Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 99, Ayat: 1-1)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كلمة " إذا " يراد بها الوقت ، ووقت الآخرة ليس كهذه الأوقات الدنيويّة ، كما أنّ يومها وساعتها ليس كأيّام الدنيا وساعاتها المضبوطة بحركات هذا الفلك الأقصى ، إذ نسبة يوم الآخرة إلى هذه الأيّام ، كنسبة الروح الأعظم إلى هذه الأرواح الجزئيّة ، وذلك اليوم الحقّ الذي فيه يمترون . ومن خواصّ ذلك اليوم ، أن مقداره بالقياس إلى طائفة خمسون ألف سنة : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] وبالقياس إلى طائفة كلمحة واحدة : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] . فهذا الوقت المدلول عليه بكلمة " إذا " هنا يستوعب سائر الأوقات والأزمنة والساعات ، وهو بعينه قد وقع ظرفاً لزلزلة الأرض ، والأصل في الظروف الزمانيّة والمكانيّة أن تطابق مظروفاتها ولوازمها من الحركات والأجرام . وقد بيّن في العلوم القرآنيّة والمعالم البرهانيّة ، أنّ الأرض وما فيها دائمة الحركة ، فقوله : إذَا زُلْزِلَت - ، من قبيل قوله : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] فكما أنّ طيّ السماء لا يختصّ وقوعه بزمان الدنيا - بل بيوم القيامة ، ولا يمكن لأحد مشاهدة ذلك إلاّ من كان من أهل النشأة الآخرة كما قال سبحانه : { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] فلذلك زلزلة الأرض هذه غير مختصّة الوقوع بزمان معيّن من هذه الأزمنة ، بل ظرف تحقّقها يوم الآخرة ، وشاهد وجودها أهل الآخرة وأصحاب اليمين ، فهي مطويّة بيمين الحقّ بالقياس إلى أصحاب اليمين . وأمّا من كان من أصحاب الشمال وأهل الجحيم والنكال ، فليسوا مفتوحي العين ولا حديدي البصر حتّى يقرؤوا الكتب السماويّة وينظروا إلى سجلّ دوراتها وطومار أوقاتها دفعة ، إلاّ حرفاً بعد حرف ، وكلمة غبّ كلمة ، ولا يمكنهم أيضاً مشاهدة آيات الأفلاك والأنفس بالحقيقة إلاّ كمشاهدة الدوابّ والأنعام خلف أغشية حجب العزّة والجلال ، وأغطية الظلمة والوبال ، والبعد عن عالم النور والجمال ، فتتوارد عليهم الأوضاع والتغيّرات وتتحكّم عليهم الأزمنة والاوقات . وأمّا من قوي نظره وحدّ بصره - كما هو عند القيامة - فيطلع على جميع ما في هذا الكتاب الجامع للأكوان دفعة واحدة لا يغادر حرفاً منه ، مثل من يطوي عنده السجلّ الجامع للكلمات والحروف ، كما قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أُوتيتُ جَوامِع الكَلِم " . إنّما قال : { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] لأنّ أصحاب الشمال وسكّان دار الظلمات ، لا نصيب لهم من طيِّ السموات ، لأنّهم أهل الحجاب - كما مرّ - فهكذا حال هذا الزلزال للأرض ليس ممّا يدركه كلّ أحد ، لأنّه غير مختصّ الوقوع بوقت جزئيّ من أوقات الدنيا ، فلا يشاهده الإنسان بمشاعر هذا الأدنى ، لأنّ هذه الحواسّ التي يشترك فيها الدوابّ والأنعام مع الناس ، تختصّ بمشاهدتها بما يحدث هنا من الحوادث الجزئيّة والأكوان الزمانيّة ، والقيامة وأحوالها من عظام الأمور الكليّة ليست من جزئيّاتها ، { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] . فكما أنّ أرض القيامة غير هذه الأرض بوجه - لأنها يومئذ مبدّلة مقبوضة - وسماؤها غيره هذه السماء بوجه - لأنّها مطويّة كما قال الله سبحانه : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [ إبراهيم : 48 ] . وقوله : { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] . فكذلك زلزلة الأرض يوم القيامة غير هذه الزلازل الجزئيّة . تنبيه : إنّ أهل الحجاب وأصحاب الارتياب ذاهلون عن كون الأزمنة والحركات منطوية يوم القيامة منشورة ها هنا ، ولا يمكن لهم أن يعرفوا بهما جميعا ، والعجَب أنّهم كما لم يؤمنوا هنا بطيّ السموات وما فيها يوم القيامة ، لاشتغال قلوبهم بأحوال الدنيا ، فكذلك إذا بعثوا إلى الآخرة أنكروا زمان مكثهم في الدنيا ونشر الحركات