Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 282-282)

Tafsir: Himyān az-zād ilā dār al-maʿād

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا إذَا تَدَايْنتُم بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمىًّ } ، أى إذا عامل بعضكم بعضا بدين ، والمفاعلة على بابها ، لأن المتبايعين بالدين كل منهما له ملابسة بالدين ، هذا يعطيه وذاك يأخذه ، وكلاهما عاقد ، وليس المراد كل منهما باع دينا للآخر ، لأن بيع الدين بالدين باطل ، وكذلك لا يدخل فى الآية بيع يد بيد ، لأنه لا دين فيه بقى بيع العين بالدين وهو بيع الشئ بالثمن مؤجلا ، وبيع العين بالدين وهو السلم ، وهما داخلان تحتهما ، وكذلك لا يدخل فيه القرض ، لأنه لا أجل فيه ، وقيل بجواز الأجل فيه ، وقيل بوجوبه ، والبحث مذكور فى الفروع ، وقال الفخر إن القرض لا يسمى دينا ، وإنما قال بدين مع أن قوله تعالى { تداينتم } ، يكفى عنه ليرجع إليه الضمير فى قوله فاكتبوه ، إذا لو لم يذكر لقيل فاكتبوا الدين ، فيفوت بعض الحسن فى الكلام ، ولأنه أظهر فى تنويع الدين إلى مؤجل وغيره ، ولئلا يتوهم عند ذكر تداينتم المجازاة ، ولو كان لفظ دين أيضاً يستعمل بمعنى الجزاء ، لكن يتبادر منه بعد لفظ تداينتم ما يترتب فى الذمة لا الجزاء ، ولا يقال لو لم يذكر فقيل فاكتبوه لدل عليه تداينتم كقوله تعالى { اعدلوا } هو أقرب للتقوى ، لأنا نقول مصدر تداين لفظ التداين فلا يناسب أن يقال اكتبوا التداين ، وكذا لا يعود الضمير للأجل ، وذلك أن المراد الإفصاح بكتب كمية الدين لأجله وغير ذلك يصح بتكلف ، وخرج بالأجل ، والمسمى بمعنى المعين باسمه الذى لا خفاء فيه كعدد الأيام والأسابيع والشهور والسنين غير المعين مما فيه خفاء ، كالحصاد والجذاذ والقيظ ، وقدوم الحاج ، وقال ابن عباس نزلت فى السلم لأنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون فى الثمار سنتين والثلاث فقال " من أسلم فليسلم فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " وقال ابن عباس لما حرم الله الربا أباح السلم وقال ، أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم فى كتابه ، وأنزل فيه أطول آية . ولعله يريد أن سبب النزول السلم واللفظ عام للدين كله . { فاكْتُبوهُ } بأجله المسمى وببدئه ، لئلا يأخذ صاحب الحق أكثر من حقه ، ويعطى من عليه أكثر مما لزمه بعمد ومغالطة ، أو نسيان وتوهم ، أو يأخذ هذا قبل أجله ، ويعطى هذا قبل الأجل الذى عليه ، أو يؤخر من عليه عن الأجل ، وإنما الذى ينبغى أن يعلم الأمر على الحقيقة ، ثم يزيد المعطى أكثر مما عليه بقصد الثواب ، أو ينقص له صاحب الحق كذلك ، أو يؤخر له فى الأجل ، وإن جهل الأجل بطل البيع ، وقيل يكون حالا والأمر بالكتابة على الندب عند الجمهور ، وقالوا إنا نرى جمهور المسلمين فى جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتبه ولا إشهاد ، وذلك إجماع على عدم وجوبهما ، فذلك ندب فى حفظ المال وإزالة الريبة ، فإن كان الغريم ثقة لم يضره الكتب بل يكون له أعون فى الحياة وبعد الممات إن لم يقبضه ، وإلا فقيد له وإن أشهدت وكتبت فحزم وإن ائتمنت ففى حل وسعة ، وقال عطاء وابن جريح والنخعى والطبرى الكتابة والإشهاد واجبان . وقال الحسن والشعبى وابن عينية كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضاً أؤتمن أمانته ، وكذلك يؤمر بالكتابة إذا كان الدين بلا أجل لوجود علة النسيان والإنكار فيه ، ويدل لهذا أنهُ استثنى البيع يدا بيد فى قوله { إلا أن تكون تجارة } الآية . { وَلْيَكْتُب بَّيْنكُم كاتِبٌ بالعَدْلِ } بالحق لا يزيد فى المال والأجل ، ولا ينقص ، وهو كاتب يعرف العربية ففيه يجئ كتابة صحيحا موثوقا به شرعا فى اللفظ والمعنى ، والآية نص فى إجزاء كتابة كاتب واحد معتديه ، يكتب الأمر كما هو بالأجل والشهود والتاريخ يتوثق فى جنب الذى له الحق والذى عليه ، ولا يحمل ولا يبهم ولا يجب أن يكتب كاتب آخر أيضاً مثله مثل ما كتب سواه أو باختصار فى كتاب آخر أو تحته كتابته وإن فعل ذلك أشد وثوقا . { ولا يأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما علَّمهُ اللّهُ } أى لا يأب من يكتب ، أى لا يمتنع من الكتابة ، ويجوز ألا يقدر فيكون أن يكتب مفعولا لأن أبى يتعدد ، ويلزم ألا يمنع كتبه عن طالب إيقاع علمه الله من العدل ، والعبارة الجيدة والخط البين أى إن وافق طالبا للكتابة فليكتب له بعدل ، وتجويد العبارة والخط ، فمتعلق النهى عن الإباء ألا يكتب على غير ذلك ، أى إن وافق للكتابة فلا يمتنع من العدل والتجويد فى كتابته ، ويجور أن يكون متعلقة أن يمتنع عن الكتب أصلا عن التجديد والعدل ، ويجوز أن يكون متعلقة ترك الكتابة ، أى لا بد أن يكتب إذا طلب وينفع الطالب بكتابته كما نفعه الله بتعليم الكتابة وغيرها كقوله تعالى { وأحْسنْ كما أحْسنَ الله إليك } وليست الآية إيجابا على الكاتب أو ندبا له أن يكتب بلا أجرة ، بل أوجب عليه أو ندب لهُ أن يكتب فقط سواء بأجرة أو بدونها ، كما يوهمه قول بعض إنه إذا أمكن الكتاب لم يجب على معين ، بل له الامتناع إلا إذا استأجره وأنه إذا عدم الكاتب سواه وجب عليه ، قال عطاء والشعبى واجب على الكاتب أن يكتب إذا لم يوجد سواه فهو فرض كفاية ، وقال السدى واجب مع الفراغ ، وقيل فرض عين على من طلب الكتابة ، وكذا الخلاف فى تحمل الشهادة ، وقال الضحاك والربيع بن أنس { ولا يأب كاتب } منسوخ بقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } ، أى نسخ الوجوب عنهما ، والكاف يتعلق بيكتب ، ويجوز تعليقه بيكتب من قوله . { فَلْيَكتُبْ } وعلى تعليقه بيكتب قبله تكون الفاء عاطفة ، فيكون قوله { ليكتب } توكيدا أى فليكتب تلك الكتابة المأمور بها ، وعلى تعليقه بيكتب بعده تكون الفاء للتوكيد ، أو فى جواب أما أى أما كما علمه الله فليكتب ، فيكون أولا نهى عن ترك الكتابة مطلقا ، ثم أمر بإيقاعها مقيدة وما مصدرية ، أى كتعليم الله إياه أو اسم أى كالتعليم الذى علمه الله ، أو كالكتابة التى علمه الله إياها ، قال صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يفيض المال ويظهر العلم ويكثر التجار " قال الحسن لقد أتى على الناس زمان وما يقال إلا تاجر بنى فلان وكاتب بنى فلان ما يكون فى الحى إلا تاجر واحد وكاتب واحد . { ولْيُملِلِ الَّذى عليْهِ الحقُّ } أى ليلق الذى عليه