Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 99, Ayat: 7-8)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الذَرَّة : النملة الصغيرة ، وقيل : الذرة : ما يرى شعاع الشمس من الهباء المنثور في الهواء . أي : كلّ أحد إذا بُعثر ما في القُبور ، وحصَّل ما في الصدور ، يرى ما عمله في الدنيا من خير أو شرّ مْحضراً ، ويصادف دقيق ذلك أو جليله مسطراً في ميزان عمله ، وكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، ووجدوا ما علموا حاضراً ، ولا يظلم ربّك أحداً . وذلك الكتاب ، إمّا صحيفة ذاته ، أو صحيفة أعلى منها ، فكلّ إنسان يكون بعد كشف غطائه ورفع حجابه وحِدّة بصره مبصراً لنتائج أعماله ، ومشاهداً لآثار أفعاله ، قارياً لصفحة كتابه ، مطّلعاً على حساب حسناته وسيّئاته ، قال الله سبحانه : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * ٱقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 13 - 14 ] . فمن جملة أحوال القيامة نشر الصحائف ، وتطاير الكتب ، لأنّ صحائف الأعمال وكتب القلوب وألواح النفوس وأقلام العقول كلّها مكنونة ها هنا ، مطويّة مستورة عن الأبصار في الدنيا ، وهي بارزة منشورة يوم القيامة ، مكشوفة على الأبصار . كما أنّ منشورات هذا العالم تصير مطويّة في الآخرة ، لأنّ الأرواح منغمرة هنا في هذه الأجسام ، وفي القيامة على عكس هذه الحال ، فكلّما يدركه الإنسان هنا بحواسّه ، ويعلمه بجوارحه وآلاته ، يرتفع منه أثر إلى الروح ، ويجتمع في صحيفة قلبه ، ويختزن في خزانة معلوماته . كما قال سبحانه : { هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . وهو كتاب منطو اليوم عن مشاهدة الأبصار والحواسّ ، فإذا ارتفع الحجاب ، وانكشف الغطاء ، وزال غبار الطبيعة عن لوح النفس ، وانجلى ، يشاهد كلّ أحد في ذاته ما يغيب عن بصره في الحياة الدنيا مسطوراً مكشوفاً ، فيطالع صحيفة ذاته ، ويقرأ كتاب نفسه ، وإذا حان وقت أن يقع بصره إلى وجه ذاته عند فراغه عن أشغال الحياة الدنيا ، وما توردها الحواسّ والتفاته إلى صفحة باطنه ووجه قلبه ، وهو المعبِّر عنه بقوله : { وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ } [ التكوير : 10 ] . ومن كان في غفلة عن أحوال نفسه وروحه ، يقول عند حضور ذاته لذاته ، وكشف غطائه , وحِدّة بصره عند البعث ، ومطالعة صفحة كتابه : { مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [ الكهف : 49 ] . { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] . وممّا يجب أن يُعلم ، أنّ الإنسان إن كان الغالب عليه التصّورات العقليّة والتأمّلات القدسيّة ، وفعل الخيرات والطاعات ، فيكون كتابه في علّيين ، وعلّيّون ، هم الملائكة المقرّبون المرتفعون عن حضيض الأجرام : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 18 - 21 ] . وإن كان الغالب عليه فعل الخيرات والحسنات ، وسلامة الصدر عن الأمراض النفسانيّة - مبادي السيّئات - فهو من أصحاب اليمين ، ويأتي كتابه من جانب اليمين { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [ الإنشقاق : 7 - 9 ] . وإن كان من الفجّار المنافقين ، الذين قرؤوا كتاباً لمُكنة استعدادهم ودرسوه ثمّ لم يعملوا به لمرض قلوبهم ، وأهملوه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً - فبئس ما يشترون - ، فيأتي كتابه من وراء ظهره { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } [ الإنشقاق : 10 - 12 ] . وإن كان من الجهّال والمردودين إلى أسفل السافلين ، المجرمين المنكوسين فهو من أصحاب الشمال ، ويأتي كتابه من الجهة السافلة ، وعالَم النكال والوبال { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 25 - 26 ] . فالطائفة الأولى : من أهل البرهان واليقين ، وهم السابقون السابقون ، أولئك المقرّبون ، درجتهم في أعلى علّيين ، وكتابهم في صحُف مكرّمة مرفوعة عن النَسخ والتغيير ، لا يمَسُّه المطهَّرون عن أدناس الطبيعة { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 - 22 ] . عن مسِّ الشياطين المضلِّين . وأمّا الثانية : فهم أهل السلامة { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ } [ الواقعة : 91 ] وحسن الظن بربّهم { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [ الحاقة : 19 - 22 ] . وأمّا الثالثة : فهم أهل الشكّ والجحود والعداوة لأهل الله ، والنفاق ، وهم الذين يكذّبون بيوم الدين { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 14 - 15 ] . ولا كتاب للمنافق يوم القيامة ، إذ كتابه هو الذي نبذه وراء ظهره واشترى به ثمناً قليلا ، وإنّما قرينه الشيطان بتسويلاته وتخييلاته المضلّة ، وأغاليطه الكاذبة { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . فإذا كان يوم القيامة قيل له . خذ كتابك من وراء ظهرك ، من الموضع الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا { قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً } [ الحديد : 13 ] . فإنّه حين نبذه وراء ظهره { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 