فيها ، إذ تشغلهم أهوال يوم القيامة عن ذلك ، كما قال جلَّ ذكره : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يُقْسِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَٱلإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْبَعْثِ فَهَـٰذَا يَوْمُ ٱلْبَعْثِ وَلَـٰكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ الروم : 55 - 56 ] . حُجّة كلاميّة : إنّ في قوله تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } [ الحج : 2 ] بعد قوله - { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] دليلاً واضحاً على ما ذكر ، لدلالة الكليّة على الشمول العمومي لجميع المرضعات وذوات الأحمال ، متى كان وأين كان . تنوير قرآني وتذكير برهاني : إنّ نسبة البعث إليه تعالى كنسبة الخلق : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } [ الأعراف : 29 ] فكما أنّ الله من جهة الخلق أوجد جميع الخلائق - على كثرتها واختلاف أزمنتها - بإيجاد واحد وإفاضة واحدة - وحدة غير زمانيّة - ، وهي في أنفسها وبقياس بعضها إلى بعض ، أمور متكثّرة متجدّدة ، ومختصّة بأزمنتها وأوقاتها ، وله تعالى أيضاً شأن واحد في شؤون كثيرة ، إذ كلّ يوم هو في شأن ، ولا يشغله شأن عن شأن ، فكذلك من جهة البعث ، يبعث الخلق كلهم في ساعة واحدة على صعيد واحد كقوله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 13 - 14 ] . فهذه الساعة : { كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] . من جهة . ومن جهة المخلوقات واختلاف قوابلها واستعداداتها : { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] وعليها يقاس حكم الحركات والأمكنة فإنّ لها هاتين الجهتين . قال تعالى نظراً إلى الزمان من جهة القرب والوحدة : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] . { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [ الحج : 7 ] { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً } [ يونس : 45 ] . ومن جهة البُعد بالقياس إلى أهل الحجاب والظلمة : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [ المؤمنون : 36 ] { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 48 - 49 ] . { وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 109 ] . { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } [ الجن ، : 25 ] . وقال نظراً إلى المكان من جهة القرب : { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ سبأ : 51 ] { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 54 ] . { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [ الانفظار : 16 ] . { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] . ومن جهة البُعد : { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } [ سبأ : 52 ] . وقال نظراً إلى الوجهين : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] . فالأوّل : بالقياس إلى المحبوسين في سجن المكان ، المقيّدين بقيد الزمان ، والثاني : بالقياس إلى المتخلّصين عن رقّ الحدثان ، الناظرين إلى حقائق الأشياء بعين العيان . إشارة نوريّة : إنّ إضافة الزلزال إلى الضمير العائد إلى الأرض ، الدالّة على الاختصاص ، تُشير إلى أنّ هذه نوع حركة معهودة من الأرض ، مختصّة بها ، واقعة منها على حسب الجِبِلة والغريزة ، وأنّها مركوزة في طبيعتها ، والأمور الغريزيّة للأشياء غير منسلخة عنها ، ولا متراخية إلى حين - إذا خليّت وطبايعها - فهكذا حكم هذا الزلزال . وقد حقّق في المعالِم الإلهيّة بالبراهين النوارنيّة ، أنّ الأرض والأرضي كالسماء والسماوي ، في أنّ لها حركة ذاتيّة جوهريّة لا تفتر عنها لحظة ، وما من طبيعة أو ذي طبيعة إلاّ وهو أبداً في الحركة الاستكماليّة الجوهريّة ، وبها يطلب الحقّ الأوّل ، ويرجع إليه ، كما في قوله سبحانه : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] فالإتيان