الحق بلسانه على الشهود ، والكاتب ما عليه لفلان وأجله وجنسه وصفته ، فالإملال الإقرار ، والفعل أمل بتشديد اللام وفيه لغة أخرى ، وهى أملى بألف بعد اللام يملى بياء بعدها إملاء ومنها فهى تملى عليه ، وقيل الألف فى أملى والياء فى يملى بدل من اللام الآخرة فى أمل بالتشديد ، وفيه بحث لأن ذلك معتاد فى الكلمة المجتمع فيها ثلاثة أمثال فى آخرها كتقضض البازى وتسرى الأمة فيقال تقضى وتسرى ، والوجه أن يقر للشهود وللكاتب ثم يكتب أو يقر لهم ، ثم يودون للكاتب أو يقر للكاتب ، ثم يكتب ثم الشهود فيأتون للكاتب فيشهدوا فيكتب شهادتهم أو يقرأ عليهم بحضرة المقر فينعم بها ، فيكتب شهادتهم ، وليملل مفعول به واحد هو محذوف وتعدى للآخر بعلى لأنه بمعنى ألقى ، أى ألقى الحق الذى عليه لك بلسانه على الكاتب والشهود . وقيل له مفعولان هكذا أى يملل من عليه الحق كاتب ما عليه من الحق أى يعلمه إياه . { وليتَّقِ الله ربَّه } أى ليحذر المل أو الكاتب الله ربه فى إملائه أو كتابته لا يعصى فى ذلك ، ومن المعصية أن يقر على اسم غيره أو يقر باسم من ليس الحق له ، أو ينقص من الحق شيئا ، أو يكتب الكاتب كذلك ، كما قال تخصيصا بعد تعميم . { ولا يَبْخَسْ } أى لا ينقص من عيله الحق شيئا أو الكاتب . { مِنْهُ شَيئاً } أى من الحق الذى عليه ، والحق شامل لكون الأجل هو كذا لا أكثر منه مثلا ، وكون الدين عددا من كذا ، ونحو ذلك من جميع ما يمل به من ، وقرئ شيئا بياء مخففة وحذف الهمزة ، وقرئ بقلب الهمزة ياء وإدغام . الياء فيها ، وهذه القراءة مطردة فى شئ فى جميع القرآن مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا . { فإنْ كانَ الَّذِى عَليّهِ الحقُّ سَفِيهاً } ناقص العقل بالغ غير رشيذ مستحقا للحجر عليه لتبذيره كما فسره به أصحابنا ، وهو أول قولين فى الديوان ، وبه قال الشافعى وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبى حنيفة ، يرون الحجر على المبذر بسفه المفسد لماله ودينه فيقوم وليه مقامه ويبطل تصرفه ، وقال أبو حنيفة يحجر عليه فيصح إقراره وعقوده وتجارته ، لأن السفه هو وضع الأشياء فى مواضعها موجود فى الكفار يبذرون ويعصون ولا تحجير عليهم ، والجواب أن الآية أفادت الحجر بجعل السفية كالصبى فى الإملال عليه وأنه لا تحجير على الكفار لأنهم على غير الملة ، لأن ذلك السفه ديانة وقد يحجر عليهم ألا يظهروا بيع الخمر والخنزير . { أوْ ضَعِيفاً } عن الإملال لكونه صبيا أو شيخا مختلا ، وقيل السفيه الطفل الصغير والضعيف الشيخ الكبير ، وقيل الضعيف ضعيف العقل بجنون وبلاهه ، وقيل المرأة الضعيفة والأحمق الذى لا يحسن أن يمل . { أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملَّ هُوَ } لخرس أو جهل باللغة أو جنون ، قيل أو لعمى أو حبس أو غيبة لا يمكن بها الحضور ، أو لجهل بماله وما عليه . { فَلْيُملِلْ وليُّهُ بالعَدْلِ } أى متولى أمره كأب وجد وعم وأخ ووصى على نحو صبى ومجنون وأخرس ، وكمعتقه وكترجمان ووكيل وقائم على صبى أو مجنون أو أخرس ، وكملتقطه ومن أسلم هو على يده وكزوجها وذلك دليل جر بأن النيابة فى الإقرار ، وبه قال أبو يوسف مطلقا ، وأجازه وأبو حنيفة