Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 249-249)

Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَلمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجُنودِ } أى انفصل بهم عن بلده . فإن فعل يستعمل لازما بمعنى انفصل ، كما يستعمل متعديا على أن أصله فصل نفسه عن بدله مثلا ، فكثل حذف مفعوله الذى هو نفسه مثلا فصار لازما لا ينوى له مفعول ، ومصدر هذا اللازم فعول ومصدر المتعدى فعل ، وقيل ضمن معنى خرج فلزم ، والباء للمصاحبة متعلق بمحذوف حال من طالوت ، والجند كل صنف من الخلق ، فالإنسان جند ، والجراد جند ، والنمل جند ، والذباب جند ، ويختص بالحيوان ، وقد يطلق على القوم المتهيئون للقتال وهو المراد هنا لما رأو التابوت ، لم يشكوا فى النصر فسارعوا إلى الجهاد ، وقيل خرج بهم طالوت من بيت المقدس ، وهم سبعون ألفا ، وقال السدى ، وغيره ثمانون ألفا ، وقيل مائة وعشرون ألفا ، وقال لهم طالوت لا حاجة لى إلى كل ما أرى لا يخرج معى رجل بنى بيتاً لم يفرع منه ، ولا تأجر مشتغل بالتجر ، ولا من تزوج امرأة لم يبن بها ولا رجل عليه دين ، ولا أبغى إلا الشاب النشيط الفارغ ، فاجتمع إليه على شرطه سبعون ، وقيل ثمانون ، وقيل مائة وعشرون ، وقد كانوا أكثر من ذلك ، وكان ذلك فى وقت الحر الشديد ، فسلكوا مفازة فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم ، وقالوا إن المياه لا تحملنا ، فادع الله أن يجرى لنا نهرا فدعا فأجيب ، فقال كما قال الله عنه . { قالَ } طالوت . { إنَّ اللَّهَ مُبْتلِيكُم بِنَهرٍ } معاملكم معاملة المختبر بسبب اقتراحكم النهار إذ لم تصبروا ، فيظهر بالابتلاء المطيع والعاصى والله عالم بهما ، وهكذا شأن من يقلق ويتعرض للقضاء ، وهو نهر عذب بين الأردن وفلسطين ، وعن ابن عباس نهر فلسطين ، وقرأ مجاهد وابن السماك بإسكان هاء نهر فى جميع القرآن ، وكل ثلاثى حشوه جرف خلق فيه لغتان إسكانه وفتحه كشقر وصحن . { فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ } أى من مائه . { فَليسَ مِنَّى وَمنْ لَّم يَطعَمْهُ فإنَّهُ منِّى } من ظهرت طاعته فى ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ، ومن غلبته شهوته فى الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان أشد وأحرى فى الشديد ، وإنما علم طالوت ذلك فى الوحى إن كان نبيا ، كما قيل إنه جمع له بين النبوة والملك ، وقيل ليس نبيا كما مر ، ولكن تحمل هذا الكلام معه من النبى أشموئيل ، وقيل لضمير فى ، قال ، عائد إلى النبى أشموئيل ، والمعنى ولما فصل طالوت بالجنود قال لهم نبيهم إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى ، ومعنى ليس منى ليس من أشياعى ، أو ليس من أهل ولايتى ، أو ليس بمتحد معى فى أمر الدين ، وقوله { فإنّه منِّى } على عكس ذلك ، ومعنى { لم يطعمه } لم يذقه من قولك طعمت الشئ إذا ذقته مأكولا أو مشروبا ، وليس من الطعم الذى بمعنى الأكل فى قوله تعالى { فإذا طعمتم فانتشروا } بل من الطعم بمعنى الذوق مثله فى قوله @ فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم تقاخا ولا بردا @@ والنقاخ الماء العذب ، أوقع عليه الطعم ، وفيه شبه بالطعام المأكول ، لأنه يصل الجوف من الفم ، وينفع فيه وواقع الطعم أيضاً على البرد ، وهو النوم وليس فيه نفس ذلك الشبه ، فالمراد