لله سبحانه : إمَّا من السماء وما فيها ، فكان في أوّل الأمر على جهة الطوع لكونها مفطورة على كمالها الأتمّ في أوّل النشأة ، مطيعة لله تعالى بحسب فطرتها الأولى ، وإمّا من الأرض ومن عليها فكان على جهة القسر أوّلاً ، لأنّها ناقصة الفطرة الأولى ، وإنّما اكتسبت الكمال والتقرّب إلى الله بحسب فطرة أخرى ونشأة ثانية . فالأرضيّات بعد استكمالها بالنفوس الكاملة الإنسانيّة ، صارت مطيعة لله تعالى بلا إكراه كالسماويّات ، فاتّفقتا في سلوك طريق الحقّ والسير إلى الله ، والإتيان إليه ولهذا قالتا : أتَيْنَا طَائِعينَ . وفي الكشّاف : معنى هذه الإضافة ، زلزالها الذي تستوجبه في الحكمة ، وهو مشية الله ، وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده ، ونحوه قولك : أكرم التقيَّ إكرامه ، وأهِن الفاسق إهانته . تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة . أو زلزالها كلّه وجميع ما هو ممكن منه . وقد أجرى الله على لسانه من الحقّ ما يمكن أن يراد منه مجموع الانتقالات الأرضيّة الواقعيّة من جملة الأرض وما فيها من ساير المركبات التامّة والناقصة ، وبسائطها إذا أخذت دفعة واحدة ، وشوهدت شهوداً أخرويا ، وما يختصّ بأهل الآخرة وبأهل المعرفة وإن لم يحشروا بعدُ بحسب قالبهم إلى الله ، وذلك لأنّهم قد حشروا إلى الله بحسب قلوبهم . وهذه الحركة إذا أخذت هكذا ، فهي حركة عقليّة شوقيّة من الله مبدأها ، وإلى الله منتهاها ، وباسمه مجراها ومرساها ، كما قال تعالى { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } [ النازعات : 42 - 44 ] . وقد بين أيضاً في المعالم الإلهيّة إثبات العقل والإرادة للأرض بالبرهان المنوّر بأنوار القرآن ، مثل قوله : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] { وَأَشْرَقَتِ ٱلأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } [ فصلت : 39 ] . ومن اكتحلت عين بصيرته بنور الحكمة الحقّة ، يعلم أنّ كل جرم - غليظاً كان أو لطيفاً - فله حياة ونفس وعقل ، إذ ما من جسم إلاّ وله صورة طبيعيّة هي مبدأ حركته القريب ، وكلّ جسم من شأنه التفرّق والانقطاع والتكثّر ، وعند القطع والتكثير تنعدم ذاته ويزول اتّصاله ، وكلّ طبيعة من شأنها الاستحالة والسيلان دائماً - كما حقق في مقامه - فالنفس الروحانيّة هي علّة اتّصال الأجرام ووحدانيّته ، فالوحدة والاتّصال مستفادان في كل جرم من النفس ، وكذا البقاء والاستمرار له لسيلان طبيعته واستحالتها - لما مرَّ - . والنفس لا يتمّ وجودها إلاّ بالعقل ، لأنّها أيضا من حيث الفعل والتدبير طبيعة ، ومن حيث الذات والحقيقة عقل ، فثبت أنّ الأرض ذات حياة نفسانيّة ، ولها كلمة فعّالة روحانيّة . واستدلّ معلّم أسلاف الحكماء ، على أنّ الأرض ذات حياة بأنّها تنمو وتنبت الجبال - فإنّها نبات أرضي - ، وفي داخل الجبال حيوانات كثيرة ومعادن ، وإنّما تتكوّن هذه منها لأجل الكلمة ذات النفس فإنّها هي التي تصوّر في داخل الأرض هذه الصورة . وهذه الكلمة هي صورة الأرض الفاعلة فيها هذه الأفاعيل ، ولا يمكن أن تكون ميتة وتفعل هذه الأفاعيل العجيبة العظيمة ، فان كانت حيّة فانّها ذات نفس لا محالة . فإن كانت هذه الأرض الحسيّة حيّة - وهي صنم - فبالحريّ أن تكون الأرض العقليّة حيّة - انتهت حكاية كلامه - . وبناؤه على أنّ لكلّ طبيعة جسمانيّة صورة عقليّة في عالَم الأرواح العقليّة - وهي المسمّاة بالمثل النوريّة والصور المفارقة عند شيخه أفلاطون ، ومن تقدّمه من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، وعرجوا بنفوسهم الصافية وقلوبهم الطاهرة إلى عالم القدس ، وشاهدوا هذه الصورة الإلهيّة مظاهر أسماء الله تعالى ، فهم أهل بيت الحكمة ، كما أنّ أئمّتنا أهل بيت النبوة والولاية - سلام الله عليهم أجمعين - . تذكرة : هذه الحركة الأرضيّة ، التي قد مرّت الإشارة إلى أنّها إراديّة شوقيّه عقليّة ، ليست واقعة في احدى المقولات الأربع