ومحمد عند القاضى ، ومنعه الشافعى مطلقا ، وإنما يظهر الجواز للقائم والوكيل والترجمان إذا صدقه المقر عنه قبل الإقرار أو بعده ، أو قال كلما قال عنى فهو جائز علىّ ، وعن ابن عباس أراد بالولى صاحب الدين إن عجز الذى عليه الحق عن الإملال فليملل صاحب الحق ، لأنه أعلم بحقه ويصدقه من عليه الحق ، والعدل الصدق والحق ، وإن أمل بين يديه ولم يصدقه ولم يكذبه بل سكت فليس جايزاً عليه إلا إن أقر أنهُ حضر ليقر بما عليه ، وقيل جائز عليه . { واسْتَشْهِدُوا } السين والتاء للطلب ، ويجوز أن يكون لموافقة أفعل كأجعل وأيقن ، واستجعل واستيقن . { شَهِيدَيْنِ } لمَ يقل شاهدين للمبالغة فى تصحيح الشهادة وعدالة الشاهد . { مِنْ رِجَالِكُم } أى واطلبوا رجلين أن يشهدا على الدين ، بأن يسمعا ممن عليه الدين أو ممن يمليا عنهُ فيؤديان الشهادة لمن يكتبها ، ولا يكتبها إلا بإذنهما ، وقيل يكتبها إذا أدياها إليه وهو الصحيح ، وإن حضر رجلان وسمعا وحققا الأمر ولم يحضرهما المتعاقدان للشهادة ولم يقولا لهما اشهدا فهل يشهدان ، وتكتب شهادتهما ويحكم بها ؟ قيل لا وهى شهادة السماع ، وقيل نعم ، وجه الأول ، إنهما لم يستشهدا ، والله يقول { واستشهدوا شهيدين } ووجه الثانى أنه قد حصل المراد من الاستشهاد ، فكأنهما قد استشهدا ، كما رخص بعضهم أن يكتب شهادة الشاهدين من رآهما استشهدا ولو لم يقولا كتبها إذا تحقق عنده أنهما قد فهما ، ومعنى من رجالكم من الرجال المنتسبين إليكم بالإسلام ، ولا تجوز شهادة مشرك ولو كتابيا إلا على مثله أو على من دونه من المشركين ، هذا ما عندنا ، وعند أبى حنيفة ، وقال غيره لا تكتب شهادة مشرك على مشرك ، وحكم صبى المشركين فى شهادة المشركين عليه أوله حكم المشرك ، وكذا يستفاد اشتراط الحرية من قوله { رجالكم } أى المنتسبين إليكم بالمماثلة فى الدين والحرية ، ويؤيده قوله تعالى { ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا } لأن العبد يجب عليه أن يأبى إذا دعى لشئ حتى يأذن له مولاه ، وكذا الصبى لا يشهد لأنه ضعيف لا يمل بنفسه ، فكيف يشهد ولقوله { من رجالكم } ، وأجاز شريح رحمهُ الله شهادة العبيد العدول فى دينهم ، لأن عدالتهم تمنعهم من الكذب ، وكذا قال ابن سيرين وعثمان الليثى ، وكان على بن أبى طالب لا يجيز شهادة العبد فى شئ . { فَإنْ لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } أى فإن لم يكن الشاهدان رجلين بأن لم يوجد رجلان ممن تصح شهادته أو وجد أو عدل عن أحدهما لأمر مّا فالألف فى يكونا للشاهدين . { فَرَجلٌ وامْرأتَانِ } أى فليشهد رجل وامرأتان ، فهو فاعل لمحذوف ، أو فالمشهد رجل وامرأتان فهو خبر لمحذوف ، أو فرجل وامرأتان يشهدون فهو مبتدأ محذوف الخبر ، وعليه فالمسوغ الوقوع بعد فاء الجواب ، وشهادة النساء مع الرجال جائزة فى الأموال إجماعا ، ولا تجوز فى الحدود ولو دون القتل ، وقال سفيان الثورى وأصحاب الرأى تجوز فى سائر الحقوق غير العقوبات ، وأجازها الشافعى فيما يختص بالنساء غالبا كالولادة والرضاع والبكارة والثيابة ، فقد يتزوج امرأة ويطلقها أو يفارقها فيشهد هو وامرأتان على أنها بكر أو ثيب ، وتجوز شهادتها فى النكاح أو العتق والطلاق والرجعة والفداء والظهار وغير ذلك ، فهى جائزة عندنا وعند أبى حنيفة فى الأموال والحقوق كلها إلا فى الحدود ، وخصها الشافعى فى الأموال وما مر عنه آنفا . { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهداءِ } للشهداء بأن يكون حرا الواحدا بالغاً عاقلا عدلا فى دينه ، ذا مروءة لا يجريها فى مال نفعا لنفسه أو لولده أو عبده ، ولا يدفع بها ضراً عن نفسه وألا يكون معروفا بكثرة الغلط والسهو وألا يكون عدوا للمشهود عليه ظاهر السعى فى الانتقام منه ، والكافر يكذب على الله فكيف لا يكذب على غيره ، فكيف تجوز شهادته ، وأجيزت على الكافر على حد ما مر ، وسئل ابن عباس عن شهادة الصبى فقال ليس ممن ترضون من الشهداء ، ولا تقبل شهادة المقارف للكبائر والمصرّ على الصغائر ، وتجوز القرابة فى الشهادة إلا الأب فى المال لولده ، وقال قومنا لا تجوز أيضا من ولد لوالده ، وعنه صلى الله عليه وسلم " لا يجوز شهادة ذى الظنة وذى الجنة وذى الجنة " الظنة التهمة ، والجنة من يرق للمشهود له حتى يخاف عليه ، ومن الكذب ، ويروى الإحنة أى الحقد لم يحقد على المحقود عليه ، والجنة الجنون ، قال شريح لا أجيز شهادة الخصم ولا الشريك ولا دافع المغرم ، ولا شهادة الأجير لمن استأجره فى تلك الصنعة بعينها ، وعن عائشة رضى الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجوز شهادة خائن ، ولا مجلود فى حد ، ولا ذى غمر على أخيه ، ولا مجرب شهادة ، ولا القانع لأهل البيت ، ولا ظنبن فى ولاء ، ولا فى قرابة " والغمر الحقد ، والقانع السائل المستطعم لأهل بيت لا يشهد لهم ، وقيل المنقطع إليهم يخدمهم ، وقوله { ممن ترضون من الشهداء } ، تنازعه استشهدوا ، والفعل المقدر فيه قوله { فرجل وامرأتان } ، وإن لم يقدر ما يصلح للتنازع علق باستشهدوا ، وقدر مثله لقوله { فرجل وامرأتان } ، يكون نعتا له أو متعلقا بما يقدر أو بالعكس ، فقوله { ممن ترضون من الشهداء } ، عائد إلى قوله { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم } ، وإلى قوله { فرجل وامرأتان } ، ويرجح للأخير إما على التنازع أو غيره قوله . { أن تَضِلَّ إحْدَاهُما فَتُذكِّر إحْدَاهما الأخْرَى } علة للمحذوف فى قوله { فرجل وامرأتان } والتقدير مثلا فالمستشهد امرأتان لأجل أن تضل إحداهما فى شهادتها كمن فى الطريق بأن تنساها أو تزيد أو نقتص منها أو تبدل فتذكرها الأخرى ، ومحط التعليل قوله { فتذكر } وأما قوله { أن تضل } فتمهيد كأنه قيل فتذكر إحداهما الأخرى لضلالتهما فى الشهادة ، وذلك من التمهيد بالسبب ، لأن التذكير سبب عن الضلالة ، والضلالة الغيبة عن الشئ ، فمن أخطأ فى الشهادة فقد ضل ، ومن التمهيد بالسبب قولك أعددت الخشبة لأن يميل الحائط فادعمه ، وبه مثل سيبوبه للآية ، وأعددت السلاح لأن يجيئ العدو فادفعه ، فالعلة فى الحقيقة الدفع والإدعام ، والآية دالة على ما صرح به حديث " إن النساء ناقصات عقل إذا قيمت اثنتان مقام واحد ، لقلة ضبطهن لتذكر من لم تنس من نسيت بأن تقول لها مثلا حضرنا مجلس كذا وتحملنا شهادة كذا ومعنى تذكر نصيرها ذاكرة ، أى غير ناسية وهو التفكير ، وقال سفيان ابن عيينة معناه تصيّرها