بالطعم التناول للقليل من الشئ ، والخطاب فى سواكم للنساء تعظيما لهن ، وتصويراً لكمال عقلهن ، والمراد بقوله { شرب منه } شرب من ماء النهر بفيه لا بواسطة كوز ويد ونحوهما ، فالمراد الكروع وهو تناول الماء من موضعه بالفم دون واسطة يداً ونحوها ، من قولك كرعت الغنم إذا خاضت الماء حتى أصاب كرعها وشربت ، فمن شرب بيده أو غيرها غارفا من النهر ، لا يقال شرب من النهر إلا مجازاً ولا يحمل على المجاز بلا قرينة ، إذ لا يتصور مجاز بدونها ، وقرأ غير نافع وأبى عمر وبإسكان منى ، ومعنى الآية فمن شرب بفمه من النهر ، فمن حلف لا يشرب من هذا النهر لم يحنث بالشرب بيد أو إناء أو نحوهما بل بفمه من النهر عند أبى حنيفة ، وقيل يحنث بالغرف ، فإذا عرف أن الشارب من ماء النهر بيده أو غيرها يقال إنه شرب من النهر ، فالقسمة مثلثة الشاربون كرعا ، والذين لم يذوقوا ماءه ، والذين اغترفوا غرفة منه ، فالقسم الأول ليس من أشياعه ، والثانى من أشياعه ، والثالث مرخص لهم فيما فعلوا فقوله { إلاَّ مَن اغْترفَ غُرْفَةً بِيدَهِ } استثناء من قوله { فمن شرب منه فليس منى } منقطع لأن قوله { من شرب منه } لا يشمل المغترف لما مر أنه لا يقال للمغترف من النهر إنه شرب منه ، وإن حمل على عموم المجاز كان متصلا ، وقوله ، { ومن لم يطعمه فإنه منى } معترض بين المستثنى منه والمستثنى ، وجملة الاعتراض مستأنفة فى نية التأخير فقدمت من تأخير للاعتناء بها إذ من لم يطعمه أشرف القسمين ، ولتكميل التقسيم بترتيب مناسب ، لأن مقابلة من كرع وشرب كل الشرب لم يذق أصلا أولى للكمال فيهما ، ولأن عدم الذوق عزيمة والغرف رخصة ، وبيان العزيمة أهم ، وأجاز أبو البقاء الاستثناء من قوله { ومن لم يطعمه } ورد عليه بأن { اغترف غرفة } لا يشمله من لم يطعمه إلا أن يقول الاستثناء منقطع ، أو يدعى الاستثناء من مفهوم ، فإن مفهومه أن من طعمه لا يكون منه رخصا لهم فى الغرفة الواحدة لأنها تكفى الواحد منهم بإذن الله لشربه وطعامه وما يحتاج إليه ، وذلك أن الغرفة مصدر للواحدة بفتح أوله ، وبالتآء فى آخره وإسكان وسطه ، وهو ثلاث ، ومعناه تناول الماء لا نفس الماء والمفعول محذوف ، أى إلا من اغترف الماء غرفة ، فغرفة مفعول مطلق نائب عن مصدر الغين ، وفيكون ما اسما للماء المغروف نفسه لا لتناوله ، وعلى هذه القراءة يكون غرفة مفعولا له لاغترف ، وقيل المفتوح والمضموم لغتان بمعنى المصدر نائب عن قولك اغترافا ، والمفعول محذوف أى إلا من اغترف الماء غرفة ، أى اغترافا ، وقيل لغتان بمعنى الماء المغروف ، فهو على اللغتين مفعول به ، أى القدر الحاصل فى كفه بعد الاغتراف ، فبيده متعلق باغترف ، أو بمحذوف نعت غرفة أى مقدارا حاصلا فى يده ، قال ابن عباس رضى الله عنهما كانت الغرفة الواحدة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحمل منها ، وذلك إما أن يؤذن له فى أن يأخذ بيده ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة ، ويكفيه المأخوذ بمرة واحد له لدوابه وخدمه وما يحتاج ، ويحمل باقيه وإما أن يأخذ قدر كفه ويكفيه لذلك ، فيكون معجزة للنبى أشموئيل أو كرامة لطالوت أو معجزة وكرامة . { فشربوا مِنْه } كما شاءوا وكيف شاءوا بكرع ومعاودة وادخار لا القدر الجائز ، ومجاوزة لحد الله تعالى ، وفيه دليل على أن قوله { إلا من اغترف غرفة بيده } مستثنى من