Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 25-25)
Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَبَشِّرِ } خبر وأصل البشارة إظهار السرور فى بشرة الوجه وهى جلدته ، فإن النفس إذا فرحت انتشر الدم كما ينتشر الماء فى الشجرة . فاستعملت فى الخبر الذى يسر من سمعه ، كأنه قيل أظهر أثر الفرح فى وجوه المؤمنين بإخبارك إياهم أن لهم جنات . وإنما يظهر كمال ظهور بالخبر الأول . فمن قال لعبيده من بشرنى بقدوم ولدى فهو حر ، فأخبروه فرادى ، أعتق أولهم . وقد قيل إن البشارة هو الخبر الأول وإن قال من أخبرنى ، فأخبروه واحداً بعد واحد عتقوا جميعاً . إلا أن نوى غير ذلك فله نيته . واستعمال البشارة فى الخبر حقيقة ، وفى الشر مجاز على طريق التهكم بالاستعارة التبعية لعلاقة التضاد ، أو على طريقة قوله تحية بينهم ضرب وجيع ، من حيث إنه خبر غير سار وإن لم يكن فيه تهكم والخطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم - أو لعالم كل عصر من زمانه - صلى الله عليه وسلم - إلى آخر الدهر ، فشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - وخلائقه ، وهم العلماء ، أو لكل من يتأهل أن يبشر المؤمنين ويقدر عليه ، والمتبادر هو الوجه الأول . والثالث أوكد وأبلغ . لأنه يشعر بأنه ثبوت الجنات لهم حقيق بأن يبشرهم به كل من قدر على التبشير به ، لعظم شأنه لكن الوجه الأول مع مبادرته قد تضمن هذا ، لأن الحكم الذى خوطب به النبى صلى الله عليه وسلم حكم لأمته تبعاً له شرعاً ، فقد أشعر شرعاً أن الأمة حقيق لهم أن يبشر به بعضهم بعضاً . والثانى أظهر فى المراد ، غير أن العلماء أيضاً يتبعهم غيرهم فى التبشير ، كما اتبعوا هم النبى - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل أبشروا يا أيها الذين آمنوا إن لكم جنات تفخيما لشأنهم ، وإشعاراً بأنهم احقاء أن يبشروا أو يهنئوا بما أعد الله لهم ، والحملة مستأنفة ، متصلة فى المعنى ، بقوله { فَإن لَمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفعْلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } لأن كلا منهما وصف لحال فريق وجزاؤه . فالأولى وصف لحال من كفر بالقرآن وكيفية عاقبته . والثانية وصف لحال من أمن به وكيفية ثوابه ، وزادت الجملتان اتصالا إذا كان الإيمان والكفر جميعاً بشىء واحد ، وهو القرآن . وقد جرت سنة الله فى كتابه أن يعقب الترهيب بالترغيب . والترغيب بالترهيب . زجراً عما يردى عن الله وإعزاء بما ينجى أو مستأنفة متصلة فى المعنى بقوله { فَاتَّقُوا النَّارَ } للمشاكلة بالتضاد بالإنذار والتبشير ، لأنهم إذا لم يأتوا بمثل سورة منه بعد التحدى ظهر إعجازه ، وإذا ظهر فمن كفر استوجب العقاب بالنار ، ومن آمن استوجب الجزاء بالجنة ، وذلك يستدعى أن يخوف هؤلاء ويبشر هؤلاء وقرأ زيد بن على وبشر - بالبناء للمفعول - على أن الجملة مستأنفة متصلة فى المعنى بأعدت . ويجوز عطفها على أعدت إذا جعلنا أعدت مستأنفة . والمعنى أن النار أعدت للكافرين ، والجنات للمؤمنين . لا إذا جعلناها حالا أو صلة بعد صلة ، لأن المعطوف على الحال أو الصلة حال أو صلة ، فيحتاج لرابط ولا رابط فى بشر . { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمَلُوا الصَّالِحَاتِ } ترى الإنسان يقيد كلامه مرة واحدة بقيد ، فيحمل سائر كلامه المطلق على هذا القيد ، فكيف يسوغ لقومنا أن يلغوا تقييد الله عز وجل الإيمان بالعمل الصالح مع أنه لا يكاد يذكر الفعل من الإيمان إلا مقروناً بالعمل الصالح ، بل الإيمان نفسه مفروض لعبادة من يجب الإيمان به ، وهو الله تعالى ، إذ لا يخدم الإنسان مثل سلطاناً لا يعتقد بوجوده وبثبوت سلطنته ، فالعمل الصالح كالبناء النافع المظلل ، المانع للحر والبرد والمضرات ، والإيمان أس فلا ينفع الأس بلا بناء عليه ، ولو بنى الإنسان ألوفاً من الأسوس ولم يبن عليها ، لهلك باللصوص والحر والبرد ، وغير ذلك . فإذا ذكر الإيمان مفردا قيد بالعمل الصالح ، وإذا ذكر العمل الصالح فما هو إلا فرع الإيمان ، إذ لا تعمل لمن لا تقر بوجوده ، وفى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان دليل على أن كلا منهما غير الآخر ، لأن الأصل فى العطف المغايرة بين المتعاطفين . ففى عطف الأعمال الصالحات على الإيمان إيذان بأن البشارة بالجنات ، إنما يستحقها من جمع بين الأعمال الصالحات والإيمان ، لكن الأعمال الصالحات تشمل الفرض والنفل . والمشروط الفرض وأما النفى فزيادة خير ، قلت العمل الصالح ما أمر به الشرع استحباباً أو إيجابا ، وقال بعضهم العمل الصالح ما كان فيه أربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص . وقال عثمان بن عفان وعملوا الصالحات أخلصوا الأعمال عن الرياء وغيره مما يفسدها ، لأن العمل الذى لم يخلص غير صالح ، والصالحات جمع صالحة ، اسم فاعل فى الأصل ، تغلبت عليه الاسمية . ولا مانع من بقائه على الأصل . والتقدير الفعلة الصالحة - بفتح الفاء وإسكان العين - أو العملة الصالحة - بفتح العين وإسكان الميم - أو الخصلة الصالحة أو الخلة الصالحة ، ومما يحتمل تغلب الاسمية والبقاء على الأصل قول الحطيئة @ كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتينى @@ قال زكرياء دعا النعمان بحلة من حلل الملوك ، وقال للوفود وفيهم أوس بن حارثة بن لام الطائى احضروا غداً فإنى ملبس هذه الحلة أكرمكم ، فلما كان الغد حضروا إلا أوساً ، فقيل له فى ذلك قال إن كان المراد غيرى فأجمل الأشياء بى ألا أحضر وإن كنت المراد فسأطلب . فلما جلس النعمان فلم ير أوساً طلب وقيل احضر آمناً مما خفت ، فحضر وألبس الحلة ، فحسده قوم من أهله وقالوا للحطيئة اهجه ولك ثلاث مائة بعير . وروى مائة بعير ، فقل كيف الهجاء وما تنفك صالحة البيت وتنفك تزال ، ويظهر الغيب حال . أى ملتبساً بالغيب أى غائباً . والظهر مقحم للتأكيد . معنى الغيب . وتأتينى خبر تنفك . وأل فى الصالحات للاستغراق . على أن المراد به الفروض وإن قلنا الفرض والنقل فللحقيقة الصادقة بالفرض ، ولا بد وبالنفل غير مشروط لا للاستغراق إذ لا يكاد مؤمن يأتى بجميع الأعمال الصالحات فرضها ونفلها . { أَنَّ لَهُمْ } أى بأن لهم . { جَنَّاتٍ } الجنة الأشجار المظلة سميت لأنها تستر ما تحتها بالتفاف أغصانها مبالغة أو تحقيقاً . قال زهير بن أبى سلمى @ كأن عينى فى غربى مقتلة من النواضح تسقى جنة سحقا @@ فسمى النخل جنة لأنها تستر ما تحتها إذا كانت صغيرة أو تستره عما يعلوها من طائر أو سماء أو غيرهما ، والسحق الطوال ، والغرب الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، وهو فى البيت مثنى . والمقتلة الناقة المذللة للسقى ، والنواضح جمع ناضح وهو البعير الذى يسقى عليه . وخص المقتلة لأنها تخرج الدلو مليئاً بخلاف الناقة الصعبة فإنها تنفر فيسيل الماء من الدلو . وخص النخل لأنه أحوج الشجر إلى الماء وخص النخل الطوال لأنها أحوج النخل . وجعل عينيه فى الغربين ولم يجعلهما غربين . كناية لطيفة ، كأنما ينصب من الغربين ينصب من العينين . وتسمى الأرض التى فيها الأشجار جنة أيضاً ، لأن ما فيها الأشجار ليستر ما تحته لالتفافه . وسمى الله دار ثوابه جنة ، لأن فيها أجنة ملتفة ساترة . قال ابن عباس وجرير بن عبد الله وغيرهما سميت الجنة جنة لأنها تجن من دخلها أى تستره ، وكل جنان جنة ، وجمعها جنت . كما فى الآية . وأصل ذلك كله من جنه أى ستره . ومن ذلك سمى القلب جناناً ، وما فى بطن الحامل جنيناً ، وسترة القتال جنة وضد الإنس جنا وجنة ، وقيل سمى دار ثوابه الجنة ، لأنه ستر فى الدنيا ما أعد فيها للبشر من أنواع النعم . كما قال الله تعالى { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } وقيل الجنات الحدائق ذات أشجار ومساكن . واعلم أن الجنة مشتملة على سبع أنواع كما ذكره ابن عباس جنة الفردوس ، وجنة عدن ، وجنة النعيم ، ودار الخلد ، وجنة المأوى ، ودار السلام ، وعليين ، وكل واحدة من هذه الأنواع السبعة مشتملة على جنات كثيرة متفاوتة ، بحسب قوة الأعمال وكثرتها والمبالغة فى الإخلاص وغير ذلك . ولذلك جمعت فى الآية ونكرت ، قيل الجنة ما فيه شجرة ونخل . والفردوس ما فيه عنب . واللام فى قوله لهم ، لام استحقاق . والمراد أن المؤمنين استحقوا الجنات لأجل الإيمان والعمل الصالح ، من حيث ترتب عليهما الاستحقاق ، لا لذاتهما ، فإنهما لا يكافئان النعم السابقة ، ولا يعاد لان الذنوب الصادرة ، بل لا لنعمة واحدة ولا ذنباً واحداً ، فضلا عن أن يقتضيا ثوابا . ولا سيما ثواب هو الجنة ، كيف وهما نعمتان يجب عليهما الشكر ، وكل شكر صدر استحق شكراً آخر عليه ، لأنه نعمة ، ولا يوهمك خلاف ذلك ما ورد فى الآثار أن ثواب العمل كذا وثواب العمل الآخر كذا ، لأن معناه أن الله - تبارك وتعالى - جعل من فضله ورحمته أن عمل كذا له كذا من الخير ، وليس المراد أن ذلك ثواب يوجبه العمل ، ويكون عديلا له مستوياً معه استواء ربع الربا له مع خياطة الجبة ، وسقى القربة مع مد شعير ، ويدل لذلك أنه - تعالى - غنى على الإطلاق ، لا تنفعه الطاعة ، ولا تضره المعصية ، وأن كل عمل صالح عمله الإنسان أو غيره ، فهو نعمة من الله عليه ، ثم إن المؤمنين يستحقون الجنات إن ماتوا على الإيمان غير مرتدين ولا مصرين لقوله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه } وقوله { لئن أشركت } الآيتين . وهذا قيد معتبر حين لم يذكر استغناء بذكره حين ذكر كما مر لك فى اشتراط العمل الصالح ، حيث لم يذكر مع الإيمان . وعنه - صلى الله عليه وسلم - " أن ثياب الجنة تتشقق عنها تمر الجنة " رواه النسبى عن أبى هريرة . وقال - صلى الله عليه وسلم " ما فى الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب " رواه الترمذى عن أبى هريرة ، وقال حديث حسن . وأخرج أبو بكر بن شيبة عن النبى صلى الله عليه وسلم " إن أمتى يوم القيامة ثلثا أهل الجنة إن أهل الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف وإن امتى ثمانون صفاً " وقال صلى الله عليه وسلم " أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون من هذه الأمة وأربعون من سائر الأمم " . رواه الترمذى عن يزيد بن حصيب وقال حديث حسن . { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار } الضمير عائد إلى الجنات بتقدير مضاف ، أى من تحت أشجارها ، وخصت الأشجار بالتقدير لأنها المحتاجة إلى الماء فى الجملة ، ولدلالة الجنات عليها ، ولك أن تقدر من تحت أشجارها وقصورها ، إشعاراً بأن قصورها أكمل وأهلها أنعم ، إذ كانت الأنهار تجرى من تحتها . وكيفية تقدير القصور أن يقال إن الآية حذف فيها المضاف وهو أشجار ، والمضاف والمضاف إليه ، وهما قولك وقصورها ، وحذفها من باب حذف العاطف والمعطوف وما يلتحق به . ولك أن تقول لما حذف المضاف الأول ، استغنى بالمضاف عن المضاف الذى قبله والذى بعده ، من حيث الاشتمال والمعنى ، لا الإعراب . ولك تقدير مضاف غير منون ومضاف معطوفاً . أى من تحت أشجارها وقصورها ، كقولك بين ذراعى وجبهة الأسد ، ولك أن ترجع المضمر إلى الأشجار أو إلى الأشجار والقصور بدلالة الجنات ، وهى على الأشجار أدل بحسب اللغة . وأما بحسب عرف الناس فى جنة الآخرة فهى على القصور أدل . والأنهار جمع نهر ، بفتح النون والهاء ، جمع قياس . وأما النهر ، بفتح النون وإسكان الهاء ، فقياس ، جمعه أنهر ، بضم الهاء ، استغنى عن جمعه بجمع النهر ، بفتحتين ، هو اللغة الفصحاء ، ومعناهما المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، فهو كالفرات والنيل فان مادة - ن هـ ر - للوسع فنسمى النهر نهر لاتساعه ، ولأن الماء يجفره للجوانب أو الأسفل ، وذلك تطويل وتوسيع ، يقال أنهرت الشىء وسعته . قال صلى الله عليه وسلم " ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكلوه وما وسع الذبح حتى جرى الدم " وذكر بعض فى معناه أنه ما وسع الذبح حتى جرى الدم كالنهر . واستنهر الشىء اتسع ، والنهار ضد الليل ، وواسع ممتد ويسمى الضور نهاراً لامتداده من أول النهار لآخره ، والإنهار ، بكسر الهمزة ، الإسالة بسعة وكثرة ، وأنهر الطعن وسعه ، ونهر أحداً ، غلظ صوته عليه ، والتغليظ فيه توسيع . والنهر فضاء يكون بين أفنية القوم يلقون فيها كناستهم ، وأل للجنس أو للعهد من قوله تعالى { وأنهار من ماء غير آسن } الآية . لتقدم نزول سورة القتال على نزول سورة البقرة ، وذكر فيها لفظة أنهار أربع مرات منكرة ، فهن المراد هنا إذا عرفت ، فالمراد هنا أنهار الماء ، وأنهار اللبن ، وأنهار الخمر ، وأنهار العسل المصفى . كما ذكرت فى سورة القتال وهن جميعاً تحت قصور أولياء الله ، وحيث شاء الله ، وزاد الماء بالجرى تحت الأشجار وكذا يشمل الأنهار ذلك كله إذا جعلت فيه أل للجنس . واعلم أن البحر والنهر والجدول ونحو ذلك أسماء للأرض التى فيها ذلك الماء ونحوه لا للماء نفسه أو نحوه ، فإسناد الجرى للأنهار مجاز عقلى ، من إسناد ما للحال للمحل فإن الجارى حقيقة هو نحو الماء لا الأرض . ولك أن تقول المراد بالأنهار الماء ونحوه تسمية للحال باسم المحل فيكون مجازاً لغوياً مرسلا ، ولك أن تقول الأنهار الأرض ، ويقدر مضاف أى ماء الأنهار ونحوه ، فيكون الأنهار على هذا الوجه مجازاً بالحذف ، فعلى الوجه الأول تجرى حقيقة وأنهار حقيقة ، والتجوز إنما هو فى الإسناد ، وعلى الثانى والثالث يجرى حقيقة ، والأنهار مجاز ، وداعى ذلك كله هو أن الجارى هو الماء ونحوه . قال أنس خادم النبى صلى الله عليه وسلم أنهار الجنة تجرى فى أخدود الماء واللبن والخمر والعسل ، وهو أبيض كله فطينة النهر مسك أذفر ورضراضه الدر والياقوت ، حافتاه قباب اللؤلؤ . رواه عنه مسروق . والأخدود الشق والماء الجارى من النعمة العظمى واللذة الكبرى ، والحنة ولو كانت مخضرة متزينة إنما يتم أبتهاج النفس بها إذا كان فيها ماء جار ، وإلا كانت كصورة لا روح لها ، ولذلك ما ذكر الله - سبحانه - الجنات إلا مقرونة بذكر الأنهار . { كُلَّمَا رُزِقُواْ } كل ظرف زمان متعلق بقالوا ، وما مصدرية ، وإنما سوغ ظرفية كل المصدر من الفعل بعد ما لإضافة كل إليه ، وقد علم أن المصدر ينوب عن الزمان . فهذا مصدر نائب عنه فاكتسب ما أضيف إليه الظرفية منه ، وجملة قالوا مستأنفة مع ما يتعلق بها وتوابعه أو نعت لجنات أو حال منها ، ولا حاجة إلى تقدير مبتدأ يخبر عنه بكل تقديره هم أو هى ، لأن المعنى تم بدون ذلك ، ولأن الزمان لا يخبر به عن جنة ، وإن قدر المبتدأ مصدراً فتكلف . وعلى الاستئناف فهو بيانى كأنه لما قيل إن لهم جنات ، قال قائل أثمارها مثل أثمار الدنيا أم أجناس أخرى ؟ ووقع فى قلبه ذلك ، فأجيب بقوله { كُلَّمَا رُزِقُواْ } … ألخ . وفى كونها نعتاً أو حالا أيضاً كشفا لهذا الذى قد سأل عنه سائل . ومعنى رزقوا رزقهم الله أو رزقهم الملائكة ، أى أتوهم بما يأكلون من الثمار . ويؤيد الأول قوله رزقنا من قبل أن جعل على رزق الدنيا . { مِنْهَا } من الجنات . ومن للابتداء ، أو بمعنى فى . { مِنْ ثَمَرَةٍ } من هذه للابتداء أما إذا جعلنا الأولى فى بمعنى ، فلا إشكال . وأما إذا جعلناها للابتداء فإما يصح أن تكون الثانية للابتداء ، مع امتناع تعدد الحرف لمعنى واحد ، بلا واسطة التبعية ، إذا كان عاملها واحداً ، لأن الأولى متعلقة برزقوا ، والثانية بمحذوف حال من { رِزْقاً } أى رزقا ثابتا من جنس الثمرة ، أو مبتدأ منه ، أو قوله { مِنْ ثَمَرَةٍ } بدل بعض . من قوله منها ، على حذف الرابط ، أى من ثمرتها ، أو من ثمرة فيها ، ولا إشكال على هذا لأنه بالتبعية ، وسواء فى الحكم تعدده لفظاً ومعنى أو معنى أو تعلق الأولى بمحذوف حال من رزقا ، الثانية بمحذوف حال من ضمير الاستقرار المستتر فى قوله منها ، أى آتياً من الجنات أو ممتداً من الجنات ، آتياً من ثمرة ، أو مبتدأ منها ، فقيد الرزق بكونه مبتدأ من الجنة آتياً منها بكونه مبتدأ من ثمرة آتياً منها ، ويجوز كون الثانية للبيان ، متعلقة بمحذوف حال من رزقا أى رزقا هو ثمرة ، ويجوز أن تكون للابتداء على طريق التجريد البديعى ، أى رزقا متولداً من ثمرة ، أو رزقوا من الثمرة رزقاً أكد الرزق وعظمة ، حتى كأنه ينتج ثمرة ، أو أكد الثمرة وعظمها ، حتى كأنها ينتج منها رزق آخر غيرها ، لكمال الثمرة فى الانتفاع ، والرزق ما ينتفع به ، أو لكمال الرزق . وقد قال القزوينى والطيبى التجريد أن ينتزع من ذى صفة آخر مثله فى إيهاماً لكمالها فيه . واللفظ للطيبى . وسيأتى لفظ القزوينى - إن شاء الله - وإنما قال إيهاماً باعتبار مبالغات الناس ، وأما مثل الآية فلا إيهام فيه ، ولم يذكر القزوينى لفظ إيهام ، وتعليق يرزقوا . والأولى ظرفية أو تجل بدلا من الأولى مع مدخوليهما ، أو بمحذوف حال من { رِزْقاً } كما رأيت . كما أنك إذا بالغت فى شجاعة زيد قلت رأيت من زيد أسداً ، وفى كرمه قلت رأيت منه بحراً . { رِزْقاً } مفعول ثان لرزقوا ، والأول هو الواو ونائب عن الفاعل . { قَالُوا هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } فى الدنيا ، والإشارة إما إلى نوع ما رزقوا حقيقة ، لا إلى نفس الشىء الذى رزقوه ، وحضر عندهم ، وإنما ساغ ذلك لأن النوع فى ضمن فرده فبحضور الفرد تحضر الحقيقة وتشخص فى الذهن . تقول حين حضور الأسد هذا أجرأ السباع ، ولست تريد خصوص هذا الأسد الحاضر ، بل جنس الأسد ، أما إلى نفس الشىء الذى رزقوه وحضر عندهم على التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه . والأصل هذا كالذى رزقنا من قبل ، أو مثل الذى رزقنا من قبل ، كقولك زيد أسد فالكلام على الأول حقيقة لا مجاز ولا حذف ، لان المراد النوع ، وعلى الثانى مجاز بالاستعارة ، ومبالغة ، إذ لا يكون فرد عين فرد آخر سواء من نوع أو نوعين واعلم أن الله - جلا وعلا - جعل ثمر الحنة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس اليه إذا رأته ، لأن الطبع مائل إلى المألوف ، نافر عن غير المألوف ، وليتبين مزية ثمر الجنة على مثله من ثمر الدنيا ، وهى مزية عظيمة لا يعلم غايتها إلا الله - تبارك وتعالى - ولو كان ثمر الجنة جنساً آخر غير معهود فى الدنيا ، لظنوا أن ثمر الجنة لا يكون إلا كما ألفوه فى الدنيا ، فلا يظهر التفاوت ، فلا تتم اللذة تمامها فى اتحاد الجنس وتفاوت الطعم ، فإنه إذا اتحد استحضر طعم الدنيا وطعم الآخرة ، فيظهر التفاوت العظيم ويدوم الاستعظام والاستغراب { كُلَّمَا رُزِقُواْ } لأنه كلما رأوا ثمرة الجنة حضر فى قلوبهم ثمرة الدنيا ، لتشابه اللون فيسبق إلى النفس اتحاد الطعم ، فيوجد متفاوتا بالغاية وكذا فى عظم اللون والجثة ، كلما رأوا ثمرة الجنة فى أعظم لون وأصفاه . وأكبر جثة حضر فى قلوبهم نقص ثمرة الدنيا عن ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بقوله من قبل فى الجنة ، إذا رزقوا المرة الثانية فى الجنة ، قالوا هذا الذى رزقنا فى المرة الأولى فيها ، وكذا الثالث والرابعة ، إلى ما لا ينقطع كله على شبه المرة الأولى ، وهكذا طعام الجنة متشابه الصور ، كما حكى عن الحسن أن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول هذا الذى رزقنا من قبل ، فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف ، وإنما قال الواحد رزقنا لأنه يأكل هو وأزواجه الدنيوية وأزواجه الحور . وعنه صلى الله عيله وسلم " والذى نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هى بواصلة إلى فيه حتى يبدل الله مكانها مثلها " قال جار الله فإذا أبصروها والهيئة هيئة الأولى قالوا هذا الذى رزقنا من قبل . والتفسير الأول أحسن وهو تفسير القبلية فى الدنيا ، لأنه إنما يعظم للتعجب والاستغراب ، بعظم تفاوت ثمرة الجنة بثمرة الدنيا غاية التفاوت صفاء ولوناً ولذة وطعماً وكبراً ، مع التشابه البليغ فى الصورة ، وبذلك أيضاً يعظم فرحهم واغتباطهم بما وجدوا ، فيذكرون ذلك القول كلما رزقوا ، أو لأن التفسير الثانى غير مشتمل على الأعراض الموجودة فى الأول ، من كون النفس تميل إلى الثمرة إذا رأتها كثمرة الدنيا أول ما ترى ، بخلاف ما لو كانت مخالفة لها فإنها لا تميل إليها حتى تذوق ، وكون الطباع مائلة إلى المألوف وكونها غير نافرة من غيره ، وكون المزية تتبين بالتفاوت فى نحو الطعم مع التشابه فى الصورة ولأن التفسر الأول استلزم الثانى بلا عكس . وعن ابن عباس ليس فى الآخرة شىء مما فى الدنيا سوى الأسماء ، وأما الذوات فمختلفة ، وهذا يرجح التفسير الثانى . والذى عندى أن قولهم هذا الذى رزقنا من قبلن مجاز مركب ، لأنه خرج عما وضع له ، موضوع للإخبار ولم يستعمل فيه ، بل فى التعجب ، فظهر لك أن المجاز لمركب لا يختص بالاستعارة ، وكذا قال ابن عباس إنه تعجب وقال جماعة أن ذلك إخبار من بعض لبعض ، وأقول ليس قول الجماعة هذا على ظاهره ، كما قيل ، بل مرادهم أن ذلك إخبار من بعض لبعض ، على جهة التعجب ، كما قال الحسن ومجاهد يرزقون الثمرة ثم يرزقون بعدها مثل صورتها والطعم مختلف فهم يتعجبون بذلك ، ويخبر بعضهم بعضاً . { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } أى أتاهم الله أو الملائكة بالرزق الذى فى الجنة والذى فى الدنيا متشابهين . أما الذى فى الجنة فأتاهم به الملائكة بإذن الله ، وأما الذى فى الدنيا فأتاهم الله به فى الدنيا ، بمعنى خلقه وجعله آتياً إليهم ، فالهاء للرزق الشامل للرزقين ، لأنه ولو لم يتقدم إلا ذكر رزق واحد . لكن قوله { هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْل } يدل على اثنين لأن فيه إشارة إلى الحقيقة بحضور فرد تقدم فرد نظيره ، ولو كان واحداً باعتبار الحقيقة والماهية ، أو لأن فيه مشبها أو مشبها به ، ويسمى مثل ذلك الضمير الكناية الإيمائية ، لأن مرجعه لم يصرح به كل التصريح ، لأن المشبه به صريح ، على طريق أنه المشبه مبالغة ومن ذلك قوله تعالى { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } أى بمطلق الغنى ومطلق الفقير المدلول عليهما ، يذكر الغنى والفقر فى الإنسان الواحد على طريق البدلية لا الشمول . وهذا أدق نظراً من أن نقول القبلية فى الجنة . وتقول الهاء عائدة إلى رزق الجنة فقط ، المذكورة فى قوله جل وعلا { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } وقال أبو حيان الهاء عائدة إلى رزق الجنة فقط على أن القبلية فى الجنة لأن رزق الجنة هو المحدث عنه ، والمشبه بالذى رزقوه من قبل ، فهو العمدة فى الكلام ، فليرجع إليه الضمير ، ولأن الجملة جاءت محدثاً بها على الجنة وأحوالها ، ولأن الأصل فى الضمير أن يرجع إلى ما صرح به على أنه هو لا على أنه غيره ، ولأن الأصل فى الضمير الذى على صيغة المفرد أن يرجع إلى المفرد لا إلى اثنين ، ولكلام ابن عباس ، ولكلام الحسن المذكورين فإن الأصل فى التشابه أن يكون فى الطعم والتلذذ واللون والرائحة ونحو ذلك . وقد مر عن ابن عباس أنه ليس فى الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء ، فيضعف التشابه بين طعامهما ، وإنما يقوى بين طعامى الجنة لأنهما باللون والتلذذ والطعم وغيرهن حتى لا يميز بينهما ، والتشابه بين طعام الجنة طعام الدنيا فى الصورة فقط ، على ما فسر به القاضى كلام ابن عباس ، وهو ولو كان كافياً فى إطلاق التشابه لكنه ضعيف ، وفى التسمية فقط على ما فسره به غيره ، وتفسير القاضى أحسن فكبرى رمانات الدنيا لا تفضل عن حد البطيخة الصغيرة ، ورمانة الجنة تشبع العيال العظيم كما فى الحديث ، وكبرى نبق الدنيا لا تجاوز فلكة المغزل ، ونبق الجنة كقلل هجر كما فى الحديث ، وظل شجرة الدنيا ما ترى وظل شجرة الجنة أكثر من مسيرة الراكب المجد مائة عام كما فى الحديث . وعن مسروق نخل الجنة نضيد من أصلها إلى فروعها ، وثمرها أمثال القلال ، كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وأنهارها تجرى فى غير أخدود ، والعنقود اثنا عشر ذراعا ، قيل متشابه فى اللون والطعم والرائحة ، وقيل فى كونه خياراً كله لا ردىء فيه . وقال الكلبى . متشابه فى المنظر مختلف فى الطعم ، وكذا قال ابن عباس ، فالكلبى رواه عنه . ويجوز عن القاضى أن يكون المراد بقوله { هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْل } أن هذا رزقناه فى الجنة هو الذى رزقنا الله فى الدنيا من المعارف والطاعات ، أى جزاؤها ، فهو يتفاوت بتفاوتها فى اللذة ، ووجه الشبه والشرف والمزية وعلو الطبقة ، فذلك كقوله جل وعلا { ذوقوا ما كنتم تعملون } لكن هذا فى الوعيد . وآية البقرة فى الوعد وتفسيرها بهذا قريب من تفاسير الصوفية وبمقدار قربها منها يضعف لأن تفاسيرهم لم يأذن الشرع بها ، وبها خرجوا عنه إذ اعتقدوا أنها معان نزل القرآن على إرادتها ، أعاذنا الله - جل وعلا - والله أعلم . والواو واو الحال ، والجملة حال من رزقا ، ولو كان نكرة . لأن المراد رزقاً عظيما ، وتنكيره للتعظيم . فهو مخصوص ، وقد خص أيضاً بالحال الأولى المتقدمة عليه ، التى أصلها أنه نعت له ، أو الواو للاستئناف . والجملة مستأنفة معترضة عند الزمخشرى ، بناء على جواز الاعتراض آخر الكلام . والأكثرون يسمونه تذييلا ، وهو أن يعقب الكلام بما يشتمل على معناه توكيدا لا محل له من الإعراب كما ذكره زكريا ، والتذييل تعقيب الجملة بجملة تشتمل على معنى الجملة الأولى ، لتوكيد المنطوق به ، جار مجرى المثل فى أن يقصد بالجملة الثانية فيه حكم كلى منفصل عما قبله ، جار مجرى المثل فى الاستقلال بنفسه وكثرة الاستعمال ، نحو { إن الباطل كان زهوقا } ونحو { وهل نجازى إلا الكفور } إذا قلنا إن المعنى هل يعاقب إلا الكفور ؟ أو غير جار مجراه نحو { وهل نجازى إلا الكفور } إذا قلنا إن المعنى هل يجازى ذلك الجزاء المذكور ليتصل بما قبله ، أو لتوكيد المفهوم كقوله @ ولست بمستبق أخلا لا تلمه على شعث أى الرجال المهذب @@ فإن قوله أى الرجال المهذب تأكيداً لما يفهم مما قبله من أنه لا كامل فى الرجال ، والاعتراض أن يؤتى فى أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر ، لا محل لها من الإعراب لنكتة ، سوى دفع الإيهام ، كالتنزيه فى قوله تعالى { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } والدعاء فى قوله @ إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعى إلى ترجمان @@ والتشبيه فى قوله @ واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتى كلما قدرا @@ ومن الاعتراض بأكثر قوله تعالى { فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم } فإن عرض الإتيان من حيث أمر الله هو طلب النسل ، وقوله { نساؤكم حرث لكم } بيان لهذا الغرض . وأجاز بعض من قال إن النكتة قد تكون غير ما ذكر ، كدفع إيهام خلاف المقصود ، أن يكون الاعتراض آخر جملة ، لا تليها جملة متصلة بها معنى ، بل تم بها الكلام . أو تلته جملة غير متصلة بها معنى ، وهو اصطلاح مذكور فى مواضع من الكشاف ، فيشمل التذييل مطلقاً ، والذى عندى أن قوله { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهَاً } معترض بين كلامين متصلين معنى ، فإن قوله { أنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } إلخ متصل بقوله . { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرةٌ } مبرءات مما يختص بالنساء من الأقذار ، كالحيض والنفاس ، وما لا يختص بهن كالبول والغائط وسائر الأقذار والنتن ، وما يغلب فيهن كدنس الطبع وسوء الخلق فى القول والفعل والقذر والخيانة عن الحسن عن رسول الله - صلى الله عله وسلم - أنه قال فى نساء الجنة " يدخلنها عربا أترابا لا يحضن ولا يلدن ولا يتمخطن ولا يقضين حاجة الإنسان " وليس فى الجنة قذر . وقيل مطهرة من الإثم والأذى ومساوئ الأخلاق . والمراد فى الآية نساء الدنيا فى الجنة والحور العين ، وقال بعضهم هن نساء الدنيا طهرن من أقذار الدنيا ، وقيل نساء الدنيا طهرن من مساوئ الأخلاق . ولا ولادة فى الجنة إلا إن اشتهاها السعيد فتلد له فى الوقت بلا وجع ولا قذر . وروى ابن ماجه عن أسامة بن زيد " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات ذا يوم لأصحابه " ألا مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها ، أى لا عوض لها ورب الكعبة ، نور يتلألأ ، وريحانه تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وفاكهة كثيرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة فى مقام أبداً فى حبرة ونضرة ، فى دار عالية سليمة بهية " ، قالوا نحن المشمرون لها يا رسول الله ، قال قولوا إن شاء الله ، ثم ذكر الجهاد وحض عليه " ، ذكره القرطبى . قال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يبزقون ، يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء رشحهم كرشح المسك " رواه مسلم . وفى رواية ورشحهم المسك وقوله " يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس " معناه أنه يجرى الحمد والتسبيح على ألسنتهم كما يجرى النفس فلا يشغلانهم عن شىء كما لا يشغل النفس . ومعنى طعامهم جشاء فضول طعامهم جشاء ، والجشاء تنفيس المعدة . والرشح العرق . قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درى في السماء إضاءة ، لا يبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ومجامرهم اللؤلؤ والبخور عود الطيب ، وأزواجهم الحور العين على خلق واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً فى السماء " رواه البخارى ومسلم ، وفى رواية " ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم قلب رجل واحد ، يسبحون الله بكرة وعشيا " ورويا أيضاً عن أبى موسى الأشعرى ، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال " إن للمؤمن فى الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها فى السماء ستون ميلا ، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضا " وروى الترمذى عن أبى هريرة وقال إسناده حسن ، ليس إسناده بذلك القوى ، " أنه قال قلت يا رسول الله مم خلق الله الخلق ؟ . قال " من الماء " قلت الجنة ما بناؤها ؟ … قال " لبنة من ذهب ولبنة من فضله وبلاطها المسك الأذفر وحصاؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، ومن يدخلها ينعم لا ييأس ، ويخلد ولا يموت ، ولا تبلى ثيابهم ، ولا يفنى شبابهم " " وروى الترمذى عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فى الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ، من فوقها يكون العرش ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " وروى البخارى ومسلم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن فى الجنة لسوقا يأتونها يوم الجمعة ، فتهب ريح الشمال فتحثو فى وجوههم وثيابهم ، فيزدادوا حسناً وجمالا ، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالا ، فيقول لهم أهلوهم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا ، فيقولون وأنتم والله قد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا " وروى الترمذى عن على بن أبى طالب ، وقال حديث غريب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن فى الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعون بأصوات لم يستمع الخلائق مثلها يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نيأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له ، والله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين ، والأزواج جمع زوج يقال زوج بلا تاء فى المرأة والرجل . قال الله تعالى { اسكن أنت وزوجك الجنة } والزوجة بالتاء لغة ضعيفة أو لفظ نادر لا يحسن لقول الشاعر @ وإن الذى يسعى ليفسد زوجتى كساع إلى أسد الشرى يستميلها @@ وقول الشاعر @ إذا زوجة بالمصر أم ذوى خصومة @@ وإن قلت فلعل الذى فى الآية جمع زوجة بالتاء ، قلت لا يحمل عليه لضعفه وندوره ولذكره بلا تاء حيث ذكر مفرداً أو لأن أفعالا لم يعهد جمعاً لفعلة بالتاء ، فأزواج جمع زوج كثوب وأثواب ، وبيت وأبيات ، وسيف وأسياف . ويطلق الزوج على كل فرد مقرون بآخر من جنسه كأحد شقى وإحدى النعلين ، ومطلق الذكر المقابل بمطلق الأنثى ، والكبش بالنعجة ، والثور بالبقرة الأنثى ، والجمل بالناقة ، وأصل التمييز بين المذكر والمؤنث بالتاء إنما هو فى الصفات ، وإنما قال مطهرة بالإفراد للتأويل بالجماعة ، كما فى قوله تبارك وتعالى بـ { أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها } إلى قوله { ولهم فيها } ولم يقل من تحتهن ومنهن وفيهن . وقوله عز وجل { وإذا الرسل أقتت } ولم يقل أقتتلوا . وقرأ زيد بن على بن أبى طالب مطهرات بالجمع على لفظ الوصف . وأنا أقول الوجهان لغة لكل العرب ، وقال الزمخشرى والقاضى لغتان ومن الإفراد قول أسلم بن أبى ربيعة من بنى ضبة @ وإذا العذارى بالدخان تلفعت واستعجلت بن القدور فملت دارت بأرزاق العفاة مغالق بيدى من قمع العشار الحلب @@ إذ قال تلفعت ولم يقل تلفعن ، مع عود الضمير للجمع وهو