ذاكرا فى المعنى ضد الأنثى ويرده عطفه على تضل ، لأن تصيرها إياها ذكرا لا يختص بما إذا ضلت ، ولأنها لا تصير وحدها ذاكراً ، بل مع الأخرى كما هو مراده ، واللفظ لا يتبادر منه ذلك ، وهذا واقع لم تنس أو نسيت ، وأن الأصل ألا يشتق الفعل من الجامد غير المصدر ، وقد يجاب عن غير هذا بأن تذكر على تفسيره نصب فى جواب أمر أو محذوف ، أى فليشهد أو ليستشهد رجل وامرأتان ، فتذكر إحداهما الأخرى ، وقرئ ببناء تضل للمفعول ، وقرأ حمزة ، أن تضل إحداهما فتذكر بكسر همزة إن على الشرط ، فتكون فتحة لام تضل للتخلص من التقاء الساكنين ، ورفع تذكر والفاء على هذا فى جواب الشرط ، فيكون تذكر إحداهما جواباً مع قد محذوفة دلت عليها الفاء ، أى فقد تذكر ، وقرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوت بفتح أن ، ونصب ما بعد الفاء وإسكان الذال ، وتخفيف الكاف بالتعدية بالهمزة من اذكره إذكارا ، كما عداه الجمهور وحمزة بالتشديد ، وقيل التذكير ذكر أسباب التذكير لها ، والإذكار تصيرها ذاكرة ، وعلى الأول وهو قراءة الجمهور وحمزة قد تذكرها ولا تتذكر . { وَلاَ يَأبَ الشّهَداءُ إذا ما دُعُوا } أى لا يمتنع الشهداء عن تحمل الشهادة إذا ما دعوا لتحملها ، فمعنى الشهداء من يتأهل للشهادة قاله قتادة أو يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة بعد تحملها ، قاله مجاهد . قال النعاش وهو تفسيره صلى الله عليه وسلم ، أولا يمتنع من تأهل الشهادة عن تحملها إذا لم يتحملها ، ولا عن أدائها إذا تحملها ، قاله ابن عباس والحسن ، والمتحمل لها يصح أن يقال فيه متأهل غايته أنه قد دخل فيما هو لهُ أهل ، وقد يقال الراجح حمل لفظ الشهداء على من تحملوا الشهادة ، والمعنى لا يأبوا عن أدائها ، وهذا حقيقة ، وأما حمله على من تأهل للشهادة فمجازو والحقيقة أولى ، وأيضا هذا المجاز من مجاز الأول ، وشرط مجاز الأول أن يكون متحقق الوقوع بعد مثل { إنك ميت وإنهم ميتون } أو يترجح الوقوع كتسمية العصير للخمر خمراً ، وما هنا ليس كذلك إذ المعنى ليس لا يأب من لا بد أن يكون شهيداً بعد ، ولا من يترجح أن يكون شهيدا ، وقد يقال بالغ فى الأمن بتحملها فسماه ، باسم متحملها أو لوح لهم للمبالغة بأنهم لا بد أن يكونوا حامليها أو شهيد للنسب ، فإنه قدير دله فعيل أى لا يأب المنتسبون للشهادة بتأهلهم لها ، وقد يرجح حمل لفظ الشهداء على المتأهل للشهادة بطريق المجاز أو النسب ، ليناسب قوله { ولا يأب كاتب أن يكتب } ، فإن معناه أمره بأن يكتب ، وليكن المعنى هنا أمرهم بأن يشهدوا إلا بأن يؤدوا ، أو مفعول يأب يقدر بعن ، أى لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة ، أو عن أدائها ، أو بمن أو منصوبا بدونهما ، وما لفظ أكد به عموم وقت إذا قيل كان الرجل يأتى المجلس العظيم يطلب من يشهد فلا يتبعه منهم أحد فنزلت الآية . { وَلاَ تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبوهُ صَغِيراً أوْ كَبِيراً إلىَ أجَلِهِ } نهى لأصحاب الحقوق عن أن يملوا كتابة حقوقهم ، ولو كانت شيئاً قليلاً ، فإن النزاع فى المال القليل أو الحق الحقير ربما أدى إلى فساد عظيم ، وجناح شديد ، وأيضا تضييع