Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 259-259)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أوْ كالَّذِىَ مرَّ } الكاف اسم بمعنى مثل مضاف للذى مفعول لمحذوف ، أى أوَ رأيت مثل الذى مر ، أى ما رأيت مثله ، وهذا المقدر معطوف على قوله { ألم تر إلى الذى } ودل عليه قوله { ألم تر إلى الذى حاج } وأدخل الكاف هنا دون { ألم تر إلى الذى حاج } لأن منكرى إحياء الموتى كثير ، والجاهل بكيفية الإحياء أكثر ، بخلاف مدعى الربوبية ، ويجوز أن تكون الكاف حرفاً زائداً ، والذى معطوف على الذى ، ويجوز أن تكون الكاف اسما معطوفا على المعنى ويقال له فى غير كلام عطف توهم جعل الكلام كأنه قيل فيه أرأيت كالذى حاج ؟ فقال { أو كالذى مر } وبه قال الكسائى والفراء وأبو على الفارسى ، ويجوز أن يكون معمولا لمحذوف معطوف على إيت من قوله { فأت بها من المغرب } أى فأت بها من المغرب أو أحى مثل إحياء الله الذى مر ، ولم يعطف الكاف على الذى لأنه يلزم عليه دخول إلى على الكاف الاسمية ، وإنما يدخل عليها ما سمع كعن ، فلا يحمل الكلام على دخول غيرها ، كذا قيل ، ويبحث أنه يجوز عطفها على الذى بناء على أن من يستعملها اسما يتصرف فيها بالعوامل ، وبأنه يقرب أن يكون على المنع اغتفر فى الثانى ما لم يفتقر فى الأول ، ولو قلنا هذا الاغتفار سماعى ، وضعف هذا العطف ، لأن المراد النظر إلى نفس الذى مر لا إلى مثله ، ويجاب بإرادة الكناية والذى مر هو عزير بن شرحيا عند قتادة وعكرمة والضحاك والسدى وقال وهب ابن منبه هو أرميا ، قال ابن إسحاق أرميا هو الخضر ، وقيل كافر بالبعث وعليه أكثر المفسرين ، من المعتزلة ، ونسب لمجاهد واعترض بأن الله لا يخاطب الكافر ، وقد خاطبه بقوله { كم لبثت } ، وبأنه لا يقال { نجعلك آية للناس } إلا فى حق الأنبياء والجواب أنه لا مانع من ذلك ، مع أنه قد يكون الخطاب بقوله { كم لبثت } ، بواسطة ملك ، بل قيل يؤيد قول مجاهد نظم هذا مع نمرود ، وأيضا يقال كلمة الله لأنه آمن بعد البعث لقوله { أعلم أن كل شئ قدير } . { عَلَى قَرْيةٍ } قرية بيت المقدس حين خربه بختنصر ، هذا قول وهب ابن منبه ، وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة . وقال زيد بن أسلم هى قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقيل المؤتفكات ، واشتقاق القرية من القرى بالياء وهو الجمع كالقرء بالهمزة ، وقيل دير سلعى إياد وقيل دير هرقل ، وقيل قرية العيد ، وهى على فرسخين من بيت المقدس . { وهىَ خَاوِيةٌ عَلَى عُرُوشِها } ساقطة على شقوقها ، والعرش السقف ، وذلك بأن تسقط سقوفها أولا ، ثم تسقط عليها حيطانها ، أى ساقطة الحيطان على العروش ، ويجوز أن يكون المعنى خاوية من أهلها ، أى خالية منهم ثابتة على سقوفها ، أى ليست مجردة عن السقوف ، بل سقوفها موجودة ، فعلى الوجه الأول تتعلق على بخاوية ، وعلى الثانى بمحذوف خبر ثان أو حال من ضمير خاوية ، والجملة حال من ضمير مر . { قالَ أنَّى يُحْيِى هذهِ اللّهُ بعد مَوْتِها } أى أنى يعمر الله هذه القرية بعد خرابها شبه عمرنها بالإحياء بجامع الانتفاع وخرابها بالموت بجامع عدمه ، وأنى يحيى الله أهل هذه القرية بعد موتهم ، ولما حذف الأهل لم يبق له ضمير يتصل بالموت ، فأضيف الموت لضمير ما ناب