العذارى ، بكسر الراء بعدها ياء ، أو بفتحها بعدها ألف بصورة ياء ، جمع عذراء ، وهى البكر . ومعنى تلفعت بالدخان أحاط بها وصار لها كغطاء الرأس . وقال ملت ولم يقل مللن ، والمعنى شوت اللحم فى الملة ، وهى الرماد الحار أو الحفرة نفسها ، لشدة الجوع ، وقلة الصبر إلى ما فى القدر . وخص العذارى لجمالهن وحيائهن عن الطلب ، والأخذ جهرة . وقلة صبرهن . وقال استعجل ولم يقل استعجلن . وفاء فملت عاطفة ، ودارت جواب إذا ، والعفاة جمع عاف ، أى طالب المعروف ، كقاض وقضاة ، والمغالق جمع مغلق بالغين المعجمة ، وهوالقدح فى الميسر ، والقمع اسم جمع وهى رأس السنام ، والعشار النوق الحوامل التى أتى لها عشرة أشهر ، والجلة بالكسر السمان من الإبل . وقرأ عبيد بن عمير مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء مشددة والأصل متطهرة أبدلت التاء طاء فأدغمت فى الطاء بعدها . قال بعض العرب ما أحوجنى إلى بيت الله فأطهر به تطهرة ، وفى هذا الكلام دليل على جواز لحوق التاء للمصدر الذى على وزن التفعل ولو كان صحيح اللام إذا أريدت الوحدة مثل تعلم تعلمة . وإن قلت لم لم يقل طاهرة أو متطهرة ؟ قلت لأن مطهرة أبلغ ، لأن معناه أن غيرهن قد طهرهن ، وما هو إلا الله - عز وجل - وأما طاهرة ومتطهرة فمعناهما طاهرات ، لا إن مطهراً طهرهن ، ومتطهرة أبلغ من طاهرة ، لأن التفعل للكسب والعلاج ، فكأنهن قصدن الطهارة ، وبالغن فيها ، وكذلك قرأ به عبيد لكن أدغم . وليس طعام الجنة وشرابها لدفع الجوع والعطش وألمهما ، ولا لحفظ البتة عن الفساد والموت ، ولا الجماع فى الجنة لتناسل وإبقاء النوع الإنسانى ، للاستغناء فى الجنة عن ذلك ، بل ذلك كله للتلذذ والتنعم ، وإظهار قدرة الله ونعمته ووعده أكمل إظهار . { وهم فيها خالدون } دائمون أبدا لا تفنى ولا يفنون ، ولا يخرجون منها للآيات والأحاديث الدالة على ذلك ، وإلا فالخلود الثبوت الدائم والثبوت الطويل ، دون دوام ، فهو الثبوت الطويل دام أو لم يدم . ويجوز تفسيره بمطلق الثبوت الطويل ، دون تعرض لدوام وغيره ، ويستفاد الدوام من الأحاديث وسائر الآيات . والجمهور يفسرون الخلود فى الآية بالدوام ، ولولا لفظة أبدا فى قوله { خالدين فيها أبدا } لم تكن الآية نصاً فى خلود العصاة الفسقة من الموحدين ، ومن استعمال الخلود بمعنى الثبوت الطويل تسمية القلب خلدا ، بفتح الخاء واللام ، وقوله تعالى { أخلد إلى الأرض } وقول الشاعر @ لن تزالوا كذلكم ثم لا زلـ ــت لكم خالدا خلود الجبال @@ وقولهم للأثافى ، وهى الحجارة التى تنصب عليها القدور خوالد ، وللأحجار التى تبقى بعدد رءوس الأطلال . ولو كان موضوعاً للدوام لكان لفظ أبدا تأكيداً للخلود إذا ذكر معه والأصل عدمه ، فلا يحمل على خلاف الأصل بلا دليل ، بل قام الديل على أنه لمطلق الثبوت الطويل ، وكذا لو جعل الخلود موضوعاً للثبوت الدائم ، وموضوعاً للثبوت غير الدائم ، على طريق الاشتراك ، كوضع القرء للحيض ووضعه للطهر ، لكان اشتراكاً والأصل عدمه ، فلا يحمل عليه بلا دليل ، ولو جعلناه مجازا فالثبوت غير الدائم لكان ذلك أيضاً خلاف الأصل بلا دليل ، فلم يبق إلا أن يقال موضوع لمطلق الثبوت الطويل من يعتبره فى وضعه الدوام ولا عدمه ، كما وضع الجسم لنقيض العرض لا باعتبار كونه حياة أو مواتا . وأعلم أن معظم اللاذت المطعم والمنكح والمسكن ، فأعطاهن الله الرحمن الرحيم أهل الجنة ، وأتمها بالخلود الدائم ، لأن النعمة الجليلة إذا كانت تزول فهى غير تامة وهى منفضة ، وإن قلت كيف يكون جسم الإنسان والحور والجن وأشجار الجنة وبناؤها دائماً ، مع أنه مركب والتركيب داعى الانحلال ، ولا سيما الإنسان ، فإن اجزاءه متضادة الكيفية فتستحيل ؟ قلت إنما كان التركيب داعى الانحلال والأجزاء مضادة الكيفية يجعل الله سبحانه إياها كذلك ، فاذا أراد جعل التركيب غير داع للانحلال ، وجعل تضاد الكيفية غير داع للاستحالة ، بل يجعلهما داعيين للانعقاد والدوام ، أو يبعث الإنسان غير مضاد الكيفية وبيعته ومتقادمها ومتساويها متعانقها لا يغلب بعض بعضاً ، ولا ينافر بعض بعضا ، لكن كلامنا فى هذا هجوم على الغيب بمجرد ما ألفته عقولنا القصيرة . ومن كانت أشجاره قليلة الإثمار فليصم الخميس ويفطر فى المغرب على هندبا ، ويصلى المغرب ، ثم يكتب هذه الآية { وبشر الذين آمنوا } إلى { خالدون } فى قرطاس ، ولا يتكلم ويمضى إلى شجرة تكون فى وسط البستان ويعلقها عليها ، فإن كان فيها ثمر فليأكل منها واحدة ، وإن لم يكن لها ثمر فليأكل ورقة من ورقها ، وإن لم يكن لها ورقة فليأكل من ثمر مثلها ، ويشرب عليها ثلاث جرعات من ماء ، وينصرف ، فإنه يرى ما يسره من حسن الثمرة والبركة إن شاء الله .