قوله { فمن شرب منه فليس منى } إذ لو كان مستثنى من قوله { ومن لم يطعمه فإنه منى } لقال فطعموا منه . { إلاَّ قليلاً مِّنهُم } فإن بعض هذا القليل لم يذوقوه وبعضه اغترف غرفة بيده ، وقرأ أبى وابن مسعود والأعمش إلا قليل بالرفع مع أن المستثنى منه مذكور ، والكلام موجب ، فقيل ذلك لغة ضعيفة ، والظاهر أن هذا فى الاستثناء كعطف التوهم نظراً فيه إلى أن معنى { فشربوا منه } فلم يطيعوه ، فكأنه قيل { إلا من اغترف غرفة بيده } ، فلم يطيعوه إلا قليل فرفع لتقدم النفى كمال قال الفرزدق . @ إليك أمير المؤمنين رمت بنا شعوب الهوى والهو جل المتعنف وعض زمان بابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف @@ كان الظاهر لامسحتا أو مجلفا بالنصب على أنه مفعول لدع ، ولكن اعتبر فى معنى لم يدع لم يبق فرفعه على الفاعلية ، فإنه يقول لم يبق إلا مسحت أو مجلف بالرفع ، وفى رواية إلا مسحتا أو مجلف بنصب مسحت ورفع مجلف ، وقيل له انصبهما معاً أو ارفعهما معا فقال قلت كذلك ليشقى بن النحويون ، ولعله أراد إلا مسحتا أو شيئا هو مجلف ، أو المسحت اسم مفعول لأمسحته أى استأصله لغة نجد ، ويقول الحجازيون أسحته بلاهم فهو مسحوت ، والمجلف المأخوذ ، وجوانبه ، والهوجل المتعسف المفازة ذات التعاسيف ، وذلك القليل ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا عدد أهل بدر ، وقيل ثلاثة آلاف ، وقيل ألف ، والصحيح الأول لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر " أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقى جالوت " وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، روى هذا الحديث البراء بن عازب ، وقيل أربعة آلاف ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن القوم شربوا على قدر يقينهم ، فشرب الكافر شرب الهيم ، وشرب العاصون دون ذلك ، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا ، وبقى بعض المؤمنين لم يشربوا شيئا ، وأخذ بعضهم الغرفة ، فأما من شرب كثيرا فلم يرو ، بل اشتد به العطش واسود شفته ولم يقدر أن يمضى على شاطئ النهر وجبن عن لقاء العدو ، وأما من ترك الشرب فحسنت حاله ، وكان أجلد ممن أخذ الغرفة وهكذا مثل الدنيا لطالب الآخرة من تناول منها ما يكون له كفافا استغنى وسلم ونجا ، ومن أكثر زاد رغبته فكان قلبه أشد حرصا ممن لم يكن له مال فيهلك بذلك ، كشرب الماء المالح يزداد بزيادته عطشا . { فلمَّا جاوزه } أى النهر . { هو } طالوت . { والَّذين آمنوا معه } وهم القليل الذين لم يخالفوه ، قيل اتفق المفسرون أن الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم واختلفوا هل رجعوا بعد مجاوزة النهر ؟ والصحيح أنهم رجعوا قبلها لظاهر قوله { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ، سواء جعلنا الذين معطوفا على المستتر فى جاوز للفصل بالهاء وبهو جعلناه مبت أو الواو للحال ، ومعه خبره قال ابن عباس والسدى كان المخالفون أهل شك ونفاق لقوله تعالى { قالُوا لا طاقة لنا اليوْم بجالُوت وجُنُوده } لكثرتهم وقوتهم ، إذ سمعوا بذلك عنهم قبل أن يلاقوهم ، فالضمير فى قالوا للعصاة الشاربين الآخذين للماء فوق ما حد لهم ، قالوا ذلك للمؤمنين ، وبينهم وبين المؤمنين النهر اعتذار أو خذلاناً للمؤمنين ، ونسب هذا للجمهور ، وبه قال الحسن ، وقيل رجع هؤلاء العصاة