العرضيّة ، لما مرّ أنّها غير محسوسة ، ولا قابلة لأنّ تحسّ بإحدى هذه الحواسّ ، بل هي حركة ذاتيّة واقعة في مقولة الجوهر . والمقتصرون على البحث البحت من النظّار وذوي الأفكار ، لم يجوّزوا الحركة في مقولة الجوهر ، ولم يمكنهم أن يتفطنّوا بدقّة أفكارهم وحِدّة أنظارهم لِهذه الحركة الذاتيّة ، لأنّ إدراكها يحتاج إلى تأييد إلهي وإلهام نوري ربّاني ، يختصّ بأصحاب المكاشفات للقلوب المنوّرة بنور الإيمان ثمّ العرفان . فهُم قد رأوا بالمشاهدة العيانيّة ، أنّ الأعيان الجوهريّة دائمة التوجّه إلى الله تعالى توجُّها معنويّا وحركة ذاتيّة ، وما من جوهر عينيّ له صورة وجوديّة إلاّ وله هذا السير الحثيث إلى الحضرة الإلهيّة ، وهو أبداً في الانتقال من صورة إلى صورة ، ومن طور إلى طور - حركة رجوعيّة وسيراً استكماليّاً - كما قال سبحانه : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ صُنْعَ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [ النمل : 88 ] . فهكذا حكم الإنسان ، فإنّه أبداً بحسب غريزته ، والتبدّل والميلان من نشأة إلى نشأة ، وطور إلى طور ، ومن هويّة إلى هويّة ، ومن تبدّل هذه الهويّات عليه ، تستمرّ له هويّة ثابتة يحكم بها عليه أنّ ذاته هي التي كانت موجودة أوّلاً ، فله هويّة ثانية هي التي بعينها متبدّلة ، فانظر ماذا ترى . وعلى هذه الحركة الانقلابيّة للإنسان شواهد كثيرة من القرآن ، مثل قوله جلّ اسمه : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الانشقاق : 6 ] وقوله : { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ الانشقاق : 9 ] . وقوله : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [ البقرة : 156 ] . وقوله : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ الانبياء : 93 ] . وقوله : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ فصلت : 21 ] . وهذه الحركة الجِبليّة إليه تعالى وإلى الدار الآخرة ، ولا تنافي الشقاوة والكفر ، بل تعمّ السعيد والشقيّ ، والمؤمن والكافر ، كما بيّن ، وكذا لا تنافى الذبول الطبيعي والموت الطبيعي ، لأنّ توجّه النفس إلى جهة الآخرة بعد تمام الاستكمال البدني ، يوجب انصراف تدبيرها عن البدن شيئاً فشيئاً ، حتّى إذا تمّ التوجّه إليها والانصراف عنه بالكليّة عرض له الموت ، فلهذا المعنى يكون الذبول طبيعيّا والموت طبيعيّا ، لا كما اشتهر فيما بين الناس من أنّ سببهما نقصان القوّة من الأوّل وفناؤها في الثاني . فإذن قد بزغ الحقّ ، وانكشف الأمر في أنّ الأرض بما فيها دائمة التحوّل والحركة من جوهر محسوس أدنى إلى جوهر محسوس أعلى ، ثمّ تتحرّك بعد طيّ مراتب المحسوسات الجوهريّة إلى الجواهر الغير المحسوسة ، فيتحرّك من الأخسّ منها وجوداً والأقل آثاراً إلى الأشرف منها وجوداً والأكثر آثاراً ، وهكذا تتدرجّ في الاستكمال وتسير في الأطوار السلوكيّة والأحوال من صورة إلى صورة حتّى تنتهي نوبة الانتقال والإرتحال من الجواهر النفسانيّة إلى الجواهر العقلانيّة ، فإذا وصلت إلى الحضرة الإلهيّة وعالم الأسماء بعد عالم الأرض والسماء ، فيحشر إلى اسم من أسمائه - { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] . تذكرة : هذه الحركة المعنويّة للأرض ، التي تعود بجملة ما فيها ومعها إلى الدار الآخرة ، وترجع بها إلى الله تعالى ، قد وقعت الإشارة إليها في آيات كثيرة من الكتاب الإلهي ، مثل قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [ الحج : 5 ] إلى قوله : { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [ الحج : 6 - 7 ] . وقوله : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [ الزمر : 71 ] إلى قوله : { قِيلَ ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبِّرِينَ * وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [ الزمر : 72 - 73 ] إلى قوله : { فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .