ثم ترجع إليه الأمور يوم القيامة ليجزى كل واحد بما عمل . وقيل : جميع من ملّكه شيئاً في الدنيا يزول ملكه ، ويتفرد هو سبحانه بالملك ، - كما كان كذلك قبل أن خلق الخلق - . مكاشفة إعلم أن كل ما يصدر عن فاعل فهو في آخر الأمر يرجع إليه ، كما ينكشف لنا من تتبع الأمثلة الجزئية ، فإن من بنى بيتاً ليسكن فيه فالداعي له في بنائه هو الراحة التي يتصورها عند تمام البيت ، فهو مع هذا التصوّر ، فاعل لفعله الذي تصل صورة منه ثانياً إليه ، فكل من فعل شيئاً فإنما يفعل لنفسه . فلما أفادنا النظر في خلق السموات والأرض وما فيهما إثبات فاعل لها ، موجد له ملكها ، كذلك أفادنا إثبات غاية يرجع إليها الجميع ، ويجب أن تكون تلك الغاية هي بعينها ما هو الفاعل لوجودها ، لأنّا لو جعلنا الغاية أمراً معلوماً ، لكان لوجودها غاية غيرها - كما أنّ لها فاعلاً - فيتسلسل أو يدور . وأيضاً : لا يكون ما فرض غايةً غايةً ، إذ الكلام في الغاية القصوى ، ولكان الباري يحتاج في فعله إلى داع يستولي عليه ويجبره في فعله . وأيضاً : يلزم أن يكون ناقصاً في فاعليّته ، مستكملاً بغيره مما فرض غاية ، والتوالي بأسرها باطلة ، فكذا المقدّم . ثم إنا لو وصفنا كلاًّ من الفاعل والغاية بالمباينة الكلية ، لاقتضى ذلك تعدد الباري ، ولاقتضى أيضاً سلب الماهية عنهما ، ويستحيل وجود شيئين كل منهما لا ماهية له ، فالله هو الأول الذي تبتدئ منه الأمور ، والآخر الذي ترجع إليه الأمور ، فمنه تحصل الأشياء في الابتداء ، وإليه تنساق الموجودات في الانتهاء ، وهو الفاعل للوجود ، والغاية له في الشهود . فإن قلت : كيف يكون ماهو العلة الفاعلية علةً غائية ؟ والفاعل قبل الشيء لينبعث منه الشيء ، والغاية بعد الشيء ليستتبعها الشيء ؟ قلنا : إن العلة الغائية - إن تأملت - فهي بالحقيقة العلة الفاعلية دائماً ، - لا في هذه المادة خاصة - ، فإن الجائع إذا أكل ليشبع ، فإنما أكل لأنه تخيّل الشبع فحاول أن يستكمل له وجود الشبع ، فيصير من حد التخيّل - وهو وجود ضعيف - إلى حد العين - وهو وجود قويّ - ، فهو من حيث إنه شبعان تخيّلاً هو الذي يأكل ليصير شبعان ، وجوداً ، فالشبعان تخيّلاً هو العلة الفاعلية ، والشبعان وجوداً هو العلة الغائية ، فالأكل صادر من الشبع ومصدر للشبع ، فالشبع هو الذي كان علّة فاعليّة للأكل وعلة غائية له ، ولكن باعتبارين : فهو باعتبار الوجود العلمي فاعل وعلّة غائية ، وباعتبار الوجود العيني غاية . لكن يجب للعارف البصير أن يفرّق بين الفاعل الناقص الواقع تحت الكون ، وبين الفاعل التام المرتفع عن الكون ، المقدس عن الاثنينيّة والتركيب لا في الذات ولا في الاعتبار ، لأن فاعليّته تامة ليست له غاية زائدة على ذاته ، وعلمه بالأشياء كباقي صفاته عينُ ذاته ، فإفاضة الخيرات منه على الماهيات ، إنما هو لكونه بذاته جواداً ، وبعلمه بوجه الخير في النظام ، ينشأ من الأشياء على أحسن الأنحاء وأفضلها في التمام .