Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 62, Ayat: 10-10)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفيه إشراقات : الإشراق الأوّل في الإشارة إلى ما قيل فيه قيل : إنّ الانتشار في الأرض ليس لطلب دنيا ، ولكن مثل عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول : المراد من الابتغاء من فضل الله : طلب العلم . وروري عن أبي عبد الله ( ع ) انّه قال : الصلاة يوم الجمعة . والانتشار يوم السبت . وروى عمر بن زيد عن أبي عبد الله ( ع ) انّه قال : إنّي لأركب في الحاجة التي كفاها الله تعالى ، ما أركب فيها إلاّ التماس أن يراني الله أضحى في طلب الحلال ، أما تسمع قولا لله عزّ وجلّ : { فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } ، أرأيتَ لو أنّ رجلاً دخل بيتا وطيّن عليه بابه ثمّ قال : " رزقي ينزل عليَّ " أكان يكون هذا ؟ أمّا إنّه أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم . قال : - قلت - : مَن هؤلاء الثلاثة ؟ قال : رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لأنّ عصمتها في يده ، لو شاء ان يخلّي سبيلها يخلّي سبيلها ، والرجل يكون له الحقّ على الرجل ولا يشهد عليه فيجحده حقّه ، فيدعو عليه فلا يستاب له ، لأنّه ترك ما أمره به ، والرجل لا يكون عنده الشيء فيجلس في بيته فلا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتّى يأكله ، ثمّ يدعو فلا يستجاب له . وعن بعض السلف أنّه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا نظراً لهذه الآية . الإشراق الثاني في الإشارة إلى لبّ المعنى إنّ الأمر بالانتشار في الأرض وابتغاء الفضل بعد قضاء الصلاة إشارة إلى الرجوع والمعاشرة مع الخلق بالإرشاد والتعليم ، والانتشار في أرض الحقائق ، ونشر الفضائل في أراضي قلوب المستعدّين ، وإفاضة الصور الكماليّة على قوّة قابليّاتهم بعد العزلة عنهم والإنزعاج والتوحّش عن حصبتهم ، والاختلاء مع الله والوقوف بين يديه بالصلاة الحقيقيّة . فإنّ السالك في أوائل سلوكه وانزعاجه عن الخلق إلى الحقّ لا يحتمل الهمس من الحفيف ، وأمّا بعد الوصول فإما له استغراق في الحقّ واشتغال به عن كلّ شيء وسير فيه ووقوف مع الجمع ، فيكون أيضاً محجوباً بالحق عن الخلق ، بل بالذات عن الصفات ، وإمّا سعة للجانبين وانشراح صدر للطرفين ، فالانتشار في الأرض هو السياحة في أرض الحقائق وإيفاء حقوق الخلائق بالمحبّة الأفعاليّة الناشية من محبّة الذات ومحبّة الصفات والأسماء ، فيرى ذاته تعالى في مرائي الصفات ، وصفاته في مظاهر الأسماء ، فيقول بلسان حاله ومقاله - ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله فيه أو معه - ، فيحبّ الخلائق بمحبّة خلاّقهم ، ويبتغي من فضل الله بطلب حظوظ التجلّيات الصفاتيّة والأسمائيّة ، ويرجع من سماء القدس إلى أرض النفس ، لتوفية حظوظها بالحقّ ، ويهبط من جنّة المعارف الإلهيّة إلى عالم البدن ، لتوفية حظوظ النفس التي هي بمنزلة زوجة العقل في جنّة الصفات { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] كما أنّ حوّاء زوجة آدم في جنّة الأفعال { يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [ البقرة : 35 ] . وكذلك الرجال البالغون ، لهم أن يتصرّفوا في الدنيا وزينتها ، والشهوات النفسانيّة ولذتها عند بلوغهم بنور المعرفة والتقوى إلى مرتبة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله بقوّة ربّانية وبصيرة روحانيّة ، لا بشهوة حيوانيّة ولذّة نفسانيّة ، فقد علم كلّ أناس مشربهم ، ويكون لهم ذلك مَمَدّا في العبوديّة ومَجَداً في سلوك طريق الربوبيّة ، كما قال تعالى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [ الأعراف : 32 ] . المطلع العاشر في قوله سبحانه : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وفيه إشراقات : الإشراق الأول إنّما أمر الله عباده ووصّاهم بإكثار الذكر حتّى لا يلهيهم شيء من تجارة ولا بيع ولا أكل ولا شرب ولا غيرها عن معرفة الله وعبوديّته ، ولا تكون هممهم مصروفة عن الترقّي إلى عالَم الربوبيّة ، ونفوسهم منغمرة في طلب الأغراض الحيوانيّة ، لأنّ فلاحهم في الخلاص عن النشأة السافلة الدنيويّة وفوزهم منوط بالارتقاء منه إلى النشأة العالية الأخرويّة ، ولذلك قيل معناه : أذكُروا الله في تجارتكم وأسواقكم . كما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : " مَن ذكر الله في السوق مخلصاً عند غفلة الناس وشُغلهم بما فيه ، كتب الله له ألف حسنة ، ويغفر له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر " . واعلم أنّ المداومة على تذكّر شيء ومعاودة اسمه ، توجب وصاله ، ولهذا قيل : العبادة باعثة للمحبّة ، والمحبّة باعثة للرؤية . وعن أبي عبد الله ( ع ) : إنّ العبد يرفع رغبته إلى مخلوق ، فلو أخلص نيّته لله لأتاه الذي يريد في أسرع من ذلك . ومن علامة المحبّة ذكر المحبوب : من أحبّ شيئاً أكثر ذكره . وقيل : المراد بالذكر هنا الفكر ، كما قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ سنةٍ " وروي : سبعين سنة - أيضاً - . وذلك يُشبه أن يكون حقّا ، فإنّ الفكر بالحقيقة هو الذكر الحقيقي القلبي ، لأنّ حقيقة الإنسان وروحه هو باطنه وسرّه ، لا بدنه وهيكله المحسوس ، فالذكر الحقيقي منه ما يقع من لسان قلبه وإحضاره وإخطاره صورة المذكور في باله ، ولهذا ورد في الحديث القدسي : " أنا جليس من ذكرني " والله سبحانه أجلّ وأرفع من أن يكون جليس البدن حاضراً عنده ، ولكن مع تجرّده وتقدّسه ممّا يحضر في قلب العارف ويقع عليه نوره . واعلم أنّي لا أظنّ أحداً من الناس أوفى بعهد الله وعمل بمقتضى هذه التوصية منه في باب إكثار ذكر الله والمداومة عليه بالحقيقة إلاّ الحكماء العارفين بالله ، لأنّهم هم الذاكرون الله كثيراً ، وهم الذين يذكرون الله قياماً وقُعوداً وَعَلى جُنوبهم ، ويتفكَّرونَ في خُلْق السمواتِ والأرضِ ، وهم كالمشغوفين بهذا الأمر ، والذين آمنُوا أشَدُّ حُبّاً لله . وذلك لأنّ كل أحد سواهم له دوام شغل بغير الله وآياته وأفعاله من صنايعهم العلميّة والعمليّة . مثلاً : النحويّ أكثر اهتمامه بحفظ قوانين النحو ، لأنّه الغالب على طبعه ، وكذا اللغويّ ، والشاعر وما يجري مجراهم ، وهمّة المنجّم طول عمره مصروفة في ضبط حركات الأفلاك وتقاويم الكواكب واستنباط الأحكام من حركاتها وأوضاعها وانتقالاتها وارتباطاتها ، وإلاّ لم يكن منّجماً بارعاً فائقاً على الأقران ، وكذا الطبيب لو لم يكن مشغوفاً بعلمه ، مستفرغاً جهده في طلبه ، ثمّ في حفظه وضبطه قوانين العلاج ومعرفة الأدوية المفردة والمركّبة على أبلغ وجه وآكده ، لم يكن من البارعين في فنّه ، وكذا الفقيه الحاوي لفروع الفقه ، المستحضر لمسائله ، المدقّق في وجوه الاستنباطات الدقيقة وتفريع الاحتمالات البعيدة مع جلوسه في مسند الفتوى والحكومات ، لا بدّ له من استغراق القلب وصرف العمر واستيعاب الخاطر وبذل الوسع والطاقة فيه ، حتّى يكون فائقاً على الأقران ، مشاراً إليه بالأنملة والبَنان ، وكذا المحدّث في استعمال أوقاته في علم الرواية أعني في سماعة الحديث ، وجمع الطرق الكثيرة ، وطلب الأسانيد العالية الغربية ، فهمّته أبداً مصروفة في أن يحصل عنده ما لم يحصل عند كثير من الناس ، ولهذا يدور في البلاد ويرى الشيوخ ليقول : " أنا أروي عن فلان " ، " ولقد لقيت فلانا " " ومعي من الأسانيد العالية ما ليس مع غيري " . وكذلك سائر العلوم والصناعات ، إلاّ الحكيم الإلهي والعالم الرّباني ، فإنّ موضوع علمه ومادّة صناعته هو الموجود المطلق والإله الحقّ - جّل مجده - فتمام عمره مشغول بالحقّ ، وجميع همّه مصروف بالكشف عن توحيده وتقديس صفاته ، وأحكام أفعاله ، ومعرفة نعوته وأسمائه وآياته ، فلا شغل له إلاّ ذكر الله وذكر آلائه ، وله علمان شريفان نوريّان : علم المبدأ وعلم المعاد ، وله في الأوّل بابان شريفان ، أحدهما أشرف وأنور من الآخر ، وهو العلم بوجوده ووحدانيته وتقدّس صفاته وأسمائه ، وسكّان جبروته من المفارقات والربوبيّات ، والآخر ، العلم بأفعاله من السماوات والأرضين والبسائط والمركّبات . وإلى الأوّل أشير بقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . وإلى الثاني بقوله تعالى : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] وإلى علم المعاد أشير بقوله : { سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] . وكذا أشير إلى أحد المنهجين في معرفة المبدأ بقوله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } [ فصلت : 53 ] وإلى الآخر بقوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] . قال بعض الفضلاء في تفسيره الكبير : القرآن مشحون بذكر هذه العلوم الثلاثة ، فإنّ للإنسان أيّاماً ثلاثة - الأمس ؛ والبحث عنه يسمّى بمعرفة المبدأ ، واليوم الحاضر ؛ والبحث عنه يسمّى بالعلم الأوسط ، واليوم الآخِر ؛ والبحث عنه يسمّى علم المعاد . وقد وقعت في آخر سورة البقرة إشارة إلى العلوم الثلاثة ، فقوله تعالى : { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] . إشارة إلى علم المبدأ . وقوله : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ البقرة : 285 ] ، إشارة إلى علم الوسط ، وقوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [ البقرة : 285 ] أشارة إلى علم المعاد . وكذا قوله تعالى : { رَبَّنَا } [ البقرة : 286 ] - إشارة إلى الأوّل ، وقوله : { لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] إلى قوله تعالى : { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا } [ البقرة : 286 ] . إشارة إلى الأوسط ، وقوله : { وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا } [ البقرة : 286 ] . - الخ - إشارة إلى علم المعاد . وقال في آخر سورة هود إشارة إلى هذه المعارف الثلاثة : { وَللَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلأَمْرُ } [ هود : 123 ] . إشارة إلى أوّلها . وأما علم الوسط ، وهو علم يجب اليوم أن يشتغل به ، فله أيضاً مرتبتان ، البداية والنهاية . أمّا البداية ، فعلم النفس والاشتغال بالعبوديّة ، وأمّا النهاية ، فقطع النظر عن الموادّ والأسباب والتجرّد التامّ ، والاتّصال بالمبدأ الفعّال ، وتفويض الأمور إلى مبدأ المبادئ ومسبّب الأسباب ، وذلك هو التوكّل ، فذكر هذين المقامين فقال : { فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] . وأمّا علم المعاد فهو مشار إليه بقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ هود : 123 ] أي : إنّ ليومك غداً ستصل إليك فيه نتائج أعمالك وثمرات أفعالك . وفي كلام أمير المؤمنين ويعسوب الدين - عليه أزكى تسليمات المصلّين - إشراة إلى هذه العلوم الثلاثة للإنسان لإصلاح الأيّام الثلاثة له حيث قال : " رحِم الله امرئ أعدَّ لنفسه واستعدّ لرمسه ، وعلِم من أين وفي أين وإلى أين " . فقد اشتملت هذه الآية على العلوم الثلاثة ، ونظيرها أيضاً قوله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] إشارة إلى علم المبدأ ، وقوله : { وَسَلاَمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 181 ] إشارة إلى علم الوسط ، وقوله : { وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الصافات : 182 ] إشارة إلى علم المعاد ، ولهذا قال في صفة أهل المعاد : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] . وهذه العلوم الثلاثة مع أجزائها وأبوابها وفصولها ، من علم الكليّات وأحكام الماهيّات ، والعلم بالعلل الأربع ، والأسباب القصوى لوجود الأشياء الكائنة ، فاعلها وغايتها ومادّتها وصورتها ، والعلم بمبادئ الحركات الكليّة وغاياتها ، وعلم المفارقات ، وعلم النبوّات ، وعلم السماء والعالم ، وعلم الروحانيّات ، وعلم النفس وأحوالها بعد الموت ، وعلم انبعاث الرسل وكيفيّة الوحي والتنزيل ، والكتاب والتأويل ، وعلم النبوّة والرسالة ، وعلم الإمامة والسياسة ، كلها ذكر الله وذكر صفاته وأسمائه وآلائه ونعمائه . فالحكماء الأفاضل سيّما الأنبياء والأولياء منهم - سلام الله عليهم - كلّهم مشتغلون بذِكْره ، مشغوفون بمناجاته ومخاطباته ، فهم الذاكرون الله كثيراً دون غيرهم ، إذ ليس عشق المبدأ الأعلى ومعرفة ذاته داخلاً في موضوعات علوم غيرهم وصنايعهم ، ولا مقوّما لمطلوباتهم - من حيث هي مطلوباتهم ومسائلهم - ، ولا غاية لأنظارهم وأفكارهم ، وثمرة لأفعالهم وأعمالهم القلبيّة إلاّ بوجه من التكلّف والتجوّز البعيد ، والتمحّل الشديد ، فأولئك تحرّوا رشَداً دون غيرهم . فهم أحقّاء بأن يكونوا عباد الله الصالحين ، واولياء الله المتقين ، وأنّ الحقّ جليسهم ورفيقهم حسبما ورد من قوله : " أنا جليسُ مَن ذكرني " وبأن يكون الحقّ حاضراً عندهم مشاهداً لهم بمقتضى قوله : " أنا عند المنكسرة قلوبهم ، أنا عند المندرسة قبورهم " . إذ لهم قلوب منكسرة وأبدان كقبور مندرسة ، لتوحّشهم عن الناس ، وتفرّدهم عن الخلق بالموت الإرادي ، وتضرّرهم بها للمنافاة والتضادّ بين سلوكهم وسلوك غيرهم ، فإنّ الرجل بقدر إمعانه في العلوم الباطنيّة ، يتوحّش عن الخلق ، ويتأذّى عن صحبة أهل الظاهر ، وعلى مبلغ عرفانه بالحقّ يتناكر عن الناس . ولهذا قال النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو أعرف العرفاء بالحقّ : " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت " . وأما غير العالم الربّاني ، فليس له هذا التوحّش عن أهل الدنيا والخوف والخشية والموت الإرادي عن مرغوباتها ، والرياضة البدنيّة بالأعمال والعبادات ، والنفسية بالأفكار والتأمّلات ، لاشتغال هؤلاء بما يوجب تقوية القوى ، ومماشاة الهوى ، والركون إلى أهل الدنيا ، والإخلاد إلى الأرض السفلى ، والإنسراح إلى مراتع الحظوظ النفسانيّة بالحكومة والفتوى ، والاغترار بظواهر الرخص الشرعيّة حيث لم يقفوا على كُنه الأمر ، ولا لهم الخوض والإمعان في غرض الشارع منها بحسب الغاية القصوى . فأكثر الخلق كما أخبر الله عن حالهم بقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } [ الجمعة : 11 ] - { يٰلَيْتَنِي ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 27 ] فلم يبق منهم مع خطيب الأنبياء إلاّ قليلاً ، وأهل الله في غاية الندرة والقلّة . وهم العارفون بأن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ومن الدنيا ومستلذّاتها ومن الجنّة ومشتهياتها ، وهم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ، لعلمهم بأنّ ما عند الله خير لأولي الألباب . الإشراق الثاني مراتب الذكر والذاكر قال الله تعالى لنبيّه : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمّل : 8 ] . وقال نبيّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " ألا أُنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الوَرِقِ والذهب ، وخير لكم من أن تلقوا أعداءَكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما ذلك - يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) - ؟ قال : ذكر الله عزّ وجلّ " . وعنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً : " سبق المفردون ، سبق المفرِدون . قيل : ومَن هم - يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قال : المستهترون بذكر الله تعالى ، وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً " . واعلم أنّه قد انكشف لأرباب البصائر المتسنيرة بنور المعرفة ، أنّ ذكر الله أفضل الأعمال الروحيّة والقلبيّة والنفسيّة والبدنيّة ، ولكن له مراتب بعضها قشور وبعضها لُباب ، وللذاكر أيضاً مراتب بحسبه ، ولكلّ ذكر نتيجة أيضاً ، فإنّ نتجية ذكر العبد لله ذكر الله له ، كما قال تعالى : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] . وقيل : في هذه العبارة تقديم وتأخير ، لأنّ الله أمرهم بالذكر مع فاء التعقيب ، كقوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] . وقوله تعالى : { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] . وذلك لأنّ ذكر العبد لله نتيجة ذكر الله له ، كما أنّ محبّتهم له ورضاهم عنه تعالى نتيجة محبّته إيّاهم ورضوانه عنهم . والحقّ ، أنّ لكلّ من القولين وجهاً وجيهاً ، لأنّ التقدّم في الأول على سبيل الإعداد والتهيئة ، وفي الثاني على سبيل العليّة واللزوم ، لأنّ جميع حالات العبد تابعة لما في علم الله وقضائه الإجمالي ، ثمّ التفصيلي ، فذِكْرُنا له تعالى مسبّب عمّا في اللوح المحفوظ والذِكْر الحكيم ، فافهم هذا . وأيضاً - ، فإنّ ذكر العبد لله ومحبّته له ورضاه عنه ، وسائر صفاته الحسنة وأعماله الصالحة ، مؤديّة له إلى أمثال هذه النتائج على وجه أكمل وأعلى ، فإنّ لكلّ شيء حادث ، كما لَه مبدأ ، كذلك قد يكون له غاية ، والمبادئ للأشياء ذوات الغايات هي نفس الغايات بالذات ، وغيرها بالاعتبار - كما حقّق في مظانّه - ، أوَ لاَ ترى أنّ تصوّر كلّ فاعل مختار لنتيجة فعله وكماله عمله متقدّم علماً على ثبوت تلك الغاية ، وهي متأخّرة عنه عيناً . فإذا كان هذا هكذا ، فنقول : لمّا كان الله سبحانه مبدأ كلّ شيء وغايته ، وأوّل كلّ فكر وذِكْر ونهايته ، وظاهر كلّ موجود وباطنه ، فالأوّل فيه عين الآخر ، والباطن عين الظاهر ، والعلم هناك عين العين ، فقد صحّ كلّ من الوجهين في الذكر له ، وهذا أيضاً من العلوم المختصّة بأحبّاء الله ومشتاقيه المجذوبين إليه - هذا . ولنرجع إلى ما كنّا فيه من بيان مراتب الذكر والذاكر ، ونتيجة كلّ مرتبة ، فنقول : أمّا مراتب الذكر والذاكر : فذكر اللسان ، وذكر الجوارح والأركان ، وذكر النفس ، وذكر القلب ، وذكر الروح ، وذكر السرّ . وأمّا تعيينها وتعيين نتائجها : فذكر اللسان : الإقرار ونتيجته احتقان الدم والمال بالأمان ، فاذكُروني بالايمان أذكركم بالأمان . وذكر الأركان : باستعمال الطاعات والعبادات للوصول إلى المثوبات ، فاذكروني بالطاعات أذكركم بالمثوبات . وذكر النفس : بالاستسلام للأوامر والنواهي للفوز بنور الإسلام ، فاذكروني بالإستسلام أذكركم بنور الإسلام . وذكر القلب : تبديل الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الكريمة ، للتشبّه بالحقّ ، والإنخراط في سلك أحبّائه والاتّصال بجنابه ، فاذكروني بالأخلاق أذكركم بالاستغراق . وذكر الروح : بالتفريد والمحبّة لحصول المعرفة والحكمة ، فاذكروني بالتفريد والمحبّة ، أذكركم بالتوحيد والقربة . وذكر السرّ : ببذل الوجود لوجدان المعبود ، فاذكروني ببذل الوجود والفناء ، أذكركم بنيل الشهود والبقاء . وهذا حقيقة قوله في الحديث القدسي : " وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي " وهذا هو لبّ الألباب ، وهو الذكر الحقيقي والغاية الأخيرة لما في الخطاب ، وهو يجعل الذاكر مذكوراً ، والمذكور ذاكراً ، بل الذكر والمذكور والذاكر واحداً ، كما قال سبحانه : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . كما قال قائلهم : @ رقّ الزجاج ورقّت الخمر فتشابَها وتشاكل الأمر فكأنّه خمر ولا قَدَح وكأنّها قَدَح ولا خمرُ @@ فافهمه واعلم قدره . فإذا تقرّر ذلك فقوله : " واذكُروا الله كَثيراً " يحتمل الجميع ، وكذا قياس ما هو نتيجة له بحسب الأقسام من قوله : " لعلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " فلكلّ ذكر من أقسام الأذكار فلاح يناسبه معناه ، فاذكروا الله باللسان لعلّكم تفلحون بالاطمئنان والأمان ، وبعمل الأركان لعلّكم تفلحون بالوصول إلى مثوبات الجنان ، وبالنفس بالاستسلام لعلّكم تفلحون بنور الإسلام ، وبمحبّة القلب لعلّكم تفلحون بمعرفته وحكمته ، وبالسرّ من جهة الفناء فيه لعلّكم تفلحون بنيل شهوده وجماله ، والبقاء به بعد الفناء فيه . هداية عرفانية المراتب المختصة بهذه الأمة من الذكر اعلم أنّ مراتب الذكر كمراتب الحكمة ، إمّا متعلّقة بذات الله أو صافته أو أفعاله . فنقول : ذكر الذات فضيلة مختصّة بفضلاء هذه الأمّة دون غيرهم ، وكذا جزاء الذكر بالذكر المستفاد من قوله : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] فضيلة مختصّة بهم دون سائر الأمم ، والدليل عليه قوله تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 122 ] فقد أمر هذه الأمّة بذكر الذات ، كما أمر الله موسى ( ع ) بذكر النعماء . وذلك لأنّ معارج الفكر والذكر والشهود لم تتجاوز في الأمم السابقة من طبقات الأفلاك وما فيها ، ومثوبات اقتصرت على نيل درجات الجنان ، وأمّا فضلاء هذه الأمّة - رضوان الله عليهم - فلهم أن يتّخذوا مع الرسول سبيلا ، ويتجاوزوا بمتابعته عن عالَم الخلق ، بل الأمر ، ليكون هاديا لهم ودليلا . @ بهمراهى خواجه انس وجان توان برشدن تابأقصى الجنان @@ فافهم وتدبّر . الاشراق الثالث أعلى مراتب الذكر لمّا قرع سمعك مراتب الذكر ودرجات الذاكر ، ونتيجة كلّ مرتبة ، وأنّ بعضها فوق بعض فوقيّة الشرف والذات ، إلى حيث يصير الذكر والذاكر والمذكور شيئاً واحداً ، فاعلم أنّ ذلك إنّما يتصوّر بأن يتمكّن المذكور في القلب تمكّناً شديداً ، وحصولا مشرقا نوريّا ، بحيث ينمحي الذكر