عن أهل ، وهو هذه فإن كان الذى مر على القرية مؤمنا فذلك اعتراف بالقهور عن معرفة طريق الإحياء ، واستعظام لقدرة المحيى وازدياد لقوة الإيمان وهو الصحيح ، وإن كان كافرا فذلك استعاد للبعث وإنكار له ، أى أنَّى يحيى الله أهل هذه وأنى ظرف زمان استفهامى بمعنى متى متعلق بيحيى ، أو اسم غير ظرف ، بل بمعنى كيف فهو حال من لفظ الجلالة . { فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عام } أراه الله الآية فى نفسه تدله على قدرة الله على إحياء الموتى ، أو على قدرته على عمران القرية ، والأول أنسب ، ولا يخفى أن الإماتة لا تمتد مائة عام ، بل تقع فى أدنى زمان ، فلا يتعلق مائتان بأمات على ظاهره ، بل يتعلق به تأويله بمعنى ألبثه الله ميتا مائة عام ، والباثة ميتا فرع إيقاعه ميتا ، ويجوز تعليقه بمحذوف مستأنف ، أو محذوف ، أى فأماته الله فلبث ميتا مائة عام ، أو أماته لبث فى موته مائة عام ، أو يجوز تعليقه بمعمول حال مقدرة ، أى فأماته مقدارا لبثه مائة ، وأولى من ذلك أن يتعلق بأمات باعتبار ما فيه من معنى الفعل اللازم المعدى بالهمزة ، لا باعتبار ما فيه من معنى متعدية ، كأنه قيل صيره ميتا مائة عام ، فعلق مائة بميتا وهذا كما قيل فى خوفا حال أو مفعول لأجله ، باعتبار ما فى يريكم من معنى الفعل الثلاثى ، وسمى العام عاما لأن الشمس تعوم فيه جميع البروج . { ثُمَّ بَعَثه } بالإحياء ليريه كيف يحيى الله هذه بعد موتها ، وإنما قال بعثه لإحياء مع أن المار قال أنَّى يحيى ، لأن البعث أدل على أنه عاد كما كان حيا عاقلا مستعد للمعارف والاستدلال . { قالَ } الله تعالى به بخلق كلام أو بملك أو بنبيى { كَمْ لَبثْتَ } وكم ظرف للبث بعده متعلق به ، وإنما كان ظرفا لأن المعنى كم عام أو كم يوم كم ساعة أو نحو ذلك ، أو مفعول مطلق واقع على اللبث ، أى كم لبثت { قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بعْضَ يَوْمٍ } وذلك أن الله أماته أول اليوم المائة ، وبعثه آخر اليوم الأخير منها ، فظن أن بعثه فى آخر اليوم اليوم الذى مات فيه ، وهو يظن أن الشمس قد غربت ، فالتفت فرآها فقال أو بعض يوم ، وقيل أماته صحى ، ولما قال يوماً أضرب عن ذلك ، بأن قال أو بعض يوم ، لأن اليوم لم يكمل له ، وقيل قال لبثت يوما يظن ذلك ظنا ، فخاف خلاف ذلك ، فتكون كاذبا أو كاذب ، فقال أو بعض يوم شكا منه . { قالَ } الله يخلق كلام أو بالملك أو بالنبى { بَلْ لَبثْتَ مِائَةَ عامٍ فانْظُر إلَى طَعَامِكَ وشرابك لم يتَسَنَّهْ } لم يتغير ، وعلامة الجزم حذف الألف والهاء للسكت ، تقرأ فى الوصل شذوذا ، والأصل يتسنن بثلاث نونات ، أدغمت الأولى فى الثانية ، وقلبت الثانية ، وقلبت الثالثة ألفا ، فإن القاعدة أنه إذا اجتمع ثلاثة أحرف متجانسة آخر الكلمة ، خفف بقلب الثانى من جنس الفاء كلملم ، أصله لمم بتشديد الميم الأولى أو بقلب الثالثة ألفا كتقضى ، أصله تقضض ، وتسرى . أصله تسرر ، وربى ، أصلهُ ربب ، فيقال تسنى يتسنى ، فحذفت الألف للجازم ، ومعلوم أن المجزوم يحذف بحذف الآخر إذا كان الباقى ثلاثة أحرف ، يجوز إلحاق هاء السكت به وقفا فقيد يتسنه وقفا ووصلا شذوذا ، وقيل كل ما فيه هاء السكت فى القرآن يجب الوقف عليه ، ويجوز أن يكون الأصل يتسنى يتفعل من السنة على لغة