14 ] أي جزم ، كما قال الشاعر : @ فقلت لهم ظنّوا بألفي مدجج @@ أي : أجزموا - . وأمّا الرابعة : فهم أهل الجهل والظلمات ، المحترقين بنار الشهوات ، المختوم على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم كما للمنافقين عذاب أليم ، مرجعهم أسفل سافلين وكتابهم في سجّين { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 7 - 9 ] . بالكلمات الباطلة والنقوش المعطّلة ، صالح لللاحتراق بنار الجحيم ، فإنّ أصل كّل سعادة هو العلم واليقين ، ومادّة كلّ شقاوة هي الجهل بالله وبيوم الدين ، والنفوس الساذجة بمنزلة قرطاس خالية عن ذكر الحسنات والسيئّات ، فإذا انتقشت بالعلوم والحكمة والأدب ، صلحت لأن تكون خزانة أسرار الملك ، وإذا انتقشت هي بعينها بالكلمات الواهية المعطّلة المزخرفة ، لم تصلح إلاّ للإحتراق بالنّار والانمحاق . حكمة قرآنية : إعلم أنّ القول والفعل ما دامت حقيقتهما في أكوان الأصوات والحركات ، فلا حظَّ لها من البقاء والثبات ، فإذا تكوّنت بالوجود الكتبي ، حصلت لها مرتبة من البقاء والثبات ، وكذا كلّ من فعَل فِعلاً وتكلّم بكلام حصل منه أثر في نفسه وحال تبقى زماناً ، وإذا تكرّرت الآثار في النفس فصارت الأحوال مَلَكات تصدر بسببها الأفعال بسهولة من غير رويّة وقصد وحاجة إلى تجشّم اكتساب ومزيد اعتمال ، فالحال والمَلَكة في عالم النفس ، بإزاء التكلّم والكتابة في عالم البدن ، ومن هذا النمط تستنبط الصنايع وتتعلّم المكاسب العلميّة والعمليّة . ولو لم يكن للآثار الحاصلة في النفس من الأعمال والأقوال دوام وثبات وقوّة واشتداد يوماً فيوماً ، إلى حدّ تصير ملكة راسخة ، لم يكن لأحد تعلّم شيء من الصنايع والحِرَف ، ولم ينجع فيه التأديب والتهذيب ، ولم يكن في تأديب الأطفال وتمرينهم فائدة ، ولا لهم تفاوت من أوّل الحداثة إلى آخر حدّ الكمال ، وتكون التكاليف الشرعية عبثاً لا فائدة فيها في العاقبة . فعلم أنّ الآثار الحاصلة من الأحوال والأقوال في القلوب والأرواح ، بمنزلة النقوش الكتابيّة في الألواح { أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } [ المجادلة : 22 ] . وتلك الألواح النفسيّة يقال بها : " صحائف الأعمال " وتلك الصور والنقوش الكتابيّة تحتاج في حصولها إلى مصوّر وكاتب ، لأنّها ممكنة معلولة ، والمعلول لاينفك عن علّته القريبة ، فالمصوِّرون والكُتّاب - كتابة غائبة عن هذه الأبصار - هم الكرام الكاتبون المرتفعون عن الوقوع في نقائص هذا العالم ، الغائبون عن إدراك حواسّ الناس إلاّ أهل الله ، وهم ضَرْب من الملائكة المتعلّقة بأعمال العباد وأقوالهم { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] . وإنّهم طائفتان : إحداهما : ملائكة اليمين ، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب اليمين ، والأخرى : ملائكة الشمال ، وهم الذين يكتبون أعمال أصحاب الشمال { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] . وفي الحديث : " من قال : " " سبحان الله العظيم " غرست له نخلة في الجنّة " . وفي الخبر : " إنّ من عمل حسنة كذا ، يخلق الله منه مَلَكاً يثاب به ، ومن عمل سيئّة كذا ، يخلق الله منها شيطاناً يعذّب به " . قال الله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [ فصلت : 30 ] إلى قوله : { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ فصلت : 31 ] . وفي الطرف الآخر قوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [ الشعراء : 221 - 222 ] . وكذلك قوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . واعلم أنّ هذا المبدأ الداعي للنفوس إلى الخير أو الشرّ ، هو المسمّى عند الحكماء باسم المَلَكة ، وعلى لسان الشريعة باسم المَلَك والشيطان ، أحدهما المُلْهم للخير ، والآخر المُلهِم للشرّ . ولو لم يكن لتلك المَلَكات من البقاء والثبات ما يبقى أبد الآباد ، لم يكن لخلود أهل الطاعات في النعيم وأهل المعاصي في الجحيم وجه - كما أشرنا إليه - ، فإنّ منشأ الثواب أو العقاب على وجه الاستيجاب ، لو كان نفس العمل والقول - وهما زائلان - ، فكيف يتصوّر بقاء المعلول مع زوال السبب الموجب ؟ وكيف يكون الفعل الجسماني الواقع في زمان معيّن قليل المقدار ، باعثاً للجزاء السرمدي ؟ ومثل هذه المجازاة لا تليق بالحكيم وقد قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] . وقال : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة : 225 ] . ولكن إنّما يخلد أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار بالثبات والدوام الحصلين للأخلاق والمَلَكات . وفي كلام بعض أوائل الحكماء ، أنّه ستعارض لك في أقوالك وأفعالك وأفكارك ، وسيظهر لك من من كلّ حركة قوليّة أو فعليّة إلى آخره ، ومنشأ ذلك ، أنّ موادّ الصور الأخرويّة هي التصورّات الباطنة والتأويلات الفكريّة والأفكار . وفي الحديث : " إنّ الجنة قاع صفصَف ، وإنّ غراسها " سُبْحَانَ الله " " . فالإنسان إذا انطقع وانكشف عنه الغطاء ، وتجرّد عن غشاوة الطبيعة ، كان الغيب له شهادة ، والعلم عيناً ، والخبر معاينةً .