أو يخفى ، ولا يلتفت القلب إلى الذكر أصلاً ، ولا إلى الذاكر - أي القلب نفسه - بل تستغرق جملته في المذكور ، ومهما ظهر له في أثناء ذلك التفات إلى الذكر يكون ذلك حجاباً عن المقصود وهوّيته بالنسبة إلى الغاية الأصلية ، وذلك بأن يغيب عن نفسه حتّى لا يحسّ بشيء من ظواهر جوارحه ولا من العوارض الباطنة فيه ، بل يفنى عن جميع ذلك ، ويغيب عنه جميع ذلك ذاهباً إلى ربّه أوّلاً ، كما قال الخليل - على نبيّنا وعليه السلام - فيما حكى الله تعالى عنه : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي } [ الصافات : 99 ] - ثمّ ذاهباً فيه كما يومئ إليه قوله : { سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] فإنْ خَطَرَ له في أثناء ذلك أنّه ذهب إلى ربّه وفني عن نفسه ، وغاب عن ذاته ، فذلك سكون عن الذهاب في الجملة ووقوف مع النفس ، فهو شوب وكدورة ، بل الكمال في أن يفنى عن نفسه ، ويفنى عن الفناء أيضاً ، فالفناء عن الفناء غاية الفناء ونتيجته البقاء . والغيبة عن الغيبة كمال الغيبة وفائدته الحضور . وهذا يظنّه الفقيه الرسمي أنّه مجرّد ألفاظ بلا طائل ، أو طامّات غير معقولة - وليس كذلك - بل هذه الحالة للعرفاء الكاملين - بالإضافة إلى مقصودهم - كحالته بالقياس إلى أكثر مطالبه ممّا يحبّه كثيراً من جاه أو مال ، أو تقرّب من سلطان ، أو تفوّق في البحث على مشارك أو غير ذلك ، فإنّه قد يصير مصروف الهمِّ مستغرَقاً لشدّة الغضب بالفكر في عدوّ أو منازع له في علمه أوجاهه عند الناس ، أو مسغرقاً لشدّة الشهوة بالفكر فيما هو معشوقه ، حتّى لا يكون فيه متّسع لإدراك آخر ، فعند ذلك الحال ربما يخاطب ولا يفهم ، ويجتاز بين يديه غيره فلا يراه وعيناه مفتوحتان ، ويتكلّم عنده ولا يسمع وما باذُنه صمَم وهو في هذا الاستغراق غافل عن كلّ شيء ، وعن الاستغراق أيضاً ، فإنّ الملتفت إلى الاستغراق غافل عن المستغرق فيه . وإنّما سمّوا هذه الحالة فناءً - وإن كان الشخص والظلّ باقياً - لأنّ الأشخاص والأظلال بل سائر المحسوسات ليس لها حقيقة الوجود ، بل وجودها كحكايات المرائي والظلال ، وإنّما الوجود الحقيقي لعالم الأمر والملكوت ، والقلب من عالم الأمر ، قال الله تعالى : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] . والقوالب من عالم الخلق ، وليس هذا إشارة إلى قِدَم الروح وحدوث القالب ، بل هما جميعا حادثان ، وإنّما أعني بعالَم الخلق ما يقع فيه التقدير والمساحة وهي الأجسام وصفاتها ، وبعالَم الأمر ما لا يتطرّق إليه التقدير والمساحة . ونحن خاصّة قد بيّنَا ذلك وبرهنّا على أنّ المقدار الاتّصالي - جوهراً كان أو عَرَضا - غير موجود في نفسه ، وعلى أنّه مناط الجهالة والنسيان ، كما أنّه مناط العدم والفقدان ، لزوال كلّ جزء ، وغيبة كلّ بعض عن كلّ بعض ، وعن الكلّ أيضاً ، فالعالم الجسماني ليس وجوده إلاّ كوجود الظلّ ، فهو من العالَم العقلي كالظلّ من الشخص ، فكما ليس لظلّ الشخص حقيقة الشخص ، فليس للشخص - أي الجسم - حقيقة الوجود ، بل هو ظلّ حقيقة الوجود ، والكلّ من صنع الله { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [ الرعد : 15 ] وسجود عالم الأمر لله طوع ، وسجود الظلال كره ، وتحت هذا سر بل أسرار يحرّك أوائلها سلسلة المجانين والحمقى فضلا عن أواخرها . الإشراق الرابع أحوال الذكر ومراتب سلوكه إذا فهمت معنى مراتب الذكر والذاكر ، وفناء الذاكِر بحسب المرتبة الأخيرة في المذكور ، فإيّاك والاستنكار والتكذيب بما لم يحط به