Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 128-128)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ربَّنا } نداء ثان مؤكد للنداء فى قولهما { ربنا تقبل منا } أو نداء عائد إلى قولهما { إنك أنت } أى إنك أنت يا ربنا السميع العليم ، أو إنك يا ربنا أنت السميع العليم مضاف إلى محذوف وقع العطف عليه فى قوله { واجْعلنَا مُسْلمَين لَكَ } أى يا ربنا أجب لنا واجعلنا مسلمين لك أى منقادين لأمرك ونهيك ، أو مخلصين لك . ومن أسلم وجهه أو أخلصه ، أو مؤمنين عاملين لك عملا صالحا ، وذلك كله حاصل فيهما قبل هذا الدعاء ، ولكن أراد الدعاء بزيادة فى ذلك أو بالثبات عليه . وقرئ مسلمين بكسر الميم وإسكان الميم إسكانا ميتاً وفتح النون وله أوجه أحدها أن يكون من استعمال صيغة الجميع فى الاثنين ، ونكتته أنه يخرج منهما إتباعا لهما على الخير والثانى أن يكون أراد الدعاء بالجعل مسلما أنفسهما ومن يؤمن من ذريتهما ، والثالث أن يريدا نفسيهما وهاجر . وهى زوج إبراهيم أم إسماعيل عليه السلام . { ومِنْ ذُريَّتنا أمةً مُسلمةً لَكَ } من ذريتنا معطوف على مسلمين ، وأمة معطوقة على نا من قوله { واجعلنا } كأنه قيل واجعل أمة مسلمة لك من ذريتنا ، ومن للتبعيض كأمثاله السابقة ، وخصا البعض لعلمهما أن فى ذريتهما ظلمة ، كما أوحى الله عز وجل إلى إبراهيم { لا ينال عهدى الظالمين } { ومن كفر فأمتعه } ولعلمهما أن الخدمة الإلهية لا تقتضى الاتفاق على الإيمان والإخلاص والإقبال الكلى إلى الله ، فإن كثيراً من أمر المعاش أو كثيره يأتى بواسطة السفهاء حتى الدين ، فإنه قد يعز بالسفهاء ، روى عنه ، صلى الله عليه وسم " يؤيد الله هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم وفى أثر ذلك قوم قلت سفهاءهم " ويقال لولا الحمقاء لخربت الديار ، وخصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، قال الله تعالى { قُوا أنفُسَكم وأهْلِيكم ناراً } ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، ألا ترى أن المقدم من العلماء والكبراء إذا كان صالحاً عادلا كيف يتسارع الصلاح والعدل إلى رعيته ، فقد تشاركت الذرية وغيرها فى هذا ، وزادت بحق القرابة فكان الاهتمام بها أولى ، ويجوز أن تكون من للابتداء ، سواء قلنا الجعل المذكور هو العامل ، أو قدرنا اخلق أو اجعل بمعنى أخلق تعلق به من ، أى واخلق من ذريتنا أمة مسملة لك ، وكونها للابتداء لا يفوت بها التبعيض ، بل هو باق هنا فإنك تقول أعطنى الدراهم من الكيس ، سواء تريد أن يعطيك بعضها فقط ، أو أن يعطيك الكل . ويجوز أن تكون من للتبيين متعلقة بمحذوف حال من أمة ، وأمة مفعول لا خلق أو اجعل ، بمعنى اخلق محذوفاً . قال ابن هشام قال بعض إن الظرف كان صفة لأمة ، ثم قدم فانتصب على الحال ، يعنى بالظرف قوله { من ذريتنا } وهذا يلزم منه الفعل بين العاطف والمعطوف بالحال ، وأبو على لا يجيزه بالظرف ، فما الظن بالحال الشبيهة بالمفعول به ؟ انتهى . وأقول لا مانع من ذلك ولا سيما أنهم يتوسعون فى الظروف ، ومسلمة نعت لأمة ، ويجوز كونه معطوفاً على مسلمَيْن ، وأمة على " نا " وقد اختلفوا فى تقديم البيان على المبين ، ولا يتعين أن يكون منه قوله تعالى { ومِنَ الأرْضِ مثْلهنَّ } لجواز كونها للابتداء ، كما أنها للابتداء فى قولك صغت هذ السوار من فضة زوجى . ومرادهما بالأمة أمة ما ، كائنة ما كانت من ذريتهما ، فأجاب الله دعاءهما بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، وقيل أراد محمداً ، صلى الله عليه وسلم وأمته ، بأن علما به وبها ، ولم يعلما أنهم من ذريتهما فسألا الله أن يجعلهما منها . وإن قلت كيف صح أن تكون من للبيان مع أنه ليست الأمة المسلمة التى سألاها الله كل ذريتهما ، بل بعضها ؟ قلت صح على أن الإضافة فى ذريتنا للحقيقة لا للاستغراق . { وأرِنَا } دعاء من رأى البصرية زيدت عليه همزة متعدية فتعدى لاثنين ، لأن رأى البصرية متعدية لواحد ، أو من الرؤية العرفانية وهى متعدية لواحد ، ولما دخلت همزة التعدية تعدت لاثنين ، والمفعول الثانى هو لفظ مناسك ، والمعنى عرفنا مناسكنا . فليس كما قال بعض إن الرؤية القلبية لا تصح هنا ، ألا ترى أنه صح معنى قولك عرفنا مناسكنا ، والعرفان قلبى . وقرأ ابن كثير ويعقوب والسوسى عن أبى عمرو أرنا بإسكان الراء إما على التخفيف ونية الجزم ، أو شبه الجزم هو حذف الياء ، وإما على لغة من يعرب الأسماء المنقوصة على العين ، وحذف اللام ، كما قرئ { وله الجوار } بضم الراء ، وكلتا اللغتين ضعيفة ، ولا سيما هنا ، فإن فيه إجحافاً ، لأن عين الكلمة محذوفة بعد نقل حركتها للراء قبلها وهى همزة ، ولام الكلمة محذوفة وهى الياء ، يدل عليها الكسرة الباقية من الهمز ، فإذا حذفت الكسرة ازداد الإجحاف بحذفها ، ولا سميا أن فيها تلويحا للهمزة ، لأنها منها ، ودلالة على الياء ، وفى رواية عن أبى عمرو أنه يسكن الراء ويشملها الكسر . قال أبو عمرو الدانى قرأ ابن كثير وأبو شعيب وأرنا وأرنى بإسكان الراء ، حيث وقعا ، وأبو عمرو عن اليزيدى باختلاس كسرتها والباقون بإشباعها يعنى بإخلاصها . { مَنَاسِكنا } أى مواضع نسكنا ، أى مواضع عبادتنا ، كموضع الوقوف من عرفات ، وكالمشعر الحرام ، وكمِنًى ، والمرمى ، والمطاف ، والمسعى والمفاض ، قال قتادة المناسك معالم الحج والنسك فى الأصل ، كل عبادة شاقة ، وشاعت فى الحج لما فيه من مشقة السفر والاغتراب عن الأهل ، ويستعمل أيصاً فى كل عبادة وإن لم تشق ، واشتهر أيضاً فى الذبح لله سبحانه وتعالى ، ويجوز تفسير الآية به ، أى أرنا مذابحنا ، كما فسر به الشيخ هود رحمه الله ، ويجوز تفسيرها بكل عبادة ، أى أرنا شرائع عبادتنا ، أو مسائل الحج ، وعلى هذين الوجهين يكون المنسك مصدراً ميمياً أجاب الله دعاءهما فأرسل جبريل وعلمهما وأراهما كيفية الحج ومواضعه ، ولما بلغ عرفة قال يا إبراهيم أعرفت ؟ قال عرفت . فسميت عرفة . وقيل سميت عرفة لأن آدم تعارف فيها هو وحواء لما أهبطا إلى الأرض قال الحسن إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها ، حتى إذا بلغ عرفات قال يا إبراهيم أعرفت ما رأيت من المناسك ؟ قال نعم . فلذلك سميت عرفات ، فلما كان عند الجمرة ، يعنى جمرة العقبة ، يوم النحر ، ذهب يزور البيت فعرض له الشيطان فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل أن يرميه بسبع حصيات مثل حصى الحذف ، ففعل فذهب ، ثم عرض له فى اليوم الثانى فى الجمار كلها ، وفى اليوم الثالث ، وفى اليوم الرابع ، كل ذلك يرميه بأمر جبريل بسبع حصيات . قال الحسن إن جبريل عليه السلام أرى النبى صلى الله عليه وسلم المناسك كلها أيضاً كما أراها إبراهيم عليه السلام ، لكنه أصل عن إبراهيم ، وقد كان المسلمون قبل إبراهيم يؤمون نحو الكعبة فى صلاتهم ، وعن ابن عباس أنه عرض الشيطان لعنه الله لإبراهيم عليه السلام فى المسعى فسابقه فسبقه إبراهيم ، وأنه ذهب به جبريل إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان عندها فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، وكذا فى كل جمرة ، وإنما لما أراد ذبح إسماعيل تله للجبين وعليه قميص أبيض ، فقال يا أبت ليس لى ثوب تكفننى فيه ، فاخلعه لتكفنى فيه ، فالتفت فإذا كبش أبيض أعين أقرن فذبحه ، وأنه أتى به منى ، فقال هذا مناخ الناس ، وأتى به جمعاً فقال هذا المشعر الحرام ثم ذهب به إلى عرفة فقال هل تدرى لما سميت عرفة ؟ قال ولم سميت ؟ قال جبريل هل عرفت المناسك ؟ قال عرفت ، يشير جبريل إلى أن اسمها عرفة قبل ذلك ، لأن إبراهيم سيقول فيها عرفت ، فقرأ عبدالله ابن مسعود وأرهم مناسكهم يعنى ذريتهما . { وتُبْ } وتجاوز . { عَليْنا } سألاه التوبة مع أن الأنبياء معصومون من الكبائر ، ولو قبل النبوة على الصحيح ، ومن الصغائر ولو بعدها على الصحيح ، ومن صغائر الخسة قطعا قبل وبعد تواضعاً وتعليماً لذريتهما ، وإعلاماً بأن هذه المواطن الحجية مواطن التنصل من الذنوب ، أو أراد طلب الدوام على التوبة أو أراد تب على ذريتنا ، فحذف المضاف أو جمعا أو أنفسهما مع الذرية هضماً للنفس ورؤية لها بعين النقص ، أو أراد تب علينا فيما صدر منا سهواً أو غلظاً أو نسياناً ، وما كان جائزاً لا إثم فيه ، لكن الأولى خلافه ، وما كان من اقتصار على طاعة فعلا أو تركاً مع إمكان تناول ما هو أكبر منها وأشد ، أو ما كان مكروهاً ولا رائحة إثم فيه ، وما كان من فتور ، ومن أجاز الصغائر أمكن عنده أن يريد التوبة من الصغائر ، وقد روى عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه يستغفر الله سبحانه وتعالى سبعين مرة أو مائة فى اليوم ، وذلك أن يصعد من حالة إلى أرفع منها لتزايد علمه واطلاعه على أمر ربه . { إنَّكَ أنْتَ التَّوابُ } المتجاوز بالعفو . { الرَّحيم } لمن تاب .