بعد مجاوزة النهر ومشاهدة جنود طالوت وكثرتهم وقوتهم ، ليناسب قوله قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، فإن المعانية أقوى من الإخبار ، والصحيح الأول ، لأن سماعهم بقوتهم وكثرتهم تكفييهم فى الاعتذار لما فى قلوبهم من الجبن لمعاصيهم . { قال الَّذين يظنُّون أنهُم مُّلاقُوا الله كم مِن فِئةٍ قليلةٍ غلبتْ فئةً كثيرةً بإذْن الله والله مع الصَّابرين } الذين يظنون هم القليل كلهم وهم المذكورون بقوله { إلا قليلا } ، وبقوله { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ، وقيل الضمير فى قوله { قالوا لا طاقة لنا اليوم } ليس للعصاة المجاوزين الحد فى الماء ، بل للقليل الذين آمنوا معه ، لكن قسمهم قسمين قسم محب الحياة وغلبة الخوف من الموت وهم القائلون { لا طاقة لنا } ، وقسم قوى القلب راسخ اليقين ، وهم القائلون { كم من فئة قليلة } الآية ونسب بعضهم هذا القول لأكثر المفسرين ، وذلك أن المؤمنين ولو تساووا فى أصل الاعتقاد لكن تفاوتوا فى قوة اليقين والصبر ، وضعفهما ، قيل للحسن وهو قائل بهذا القول أليس الذين جاوزوا كلهم مؤمنين ؟ قال بلى ، ولكن تفاضلوا ومعنى يظنون يتيقنون ، استعير لفظ يظن لتوقيف استعارة تبعية لاشتراك الظن واليقين فى الدلالة على تأكيد الاعتقاد ، وملاقاة الله الموت ، ومعنى إيقانهم بالموت علمهم به علما حقيقيا ، وهو المصحوب بالعمل لما بعد الموت ، قال قتادة لقاء الله الموت ، وذلك كما قال صلى الله عليه وسلم " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " ويجوز بقاء الظن على حقيقته ، فيكون لقاء الله ثوابه ، إذ لا يحزمون لأنفسهم بالجنة ، إذ لا يعلمون ما حالهم عند الله تعالى ، والظاهر أن كم خبرية للتكثير ، أى كثير من الفئات غلبت للفئات الكثيرة فئة كثيرة بفئة قليلة غالبة ، وهذا تذكير لأنفسهم ، وتشجيع لمن قال { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وقولهم فى الجواب { غلبت فئة كثيرة } دليل على أن القائلين { لا طاقة } إلخ إنما قالوه خوفا من كثرة جنود طالوت ، لكن قد لاحظوا مع ذلك ولو قوة ما فى القول للكثرة ، والقوة وإلا لم يهابوا ، إلا إن أراد إظهار العجز ولم يكن ، وأجاز بعضهم أن تكون استفهامية ، أى أخبرونا بعدد الفئات القليلات الغالبات ، الكثيرات ، لنزداد شجاعة ويقينا ، والاستفهامية هنا مرجوحة ، والراحج الخبرية ، وهى للتكثير ، ومن مزيدة فى تمييزكم إن أجيز زيادتها فى الإيجاب ، أو اعتبرنا الاستفهامية كأدات النفى بانتفاء العلم فيهما ، والخبرية تشبه الاستفهامية ، أو هى للبيان والتمييز محذوف ، أى كم شئ هو فئة ، ولا ينا فى التكثير بكم التقليل بقوله { قليلة } ، لأن التكثير بها منظور فيه إلى جملة كل فئة ، والتقليل بقولة { قليلة } ، منظور فيه إلى إفراد الفئة ، والفئة بوزن فعة محذوف اللام من قولك فأوت رأسه إذا شققته فأوى حذفت لامه وهو الواو ، وعوض عنها التاء ، أو بوزن علة محذوف العين معوض عنها التاء من قولك فاء بمعنى رجع ، ووجه ذلك أن الفئة من الناس يرجع بعضهم إلى بعض ، وهم أيضا كقطعة فتجمع جمع سلامة للمذكر ، لأنهم من باب سنة وثبة ، ولو كان لفظها بالتاءِ ، وليس علما لعاقل ولا لغيره ، ولا صفة كذلك ، وإذن الله إرادته ومعنى كون الله مع الصابرين أنه ناصرهم ومثيبهم على ما صبروا عليه من الطاعت كالجهاد .