علمك ، ولم تحط بعلمه ، كما قال سبحانه : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [ يونس : 39 ] . وقال أيضاً : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] . واعلم : أوّل الأمر هو الذهاب إلى الله ، وإنّما الهدى بعده كما مرّ ذكره في قوله تعالى حكاية عن الخليل ( ع ) : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، فأوّل الأمر ذهاب إلى الله ، ثمّ ذهاب في الله تعالى ، وذلك هو الفناء والاستغراق به ، ولكن هذا أوّلاً يكون كالبرق الخاطف قلّما يدوم ويثبت ، فإن دام وصارت مَلَكة راسخة وهيئة ثابتة عرج به إلى العالم الأعلى ، وطالع الوجود الحقيقي للمولى ، وانطبع فيه نقش الملكوت ، وتجلّى لذاته قدس اللاهوت . وأوّل ما يتمثّل له من ذلك العالَم جواهر الملائكة وأرواح الأنبياء والأولياء ( ع ) في صوَر جميلة يفيض بواسطتها عليه بعض الحقائق ، وذلك في البداية إلى أن تعلو درجته عن المثال ، فيكافح بصريح الحقّ في كلّ شيء ، فاذا ردّ إلى العالم المجازي وجواهره التي هي كالظلال ، ينظر إلى الخلق نظر مترحّم عليهم لحرمانهم عن مطالعة جمال حضرة القدس ، ويعجب من أصحاب الفهوم الفكريّة وأرباب العلوم والعقائد الجزئيّة وقناعتهم بالظلال ، وانخداعهم بعالَم الغرور والخيال ، مع ما كان لهم أوّلاً من الاستعداد لطلب الكمال والارتقاء إلى عالَم الحقّ المتعال ، فأفسدوه بانكبابهم على أغراض هذا الأدنى ، وإعراضهم عن الطريق المثلى ، وانحرافهم عن مطالعة آيات الله الكبرى ، ومع ذلك فيعاشرهم ويخالطهم بالظاهر ، ويكون البُعد بينه وبينهم بحسب الباطن كما بين المشرق والمغرب ، فيكون معهم حاضراً بشخصه غائباً بقلبه ، تعجّب هو من حضوره ويتعجبون من غيبته لو تفطّنوا . فهذه ثمرة لباب الذِكر ، وإنّما مبدؤها ذِكر اللسان ، ثمّ ذكر النفس تكلّفاً ثمّ ذكر القلب طبعاً ، ثمّ استيلاء المذكور على الروح ، ثمّ انمحاء الذكر عن السرّ حقيقة . وهذا سرّ قوله : { وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . وسرّ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " من أحبَّ أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " . بل سرّ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فضل الذكر الخفيّ على الذكر الذي يسمعه الحَفَظة سبعين ضِعْفاً . فإنّ كلّ ذلك يشعر به قلبك فيسمعه الحَفَظة ، وذلك لأنّ شعورهم يقارن شعورك كما يعلمه الراسخون في الحكمة ، حتّى إذا غاب ذكرك من شعورك بسبب ذهابك في المذكور بالكليّة ، فيغيب ذكرك عن شعور الحَفَظة ، وما دام القلب يشعر بالذكر ويلتفت إليه ، فهو معرض عن الله ، وغير منفكّ عن شرك خفيّ حتّى يصير مستغرقاً الواحد الحقّ ، فذلك هو التوحيد ، كذلك المعرفة إذ هُما واحد كما علمت . قال بعض العارفين في مقاماته : من آثر العرفان للعرفان فقد قال الثاني ، ومن وجد العرفان كأنّه ما وجده ، بل وجد المعروف به فقد خاض لجّة الوصول ، أي هو الذي استمكن من حقيقة الوِصال ، وحلّ بحبوحة القُدس . فهذه أمور نبّهت عليها لتكون متشوّقا إلى أن تصير من أهل الذوق والمحبّة بها ، فإن لم تكن ، فمن أهل العلم بها ، فإن لم تكن ، فمن أهل الإيمان بها إيماناً بالغيب : { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] . وإيّاك وأن تكون من المنكرين لها فتلقى العذاب الشديد إذا كوشفت بالحقّ عند ملاقاة سكَرات الموت الذي كنت منه تحيد ، وقيل : لك : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] .