من يجعل لام سنة واوا حذفت ، وعوض عنها الهاء ، ويجمع على سنوات فيقال سانيته أسانيه مساناة ، بقلب تلك الواو ياء لكونها فوق ثلاثة ، أى عاملة بالسنين ، فيقال تسناه بتسناه بذلك المعنى ، فحذف للجازم ألفه ولحقته هاء السكت ، فأصل لم يتسنه على هذا لم تمض عليه سنة ، لكنه استعمل فى معنى لم يتغير ، لأنهُ يلزم فى الجملة من مضى السنة على الشئ أن يتغير أو المعنى على الشبيه ، أى انظر إلى طعامك وشرابك لم تمض عليهِ السنة ، أى كأنه فى عدم تغيره لم تمض عليه السنة ، وهذا المعنى يليق به تفسير الطعام والشراب بما لا يسرع فساده ، وقرأ الكسائى وحمزة لم يتسن بغير الهاء فى الوصل على القياس ، ويجوز أن تكون الهاء أصلا وسكونها جزما ، وهى لام سنة المحذوفة المعوض عنها التاء على لغة من يجعل لام سنة هاء فيقول سنهاة وسانهته مسانهة ، وتسنه يتسنه تسنهاً ، والكلام فيه كالكلام فى الذى قبله سواء لضمير المستتر فى يتسنه عائد للطعام والشراب معاً ، ولكن أفرد لتأويلها بالشئ الواحد وهو ما تقوم به بنية الحيوان ، أو ما يسيغه لبطنه ، ويجوز عوده لشرابك ، ويدل لهُ قراءة ابن مسعود انظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنه ، فإما أن يقدر مثله لطعامك ، أى فانظر إلى طعامك لم يتسنه وشرابك لم يتسنه ، وإما أن يكتفى بالأمر بالنظر إلى ما هو طعامه بعينه وصفته ، ومثل هذا ممكن فى الشراب ، لكن الشراب لما كانت إفاته أزيد لأنه يتغير أيضا بالنقص بالهواء ، ضم إليه لم يتسنه وعلى كل وجه ، فالمراد أنهما لم تتغير ذاتهما بالنقص ، ولا باللون ولا بالطعم ولا بالرائحة ، قيل كان طعامهُ تيناً أو عنبا ، وشرابه عصيراً أو لبنا ، وقيل شرابه ماء فى قلة ، وقيل خمر قديمة ليست من عصير تلك الشجرة . { وانْظُرْ إلى حِمَارِكَ } قال وهب ابن منبه انظر إليه كيف زال ، لحمه وتفرفت عظامه ، وبليت ، وكان له حمار قد ربطه ونحييه الآن وأنت ترى ، وقال الضحاك ووهب بن منبه فى رواية عنه انظر إليه حيا سالما فى مربطه بلا علف ولا شراب بإذن الله ، والحبل المربوط به جديد بقى فى عنقه جديداً والقادر على إحيائه مائة عام بلا طعام ولا شراب قادر على إحياء ما مات ، وعمران ما خرب ، والوجه أدل لما فيه الكلام ، وهى إحياء هذه ، لأن الكلام ليس فى الإبقاء على غير العادة ، بل فى رد ما فات ، وإنما يتم الاستدلال الذى مر على القرية ويتحقق برؤيته حماره ميتاً ثم يراه يحيى وبنفسه إن رأى نفسه تحيا شيئا فشيئا ، وبوجود أولاده شيبا وهو شاب ، وإلا فالمعاند لا يكتفى بقول الله تعالى { قد لبثت مائة عام } فإنه يكذب المائة أيضاً ، وكذا يزداد يقين الموقنين بذلك ، وإنما مد على الكل ما قال الله تعالى والأنبياء والمسلمون { وَلنجْعلكَ آيةً للنَّاسِ } أى وفعلنا ذلك لنجعلك آية للناس ، يؤمن بها المنكر للبعث ، إلا إن عاند ، ويزداد بها إيمان المؤمن به ، وقيل الواو زائدة فجاء قومه وقرأ لهم التوراة بلا نظر ، وقد فقدت كتبها وحفاظها ، ووجدوا نسخة تطابق ما يقرأ وأخبرهم بأخبار صدق ، ووجد أولاد أولاده شيوخا ، فهم إذا حدثهم بشئ قالوا حديث مائة سنة . { وانْظُرْ إلى العِظَامِ } عظام حمارك ، قال له ذلك بعدما أحياه كله ، وبقيت عظام حماره ، فأحيا حماره شيئاً فشيئا وهو بنظر ، أو انظر إلى عظام نفسك وقد أحيا الله رأسه إلى عينيه ، أو عظامه وعظام حماره ، أو عظامهما وعظام الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف ، وليس ينظر إلى ذلك كله بمرة ، بل ينظر إلى نفسه ثم غيره وقد مر قول أن حماره لم يمت . { كَيْفَ نُنْشِزُها } نحييها ونبعثها من موتها ، وقرئ بفتح النون الأولى وضم الشين من نشر ، بمعنى انتشر وقرأ الكوفيون وابن عامر ننشرها بالراء المعجمة ، وضم النون الأولى ، وكسر الزاى أى نرفعها بعضها إلى بعض لنركبها ونحييها ، يقال انشره فنشر بالراء ، وانشزه فنشر بالراء ، وكيف حال من ضمير ننشزها المنصوب أو المرفوع المستتر ، وجملة كيف ننشرها مفعول انظر ، ساغ علمه فى جملة الاستفهام ، ولو جعلنا الجملة بدلا من العظام ، أو من مضاف مقدر ، أى إلى حال العظام أو أول ننشز بالمصدر ، وجعل بدلا لكان المعنى صحيحا ، لكن لا نعرف فى العربية إبدال حملة من مفرد ، ولا سيما مفرد غير وصف ، ولا نعرف كيف حرف مصدر إلا ما يتكلف من يتكلف فى المسألتين ، ولا نقبل عنه ، وقال أبو البقاء كيف ننشرها حال من العظام . { ثمَّ نَكْسُوها لحْماً } تغطيها بلحم ، ونجعله كاللباس عليها ، أو هو اللحم الذى كان عليها قبل ، ولم نذكر له ما يتخلل وما فى دخل اكتفاء بما يظهر ، وأما الجلد فمتصل بالجلد بل هو لحم غليظ . { فَلمَّا تَبيَّنَ لهُ } وفاعل تبين مستتر تقديره فلما تبين له قدر لله ، أى قدرته ودل عليه قوله أعلم . { قَالَ أعْلَم أن اللّهَ عَلَى كُلِّ شىءٍ قَدِيرٌ } أو فاعله ضمير مستتر عائد إلى قوله { أن اللّهَ عَلَى كل شئ قدير } أى فلما تبين هو ، أى تبين الله على كل شئ قدير ، لم يؤنث لأن ضمير المصدر غير الصريح لا يؤنث ، ولو كان المصدر إذا صرح به كان مؤنث كالقدرة هنا ، وأولى من ذلك أن يرجع ضمير تبين إلى الإحياء المأخوذ من قوله { أنَّى يحيى هذه الله بعد موتها } أو لما تبين له ما أشكل عليه وهو ذلك الإحياء ما تقادم عهده ، تبين له ذلك مشاهدة بإحيائه بعد مدة أطول من مده موت هؤلاء أو مدة خراب قريتهم ، أو بإحياء هؤلاء . وقرأ حمزة والكسائى { قال أعلم } ، بوصل الهمزة وإسكان الميم على الأمر ، والذى أمره الله بخلق كلام أو بنبى أو بملك ، أو قال لنفسه اعلم بأمرها تبكيتاً لها إذ عاينت ما استبعدت ، وضمير قال على قراءة { أَعلم } . بفتح الهمزة وضم الميم عائد إلى { الذى مر على قرية } ، وعلى القراءة الأخرى عائد إلى الله أو نفس المار ، وقرأ ابن مسعود قيل اعلم ببناء القول للمفعول ، ووصل الهمزه وإسكان الميم ، وإنما جعلت الضمير لله بخلق الكلام أو بالملك أو بالنبى حيث جعلته كذلك ، ولم أجعله أيضاً كغيرى للملك أو للنبى عدم تقدم عهد لهما إلا ما يفهم فهماً ، ويؤيد أن الذى أمره هو الله قوله تعالى بعد قصة إبراهيم { واعلم أن الله عزيز حكيم } وقوله { ننشرها ثم نكسوها } ، وإذا كان المأمور مؤمنا فإنما ذلك منه تعجب من قدرة الله ، وزاده الله يقيناً ، والمشهور أنه عزير وهو نبى ، أو أرميا وهو نبى ، وأحدهما هو نبى ذلك الزمان مر على الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف موتى ، فوقف وتفكر ، فأوحى الله إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم ، ؟ فقال نعم . فقيل له ناد أيتها العظام إن الله تعالى يأمركن أن تكتسين لحَما ودماً ، وأن تقمن . فقاموا أحياء يقولون سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت . وذلك بعدما أماته بعد تعجبه مائة عام وأحياه ، وروى عن وهب ابن منبه أن الله تعالى بعث أرميا إلى ناشئة بن أموص ملك بنى إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من الله تعالى ، فعظمت الأحداث فى بنى إسرائيل ، وركبوا المعاصى ، فأوحى الله تعالى إلى أرميا أن ذكِّر قومك نعمتى عليهم ، وعِّرفهم أحداثهم ، وادعهم إلىَّ . فقال أرميا يا رب إنى ضعيف إن لم تقونى ، عاجز إن لم تبلغنى ، مخذول إن لم تنصرنى . فقال الله تعالى إنى ألهمك . فقام . أرميا فيهم ولم يدر ما يقول ، فألهمه الله تعالى فى الوقت خطبة بليغة طويلة بيَّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية ، وقال فى آخرها عن الله عز وجل إنى أحلف بعزتى لاقضين عليهم فتنة يتحير فيها الحليم ، ولأسلطن عليهم جباراً فارسا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم . ثم أوحى الله تعالى إلى ملك بنى إسرائيل أنى مهلك بنى إسرائيل بيافث ، وهم أولاد يافث بن نوح عليه السلام ، وهم أهل بابل ، وصالح أرميا وبكى ونبذ الرماد على رأسه ، كل ذلك منه شفقة على الدين ، وتضرع إلى الله لا جزع ، فلما رأى الله تضرعه وبكأه ناداه . يا أرميا أشق عليك ما أوحيته إليك ؟ قال نعم يا رب ، أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسر به . فقال الله عز وجل وعزتى وجلالى لأهلكن بنى إسرائيل حتى يكون الأمر فى ذلك من قبلك . ففرح أرميا بذلك وطابت نفسه ، وقال لا والذى بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بنى إسرائيل ، ثم أتى الملك فأخبره بذلك ، وكان ملكا صالحا فاستبشر وقال إن يعذبنا ربنا فبذنوبنا ، وإن يعفو عنا فبرحمته ، ومكثوا بعد ذلك الوحى ثلاثة سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً فى الشر ، وقلَّ الوحى ، ودعاهم الملك إلى التوبة ، فلم يفعلوا ، فسلط الله عليهم بخت نصر البابلى ، فخرج فى ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس ، فلما فصل سائرا أتى الخبر الملك فقال لأرمياء أين ما زعمت أن الله تعالى أوحى إليك ؟ فقال أرميا إن الله لا يخلف وأنا بربى واثق . ولما قرب الأجل بعث الله تعالى تعالى إلى أرميا ملكا فى صورة رجل من بنى إسرائيل ، فقال أتيتك أستفتك فى رحمى ، وصلت أرحامهم ولم يأتهم منى إلا حسن ، ولا يزيدهم إكرامى إلا إسخاطى فأفتنى فيهم ، فقال أرميا أحسن فيما بينك وبين الله وواصلهم وأبشر بخير . فانصرف الملك ، فمكث أياما ثم أقبل إليه فى صورة ذلك الرجل ، فقعد بين يديه فقال له أرميا من أنت ؟ قال أنا الرجل أتيتك أستفتيك فى شأن أهلى . فقال له أرميا ما طهرت أخلاقهم بعد ذلك قال . با نبى الله والذى بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد إلا قدمتها إليهم وأفضل . فقال أرميا . إرجع إليهم فأحسن إليهم ، أسال الله الذى يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم . فقام الملك فمكث أياما ، ثم نزل بخت نصر بجنوده بيت المقدس ، ففزع منهم بنو إسرائيل . فقال ملكهم لأرميا . يا نبى الله ؟ ما وعدك الله تعالى ؟ فقال . إنى بربى وإثق . ثم أقبل ذلك الملك إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يستبشر بنصر ربه الذى وعده ، فقعد بين يديه رجل فقال له . من أنت ؟ فقال . أنا الذى جئتك فى شأن أهلى مرتين . فقال له أرميا . أما آن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه ؟ فقال الملك . يا نبى الله . إن كل شئ كان يصيبنى منهم قبل اليوم كانت أصبر عليه ، فاليوم رأيتهم على عمل لا يرضى الله تعالى به . فقال أرميا . على أى عمل رأيتهم ؟ قال . على عمل عظيم يسخط الله تعالى ، فغضبت لله عز وجل ، فأتيتك لأخبرك ، وإنى . أسألك بالله الذى بعثك بالحق أن تدعوا لله عليهم ليهلكوا ، فقال أرميا . يا مالك السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام ، وإن كانوا على حق وصواب فابقهم ، وإن كانوا على عمل لا ترضاه فاهلكهم ، فما خرجت الكلمة من فيه حتى أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء على بيت المقدس ، فالتهب مكان القربان ، وأحرقت سبعة أبواب من أبوابه ، فلما رآء ذلك أرميا صاح ونبذ الرماد على رأسه وقال يا مالك السماوات والأرض ميعادك الذى أوعدتنى به . فنودى إنهم لم يصيبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعاءك عليهم ، فاستيقن أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسولا من ربه ، فخرج حتى خالط الوحوش ، ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس ، ووطئ الشام ، وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس ، وأمر جنوده أن يملأ كل رجل ترسه تراباً ويقذفه فى بيت المقدس ، ففعلوا ذلك حتى ملوه ، ثم أمرهم أن يجمعوا من كل بقى فى بلدان بيت المقدس ، فاجتمع عنده من بقى من بنى إسرائيل من كبير وصغير ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان ، وكان فى أولئك الغلمان دانيال وخيانيا وعزير ، وفرق من بقى ثلاث فرق . ثلث قتلهم ، وثلث سباهم وثلث أقرهم فى الشام . ولما رجع بخت نصر إلى بابل ، رجع أرميا إلى بيت المقدس على حمار له ، ومعه عصير عنب فى ركوة وسلة تين فرآى خراب القرية . فقال { أنى يحيى هذه الله بعد موتها } ، ومن قال . إن المار عزير قال . إن بخت نصر ذهب به وبدانيال إلى بابل وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام ، ثم نجا عزير من بابل ، وارتحل على حمار حتى نزل دير هرقل على سطح دجلة فطاف فى القرية فلم ير أحدا ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة فى سلة ، وفضل العصير فى زق وقدر ، أى خراب القرية وهلاك أهلها . فقال . { أنىَّ يحيى هذه الله بعد موتها } فربط حماره بحبل جديد ، وألقى الله عليه النوم ، ولما نام نزع الله منه الروح مائة عام ، وأمات حماره ، وبقى عصيره وتينه عنده ، وأعمى الله عنه العيون ، فلم يره أحد ومنع لحمه من السباع والطير ، ولما مضت عليه سبعون سنة رسل الله تعالى ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له توشد وقال له . إن الله يأمرك أن تنفر بقومك . فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان ، فانتدب الملك بالف قهرمان مع قهرمان ثلثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرون ، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقى من بنى إسرائيل ، وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا كأحسن ما كانوا ، ولما تمت المائة على عزير أحيا الله عينيه ، وسائر جسده ميت ، ثم أحيا الله جسده وهو ينظر ، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه تلوح متفرقة فسمع صوتاً من السماء . أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تكتسى لحماً وجلداً ، فكان ذلك ، ثم نودى إن الله يأمرك أن تحيى فقام الحمار بإذن الله ، ثم نهق وسجد لله ، وقال أعلم أن الله على كل شئ قدير ، فعاد إلى القرية وهو شاب أسود اللحية والرأس ، وأولاد أولاده شيوخ وعجائز شمط ، وقيل لما أحيا الله هذا وهو أرميا وعزير بعث ريحا فجاءت بعظام الحمار ، فركبت حتى الكسرة من عظم فصار حماراً من عظام ، ثم كساها اللحم والعروق والدم والجلد ، فنبت الشعر فصار حماراً إلا روح فيه فبعث الله ملكا ، فأقبل إليه يمشى حتى أخذ بمنخر الحمار ، فنفخ فيه الروح فقام حياً بإذن الله ، ونهق ، وقيل مغمر هو فى الفلوات ، وعن ابن عباس وغيره لما أحياه الله ركب حماره حتى أتى بلده ، فأنكره الناس وأنكرهم ، وأنكر منازلهم ، فانطلق على وهم حتى أتى منزله ، فإذا بعجوز عمى مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة ، وكانت امة لهم ، وحين خرج عنهم كانت بنت عشرين سنة ، فقال لها عزير يا هذه هذا منزل عزير ؟ فقالت نعم . وبكت وقالت ما رأيت أحداً يذكر عزيراً مند كذا وكذا . فقال أنا عزير . فقالت سبحان الله إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة ، ولم نسمع له بذكر ، فقال إنى عزير أماتنى الله مائة سنة ، ثم أحيانى . فقالت إن عزيراً كان مجاب الدعوة ، وكان يدعو للمريض وصاحب البلايا بالعافية ، فادع الله أن يرد على َّ بصرى ، حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها بأبصرتا ، وأخذ بيدها وقال لها قومى بإذن الله ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة ، فنظرت إليه وقالت أشهد أنك عزير ، وانطلقت إلى بنى إسرائيل وهم فى أبنيتهم ومجالسهم ، ولعزير بن شيخ ابن مائة سنة وثمانى عشرة وبنو ابنيه شيوخ ، فنادت هذا عزير قد جاءكم ، فكذبوها . فقالت ، أنا فلانة مولاتكم دعى لى عزير ربه فرد بصرى ، وأطلق رجلى ، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه ، فنهض الناس إليه وقال ابنه كان لأبى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فنظر إليها فعرف أنه عزير . ورى أنه لما رجع عزير إلى قويته ، وقد أحرق بخت نصر التوراة ولا عهد لهم بها فبكى عزير عليها ، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء ، فصار يقرؤها من صدره ، فرجع إلى بنى إسرائيل وقد علمه الله التوراة ، وبعثه نبيا ، فقال أنا عزير ، فلم يصدقوه ، فقال ، أنا عزير قد بعثنى الله إليكم لأجدد لكم توراتكم . فقالوا ، فأملها علينا فأملاها من ظهر قلبه ، فقالوا ، ما جعل الله التوراة فى قلبه بعد ذهابه ، إلا لكونه ابنه ، ورى أنه دخل بيت المقدس ، فقال القوم ، حدثنا آباؤنا أن عزير ابن شرحيل مات ببابل ، وقد كان بخت نصر قتل ببيت المقدس نحو أربعين ألفا من قرأة التوراة وفيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فقرأها عليهم ، وقوبل بنسخة وجدت فى موضع فما اختلفا فى حرف فقالوا عزير ابن الله .