Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 62, Ayat: 5-5)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفيه إشراقات : الأوّل في الغرض المسوق إليه هذا التمثيل إنّ الله تعالى قد مثّل الذين حُمّلوا الكتب السماويّة وكُلّفوا القيام بها والعمل بموجبها ، وهم لم يحملوها حقّ حملها من أداء حقّها ، ولم يتدبّروا فيها ولم ينظروا بعين الاستبصار والاعتبار ، بل حفظوها بالتكرار لفظاً ، ودوّنوها في الأسفار لأغراض عاجلة لهم في هذه الدار ، ثمّ لم يعملوا بما فيها ، بالحمار الذي يحمل أسفارا ، لأنّ الحمار الذي يحمل كتب الحِكمة على ظهره ، لا يشعر بما فيها ، فمثَل من يحفظ الكتاب ولا يدرك أسراره ومعانيه فلا يعمل بمؤدّاه ومقتضاه ، كمثَل دابّة تحمل على ظهرها الكتب - لا تعلم بما فيها - . قال ابن عبّاس : فسواء حمل على ظهره أو جحده إذا لم يعمل به . وعلى هذا ، فمن تلا القرآن ولم يفهم معناه ، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، فكان حَرِياً بهذا المثل ، وكذا من تدبّر في إعراب إلفاظه ودقائق عربيّته ونكاته البديعيّة ، وهو بمعزل عن أسرار حكمته ومقاصده الأصليّة من المعارف الإلهيّة ، والعلوم الربّانيّة ، وأسرار المبدأ والمعاد وعلم الروحانيّين والملائكة والشياطين ، وكيفيّة الوحي والتنزيل ، وعلم النفس ومعرفة الروح ، وورودها إلى هذا العالم ، وردّها إلى أسفل سافلين ، ثمّ عودها ورجوعها إلى باريها ومبقيها إمّا راضية مرضيّة إن آمنت وعملت الصالحات ، أو ناكِسة منكوسة منحوسة محجوبة مظلمة إذا جحدت وعملت السيئّات ، وكيفيّة نشو الآخرة من الدنيا ، وأحوال القبر والبعث والحشر والنشر ، إلى غير ذلك من المعارف التي هي الغرض الأصلي من إنزال الكتاب والوحي والإلهام والخطاب . فلمن لم يطّلع من القرآن إلاّ على تفسير الألفاظ وتبين اللغات ودقائق العربيّة والفنون الأدبيّة ، وعلم الفصاحة والبيان وعلم بدائع اللسان ، وهو عند نفسه انّه من علم التفسير في شيء ، وانّ القرآن انّما انزل لتحصيل هذه المعارف الجزئيّة ، فهو أحرى بهذا التمثيل ممّن لا خبر له أصلا ، لا من إعراب الألفاظ ولا من حقائق المعاني ، مع اعترافه بعجزه وقصوره . وممن أَنشد في هذا الباب شعراً أبو سعيد الضرير حيث قال : @ زوامل للأسْفار لا علم عندهم بجيّدها ، إلاّ كعلم الأباعر لعمرك ما يدري المطيُّ إذا غدا بأسفاره إذ راح ما في الغرائر @@ وفي قوله : بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله - ، تنبيه بليغ على كليّة هذه القضيّة ، وحقّية هذا المَثل ، من غير اختصاصها بشأن اليهود الذين كذّبوا بالآيات الدالّة على إعجاز القرآن ، وجلالة قدر محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بل كلّ من جحد ما وراء فهمه ، وأنكر ما سوى ما أخذه من معلّميه وأشياخه على غير بصيرة ، أو وصل إليه من ظواهر النقول والروايات ، فهو حقيق بهذا التمثيل ، بالقياس إلى ما جحده وأنكره عند التحقيق . الإشراق الثاني المقصود من المثَل إنّ قوله : بئس مَثَل القوم الذين كذّبوا بآيات الله - ، معناه : بئس القوم قوم مثلَهم هذا ، لأنّ اليهود إنّما صاروا مذمومين مطرودين عن باب الله ، لإنكارهم حقيّة الرسول ، وإعراضهم عن مطالعة آيات الله ، وجحودهم لما سمعوا من الحقائق الإيمانيّة والمعارف الربّانية التي لم تبلغ أفهامهم إليها من قبل ، ولم تُسْمَع من شيوخهم الماضين ومعلّميهم وآبائهم السابقين كما حكى الله عنهم بقوله : { مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 24 ] - الآية - . وكلّ مَن هذا صفته بالنسبة إلى أهل الحقّ وأصحاب الحكمة القرآنيّة في وراء معلومه وفوق مفهومه ، من الإعراض والإنكار اغتراراً بظواهر الآثار وما سمعه وتلقّفه من أشياخه ومعلّميه ، أو إعجاباً بما حصَّله بالبحث والتكرار من غير استكشاف واستبصار ، فهو داخل في هذا الحكم ، ومكذَّب لأيات الله بالحقيقة ، لأنّ مقاصد أهل الله هي بعينها معارف الكتاب والسنّة ، وهو حَرِيّ بهذا التمثيل ، لأنّه - وإن لم يكن يهوديّ النِحْلة - لكنّه يهوديّ الخصلة . فكما أنّ القدريّة مجوس هذه الأمّة ، فالظاهريّة والمشبّهة يهود هذه الأمة ، والباطنيّة نصرانيّو هذه الأمّة ، فإنّ جميع المذاهب القديمة توجد في أمّة نبيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بواحد يزيد عليها - وهي الفرقة الناجية - والباقون في النار ، كما دلّ عليه الحديث المشهور . وهذه الفرقة الناجية في غاية الخمول والخفاء والندرة والإنزواء . الإشراق الثالث المؤمن الحقيقي هو العارف الرباني إنّ المؤمن الحقيقي من يكون من الحكماء الإلهيّين والأولياء الربّانييّن ، وإنّ غيرهم إمّا من أهل الإغرار وحَمَلة الأسفار ، ومتحمّلة الأوزار ، المنسلخين عن الفطرة الأصليّة كالحمار ، المقيّدين بسلاسل تعلّقات هذه الدار ، لا يهديهم الله لظلمهم وفسادهم سبيلاً للارتقاء إلى دار القرار ، ولا يوفّقهم للنجاة من منازل الأشرار ومهاوي الفجّار إلى عالَم الأسرار ومعدن الأبرار . وإمّا من أهل السلامة والتسليم ، والطاعة والانقياد من غير جحود ولا إنكار ولا استنكار ، لبقائهم على فطرتهم الأصليّة ، ونقاء صحائف خواطرهم وأذهانهم عن نقوش الأقاويل المظلمة المضلّة ، فهم من أهل الرحمة والنجاة ، الذين ينالهم ضَرْب من الرحمة الواسعة التي وسعت كلّ شيء . والدليل على ما ادّعيناه ، من كون المؤمن الحقيقي هو العارف الربّاني والحكيم الإلهي ، ممّا يستفاد من هذه الآيات على أتّم وجه وأوضحه ، فإنّ ما ذكره تعالى في علّة البعثة وغاية الرسالة من قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ الجمعة : 2 ] - يدلّ دلالة واضحة على أنّ نتيجة البعثة دعوة الخق إلى العلم والحكمة ، وأنّ الإيمان بالله والرسول عبارة عن تعلّم الكتاب والحكمة بالحقيقة لا بالمجاز ، وإلاّ لكان الإيمان إيماناً بالمجاز ، فيكون المؤمن المجازي مسلوباً عنه الإيمان الحقيقي ، كما هو قاعدة إطلاق اللفظ على سبيل المجاز . فثبت أن الإيمان الذي كون فائدة البعثة وثمرة إنزال القرآن ، عبارة عن صيروة كون العبد المسلم حكيما عارفاً بحقائق ما في الكتاب ، - لا بمجرّد حفظ الألفاظ وتكرارها ، ولا بمجرّد تفسير العربيّة ونكاتها البديعيّة - فإنّ معرفة ألفاظ العرب ودقائق علم البيان ، ليس من مقصود علم القرآن من شيء ، بل المقصود سياقة الخلق إلى جوار الله بالعلم بحقائق الأشياء ، والتجرّد عن علائق الدنيا ، وهو لا يحصل بمجرّد الاطّلاع على علم العربيّة والكلام ، والقرآن إنّما نزل بلغة العرب ليكون أوضح دلالة وأفصح بيانا ، إذ لا يكون في دقّة الألفاظ وغرابة أبنية الكلام فائدة يعتدّ بها كما دلّت عليه آيات كثيرة مثل قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ يوسف : 2 ] وقوله : { وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] . الإشراق الرابع طهارة القلب واستكماله بفضل الله ثمّ لمّا بيّن فائدة البعثة وثمرة الرسالة - وهو تزكية الأمّة بإصلاح الجزء العملي من نفوسهم ليكونوا صلحاء حلماء ، وتعليمهم الكتاب والحِكمة بتكميل الجزء العمليّ منها ليكونوا علماء حكماء - ، أشار إلى أنّ طهارة القلب عن رذائل الصفات ، واستكماله بمعارف الآيات الإلهيّات ، من فضل الله يؤتيه من يشاء ، أي لا بدّ فيه من سابقة عناية أزليّة ، وهداية إلهيّة ، وجذبة ربّانيّة لا يوازيها عمل وكسب ، وهي من الحكمة التي من يؤتَها فقد أُوتي خيراً كثيراً ، يعني أنّ ذلك مزيّة نوارنيّة ونعمة روحانيّة لا تناط بكثرة التكرار آناء الليل وأطراف النهار ، ولا بحمل الكتب والأسفار ، لا بطول المراجعة إلى أهل الاشتهار والتبسّط في البلاد والديار طلباً لحطام هذه الدار ، كما هو عادة المشتغلين بكسب الشيخوخة ورياسة المذهب ، وشيمة طلاّب الافتخار قصداً للجمع والإكثار ، مع اشتباه واغترار بأنّ ما فهمه من علم الدين وأسرار اليقين . ومنشأ هذه الغلظة وبذر هذا النفاق ، هو حبّ الجاه الذي يعمي القلب عن رؤية الحقائق ، ويصمّ السمع عن الشعور بغير ما يتوسّل به إلى تحصيل المنزلة عند الناس ، فإنّ من غلب على قلبه حبّ الجاه وميل الثروة ، صار مقصور الهمِّ على مراعاة الخلق ، ولا يزال في أقواله وأفعاله ، وتحصيله ظواهر العلوم واتيانه بصور العبادات والخيرات ، متلفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم ، وربما يهمّ ويشتهي أن يجمع الدنيا مع الدين ، ويراعي الخلق مع الحق بظنّه الفاسد وطمعه الكاسد ، انّ ذلك أمر ممكن . ولا يدري الجاهل المسكين أنّ ذلك بذر النفاق ، ومادّة الفساد ، وسبب الجحود والعناد في العلوم ، ومنشأ المراءاة في النسك والعبادات للتوسّل بها إلى اقتناص القلوب وجلب خواطر الخلق . ثمّ لا يدري السفيه أنّ مَن أراد أن يجمع بين الدين والدنيا صار في آخر الأمر بحيث لا دين له ولا دنيا . على أنّ الدنيا لا حقيقة لها عند العقلاء ، بل هي من قبيل الأوهام والأحلام وصورة المرايا والظلال . وقد شبّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حبّ الجاه والشرف وافسادهما للدين بذئبين ضاريين - كما هو المرويّ عنه في كتب العامّة والخاصّة - . وهذا الحديث روي عن بعض ساداتنا المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - في مدح صفوان بن يحيى حيث قال : ما ذئبان ضاريان قد وقعا في غنم غاب عنها رعاؤها بأضرّ في دين المسلم من حبّ الرياسة لكن صفوان لا يحبّ الرياسة . وروى عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّه قال : " حبّ الجاه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقلَ " . فعلم أنّ حبّ الجاه والشهرة من المهلكات التي لا يمكن النجاة لأحد منها ، وإهلاكه وإفساده للمغترّين بظواهر العلوم أشدّ وأكثر من إهلاكه للمتغرّين بظواهر الأعمال ، بقدر التفاوت بين قبح الكفر الذي هو ضرب من فساد العلم ، وبين الفسق الذي هو ضرب من فساد العمل ، ومن الأمور الواضحة المستبينة عند أرباب الإطلاع على كيفيّة تحصيل المعارف اليقينيّة ، أنّ حبّ الجاه وحبّ التكبر يحجب القلوب عن مطالعة الآيات ومشاهدة الحقائق ، كما قال الله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } [ الأعراف : 146 ] . ثمّ انظر أنّه تعالى كيف أشار إلى أنّ المؤمنين هم أولياء الله والحكماء والإلهيّون ، وأنّ المتغرّين بظوهر الآثار من الفجّار والمنافقين حيث أثبت أولاً أغراض الرسالة وفائدة البعثة ، وأنّهما تصفية القلوب من الجهل والرذائل ، وتكميلها بعلم الكتاب والحكمة التي هو رئيس الفضائل . ثمّ ضرب الله مثلاً لليهود ومَن يجري مجراهم الحمار في حملهم الكتب والأسفار ، وتركهم التدبّر والإعتبار ، وإنكار ما ورد من آيات الله على ألواح أنبيائه ، وجحود ما قذف من أنوار الله في قلوب أوليائه وأحبّائه . ثمّ أشار بعد لك إلى بطلان زعمهم وفساد ادّعائهم انّهم من أولياء الله وأحبّائه ، أنّهم لو كانوا كذلك لوجب أن يعرضوا عن الدنيا وطيّباتها ويحبّوا الموت ، لكونه وسيلة إلى لقاء الله ، ولا يكونوا أحرص الناس على حياة هذه النشأة الجسمانيّة ، وحيث إنّهم كانوا على أضداد صفات أولياء الله والحكماء ، فقد علم أنّهم من أعداء الله تعالى ، المنكرين للدار الآخرة وعالَم الغيب وعالَم الأرواح ، الكارهين لقاء الله ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءَه لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون . كلاّ إنّهم يومئذ عن ربِّهم لمحجوبون . { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] . الإشراق الخامس فهم القرآن كلّ من اكتفى بظاهر العربيّة ، وبادَر إلى تفسير القرآن بمجرّد نقل الكتب وحمل الأسفار ، من دون الارتقاء إلى عالم الأنوار وفقه الأسرار ، ونقاء السريرة من أغراض هذه الدار ، وخلاص القلب عن غشاوة هذه الآثار ، فهو حريٌّ بهذا التمثيل ، فإنّ الاطّلاع على ظاهر العربيّة وحفظ النقل عن أئمّة التفسير في ترجمة الألفاظ ، لا يكفي في فهم حقائق المعاني ، ومن أراد أن ينكشف له أنّ هذه المرتبة ليست من مرتبة إدراك المعاني القرآنيّة ، والاطّلاع على حقائقها ، فليتأمّل في مسألة واحدة منها ، وعجز المفسّرين عن دركها ، ليقيس عليها غيرها ، وهو أنّ الله تعالى قال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . وظاهر تفسيره واضح جلي ، وحقيقة معناه في غاية الغموض ، فإنّه إثبات للرمي ونفي له ، وهما متضادّان في الظاهر ما لم يفهم أنّه رمى من وجه ولم يرم من وجه ، ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله تعالى ، ثمّ يفهم انّه ما جهة الوحدة والهوهوية ، وما جهة الغيريّة والكثرة . وكذلك قال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] . فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله هو المعذّب ، وإن كان الله هو المعذّب بتحريكهم فما معنى أمرهم بالقتال ؟ فالتحقيق في مثل هذا المقام يحتاج إلى العلوم المتعالية عن علوم المعاملات ، ولا تغني عنه علوم العربيّة وتفسير الألفاظ ، ولعلّ العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدّماته ولواحقه ، لانقطع العمر قبل الوصول إلى الإحاطة بجميع لواحقه ، والقرآن مشحون بأمثاله ، بل ما من كلمة من القرآن إلاّ وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك ، وإنّما ينكشف للعلماء الراسخين في العلم من أسراره وأنواره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفّر دواعيهم على التدبّر وتجرّدهم للطلب ، ويكون لكلّ واحد حدٌّ في الترقّي إلى درجة منه ، فأمّا الاستيفاء التامّ فلا مطمع لأحد فيه ، ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً والخلائق كتّاباً لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله ، فأسرار كلماته وأنوار آياته ممّا لا نهاية لها ولا بداية ، فمن هذا الوجه يتفاضل الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير . فقِس على هذا المثال جميع ما ورد في الكتاب والسنّة ، ولا تغتّر بما سمعته وتلقّفته من معلّميك في أوان الجاهليّة وزمان الاحتجاب ، فإنّها كلّها تماثيل وأشباح للحقائق - إن لم تكن أغلاطاً فاسدة - ، وإنّها قوالب وصور بلا معنى إن لم تكن أوهاماً باطلة ، وظواهر أعمال بلا فائدة تبقى ، وخيال أشخاص من غير صورة بها تحيى ، ومثال أشجار بلا ثمرة تجنى ، وحبال وعصيٌّ يخيّل من سحْرهم انّها حيّة تسعى - { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 103 - 104 ] . ومن الأمثلة أيضاً في فهم الأسرار والأنوار المودعة في ألفاظ القرآن والحديث ، ما ذكره بعض أصحاب القلوب في معنى قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سجوده : " أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيتَ على نفسك " . وهو انّه لمّا قيل له : { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [ العلق : 19 ] . فَوجَدَ القُرب في سجوده ، فنظر إلى الأفعال فاستعاذ من بعضها ببعض ، ثمّ زاد في قُربه فنظر إلى الصفات فاستعاذ من بعضها ببعض ، فإنّ الرضا والسخط صفتان ، ثمّ زاد في قربه واندرج القرب الأوّل فيه فترقّى إلى الذات وقال : أعوذ بك منك . ثمّ زاد قربه واستحيى عن الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله : لا أحصي ثناء عليك ، ثمّ علِم أنّ ذلك قصور فقال : أنت كما أثنيت على نفسك . فهذه وأمثالها خواطر تفتح لأرباب المعاني وأصحاب القلوب ، ثمّ لها أغوار وأسرار وراء هذا المعنى وهو معنى فهم القرب واختصاصه بالسجود ، ومعنى الاستعاذة من فعل إلى فعل ، ومن صفة إلى صفة ، ومنه به . وأسرار ذلك كثيرة ، ولا يدلّ ظاهر تفسير اللفظ عليها ، ومع ذلك فليس مناقضاً لظاهر التفسير ، بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن قشره ، فإنّ للقرآن حقيقة كالإنسان ، وله قشران ولبّان كالجوز ، ولكلّ منها مراتب كثيرة حسب تعدّد النشآت ، وكما أنّ الإنسان الحسّي صنم لسائر مراتبه ، واقع في أوّل درجات الإنسانيّة ومراتبها ومعارجها ، وأعلى منه الإنسان المثالي ، ثم الإنسان النفسي ، ثم العقلي كالحكماء ، ثمّ الإلهي كالمتألّهين من العرفاء والأولياء فهكذا يجب أن يعلم مراتب فهم القرآن فكلّ أحد لا يفهم إلاّ بما يتحقّق فيه . والقرآن بحسب حقيقته الأصليّة خُلُق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلّ ما فهمه المفسّرون ، ويصل إليه إدراكهم ظل من ظلاله القريبة والبعيدة ، وشبح من أشباحه العالية والدانية - فافهم هذا واغتنم - .