Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 62, Ayat: 3-3)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفيه ظلال فَرْشيّة وإشراقيات عَرْشيّة . ظلّ فَرْشي في الإعراب قوله : { وَآخَرِينَ } صفة لمجرور معطوف على الأمّيين ، يعني إنّه بعث في الأمّيين ، وفي من يجيء بعدهم إلى يوم الدين . وفي الكشّاف : يجوز أن ينتصب عطفاً على المنصوب في " يُعلِّمهم " ، أي : يعلّمهم ويعلّم آخرين ، ووَجّه ذلك بأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوّله ، فكأنّه هو الذي تولّى كل ما وجد منه . واعلم أنّ هذا الوجه الذي ذكره في كون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معلّما لكلّ من يجيء إلى يوم القيامة - وإن كان موجّها على طريقة أهل الحجاب وأرباب العقول النظريّة وحَمَلة الكتاب ، كقول أصحاب الحكمة الرسميّة في أرسطو : إنّه معلّم أوّل لمن يجيء بعده من أتباع المشّائين من الفلاسفة - ، إلاّ أنّ أصحاب العيون المكحلة بأنوار الإهتداء ، العارفين بحقيقة خاتم الأنبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يرون ببصيرتهم السليمة عن غشاوة الامتراء ، أنّ إمداد روحه وسرّه نافذ في تقويم أرواح من لحقه من الأولياء والعلماء ، إلى قيام المهدي ( ع ) ، بل في أرواح من سبقه زمانا من الأنبياء والحكماء من وقت آدم من جهة السبب الباطني الفاعلي والغائي جميعا . وقد بيّن هذا في موضعه . إشراق المراد من الآخرين قيل : هم الذين لم يلحقوا بالأمّيين بعد وسيلحقون بهم ، وهم الذين بعد الصحابة من التابعين . وقيل : هم الذين يأتون من بعدهم إلى يوم القيامة ، فإنّ الله سبحانه بعث النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم ، وشريعته تلزمهم وإن لم يلحقوا بزمان الصحابة - عن مجاهد وابن زيد - . وقيل : هم الأعاجم ومن لا يتكلّم بلغة العرب ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مبعوث إلى من شاهده ، والى كلّ من بعدهم من العرب والعجم - عن ابن عمر وسعيد بن جبير وهو المرويّ عن أبي جعفر ( ع ) - . وقيل : " لمّا نزلت هذه الآية ، قيل : مَن هم يا رسول الله ؟ فوضع يده على كتف سلمان وقال : لو كان الإيمان في الثريّا لناله رجال مِن هؤلاء " . وعلى هذين الوجهين فإنّما قال : " مِنهُم " لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم ، كما قال : " المسلمون كلّهم يد واحدة على مَن سواهم وأمّة واحدة وإن اختلفت أنواعهم " وكما قال سبحانه : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] . ومن لم يؤمن بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فانّهم ليسوا ممّن عناهم الله بقوله : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } - وإن كان مبعوثاً إلى كافّة الخلق بالدعوة ، وبقوله : { وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 164 ] - فإنّ من لم يؤمن لم يكن ممن زكّاه الله تعالى وعلّمه القرآن والحكمة . وقيل : إنّ قوله لمّا يلحقوا بهم - يعني في الفضل والسابقة ، فإنّ التابعين لا يدركون سيادة السابقين من الصحابة وخيار المؤمنين - تأمّل - . إشراق عرشي تحقيق الكلام وتلخيص المرام في هذا السبق واللحوق : أنّ الناس في الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيّين والكتب والأئمّة والدنيا والآخرة وعالَم البرزخ - وغير ذلك - على ثلاث طبقات : لأنّهم إمّا أن ينالوا ذلك بإلهام الله ووحيه من غير تعليم بشريّ أصلاً ، أم لا . فالأوّل مرتبة الأنبياء - صلوات الله عليهم - . واما الثاني فلا يخلو ، إمّا أن يصلوا إلى مقام الاستفاضة من الله بحسب التابعية بلا تعمّل فكريّ أم لا . فالأوّل مرتبة الأولياء ذوي الاستبصار والثالث مرتبة الحكماء والعلماء النظّار . وأمّا أهل التقليد : فهم بمعزل عن البلوغ إلى حقيقي الإيمان ، بل إنما يصلون إلى شبَح منه ، فينالون في الآخرة ضرباً من رحمة الله وتفضّله بحسب ما تصوّروه من هذه المعارف على سبيل التمثيل وبحكم : " مَن تشبَّه بقوم فهو منهم " . يحشرون في القيامة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين ، فحياتهم الأخروية بالعرض كحياة الشَعر والظفر من الإنسان ، فإنّ الحياة القائمة بنفس الإنسان وروحه تسري في أعضائه الحسّاسة قصداً وفي غيرها تبعاً . إذا تقرّر هذا فنقول : السابقيّة في الإيمان هي مواضع من القرآن - كقوله : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 10 - 11 ] إشارة إلى مرتبة أولياء هذه الملّة في الإيمان واللاحقيّة فيه إشارة إلى مرتبة علمائها قبل وصولهم إلى مرتبة الكشف والعيان ، وهم المشار إليهم بأصحاب اليمين ، وأمّا مجرّد السابقيّة واللاّحقيّة بين المؤمنين في الزمان ، فليس فيه كثير تفاضل بحسب نفس الأمر ، وقد تعاظم وتقدّس كتاب الله عن أن يعتبر فيه تقادم الأزمنة والآجال بين الناس في تفاضل أحوال الرجال ، بل يجب أن يكون ملاك الأمر في ذلك تفاوت القرب والبُعد من الحقّ المتعال ، ودرجات شدّة انقطاع النفس عن هذه الدنيا الفانية منزلة الجهّال والأرذال .