القليل إسراف ، وذلك أن صاحب الحق قد يكسل عن كتابته لقلته وهو أنه عنده أو لكونه كسلانا ، وقد تكثر حقوقه فيمل الكتابة للكثرة ، فنهى عن ذلك ، والسامة الملل ، ومصدر تكتب مفعول تسأم تضميناً لتسأموا معنى تكرهوا ، أو على تقدير من ، أو عن أى لا تضعفوا عن أن تكتبوه ، أو من أن تكتبوه ، والهاء للدين أو الحق أو الكتابة ، وقيل المعنى لا تكسلوا عن أن تكتبوه ، لأن حقيقة السآمة هنا لا تعم لأنها بعد الشروع فى الفعل الممتد الطويل ، فلا يقال لمن لم يشرع سئم فتسأموا كناية عن الكسل ، وإنما عدل إلى الكناية به لأن الكسل صفة المنافقين ، { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } قالى صلى الله عليه وسلم " لا يقل المؤمن كسلت " ، والجواب أنه لا تختص السآمة بالشروع ، بل يجوز استعمالها فى شئ لكثرة ارتكاب مثلة ، ومعنى صغر الدين أو الحق وكبره قلته وكثرته ، وإذا أعيدت الهاء للكتاب ، فمعنى صغر الكتاب وكبره كونه قليل الألفاظ أو كثيرها ، وأجل الدين أو الحق أو الكتاب وقت حلوله ، وإلى أجله حال من الهاء فى تكتبوه ، أى مستقرا فى الذمة إلى أجله لا متعلق بتكتبوه ، لأن الكتابة لا تتسم إلى أجل الدين ، قال ابن هشام وقرئ بالتحتية فى تسأموا وتكتبوه . { ذَلِكُم } الإشارة لمصدر تكتب وهو الكتب بفتح الكاف وإسكان التاء ، كأنهُ قيل ذلكم الكتب . { أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ } أعدلُ أى أكثر قسطا وهو العدل . { وأقْوَمُ للشَّهادَةِ } أعون على إقامتها ، لأن يذكرها بالقراءة لها من الكتاب الذى كتبت فيفى ، لا يقال قسط بمعنى عدل ، بل بمعنى جاز ، وقام بمعنى أثبت غيره ، فأقسط اسم تفضيل من أقسط بالهمزة بمعنى سلب القسط وهو الجور ، وأقوم اسم تفضيل من أقام بالهمزة التى للتعدية أى صيره ثابتاً ، وذلك غير مقيس ، وأجاز سيبويه قياسه ، وقيل إن كانت الهمزة لغير التعدية وذلك أولى من أن يقال بنى اسم التفضيل مما لا فعل له وهو قاسط بمعنى ذى قسط ، أى عدل وقويم بمعنى مستقيم ، ولم تنقل فتحة واو أقوم لقافه فتقلب الفاء لتحركها فى الأصل ، وانفتاح ما قبلها فى الحال لجمود اسم التفضيل كفعل التعجب . { وأدْنَى ألاَّ تَرْتابُوا } أى أقرب إلى أن ترتابوا ، أى إلى ألا تشكوا فى قدر الحق ، الحق أو جنسه أو صفته أو أجله أو فى الشهادة أو الشهود لو لم تكتبوا ، وبعض قدر أدنى فى ألا ترتابوا . { إلاَّ أنّ تَكُونَ } تثبت ولا خبر له . { تجَارةً } فاعل تكون . { حَاضِرةً } يدا بيد . { تُدِيرُونَها بَيْنَكم } بالقبض فى المجلس ، فالجملة نعت ثان لتجارة أو حال منها أو من ضميرها فى حاضرة ، وفى الجملة توكيد ، لأن القبض أفاده لفظ حاضرة ، ويجوز أن يكون حاضرة بمعى مطلق حضور التصرف فى المال لطلب الربح ، وهذا التصرف تجر حاضر ولو غاب الثمن أو الثمن ، فيكون يديرونها حينئذ قيد مخصص ، ومعناه تقبضونها فى المجلس وتقبضون الثمن فيه أيضاً ، وتسمية نقل السلعة مثلا من ملك صاحبها إلى مشتريها ولو لم ترجع إليه بواسطة أو بها إدارة استعمال للمقيد فى المطلق ، ويجوز أن تكون جملة { تديرونها } خبرا لتكون وتجارة اسمها ، وقرأ عاصم ينصب تجارة على أنهُ خبر تكون واسمها ضمير مستتر عائد إلى التجارة التى دل عليها المقام ، ولفظ تجارة ، أى إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة ، والاستثناء منقطع عائد إلى قوله { ولا تسأموا أن تكتبوه } . { فَلَيْسَ عَليْكُم جُناحٌ } ضرر أو إثم . { ألاَّ تَكْتُبوها } أى فى ألا تكتبوها ، لأنه لا يتجاحدون إذا قبض كل واحد ما هو حق له من الآخر لئلا يشق عليهم ذلك . قال الضحَّاك والسدى الآية فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطى كما قلنا . { وأشْهِدُوا } على المبايعة من تجزئ شهادته . { إذَا تَبايَعْتُمُ } هذا التبايع الحاضر ندبا أو وجوبا خلاف فاقبل هذا نفى للحرج فى ترك كتابة التجارة الحاضرة ، وهذا فى الأمر بالإشهاد عليها ، لأنه أخف مؤنة وأكثر احتياطا ، وقيل المراد بالمبايعة هنا مطلق البيع نقداً وعاجلا أو آجلا فيما قل وأكثر ، والجمهور من الأمة على أن الأمر فى هذا الآيات للندب ، والنهى للتنزيه لا للوجوب ، والتحريم قبل قوله { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله { فإن أمن بعضكم بعضا } الإية ، ونسب لأبى سعيد الخدرى ، وقال الشعبى والنخعى وجماعة من التابعين غير منسوخ ، قالوا نرى أن نشهد ولو على جوزة بقل ، وذلك أنهم قالوا الأمر والنهى فى ذلك للوجوب والتحريم ، ونسب للجمهور أنهما فى ذلك للندب والتنزيه ، فلم ينسخا ، وعن الحسن إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد ، وعن الضحاك عزيمة من الله ولو على باقة يقل ، وكان بن عمر إذا اشترى بنقد أو نسيئة أشهد . { ولا يُضَارّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ } بالقهر على الكتاب أو الشهادة مطلقا أو فى وقت يتيسر له كالليل ، ووقت القيلولة والمرض والصلاة ، وشدة البول أو الغائط عليه ، واشتغاله بما لا بد منه ، ككتب ما يفوت أو بعد إعطائه أجره ، أو بدعائه إلى أن يشهد أو يكتب ما اعتقد كراهته أو حرمته أو رأيه ، أو أن يكتب شهادة من تجوز شهادته أو يحصل له ضرر أو لغيره بكتابته ، أو شهادته ، لا يلح عليه صاحب الحق فيقول إن الله أمر كما أن تحبيبانى ، ولا أجرة لمن يحمل الشهادة إلا من بعيد على حملها ، وقيل له أن يأخذها والأصل يضار بفتح الراء الأولى وإسكال الثانية كما قرأ به بن عباس رضى الله عنهما على الجزم ، ولا ناهية سكنت الأولى تخفيفاً ، وفتحت الثانية للتخلص من التقاء الساكنين ، وكان بالفتح تخفيفا والفعل مبنى للمفعول ، ويجوز أن يكون المعنى لا يضر شاهد ولا كاتب من له الحق أو عليه للامتناع من الكتابة والشهادة مع إمكانهما وتيسرهما وعدم حرمة أو كراهة ما يكتب أو يشهد عليه ، أو بالنقص من حقه ، أو تأخير الأجل وبإثباته ، ولم يعقد عليه أو إزالته ، وقد عقد عليه أو تقديمه أو بزيادة على الحق ، وعلى هذا فالأصل يضارر بكسر الأولى وإسكان الثانية كما قرأ به عمر رضى الله عنه ، وهو مبنى للفاعل ، وأدغمت الأولى فيها وفتحت تخليصا من التقاء الساكين ، وتخفيفا ، وتقدم الكلام فى قوله تعالى { ولا تضار والدة بولدها } وصيغة المفاعلة بين الاثنين فى الآية لموافقة المجرد أو للمبالغة ، لكن المبالغة عائدة إلى النهى ، وقرأ الحسن ولا تضار بكسر الراء والتشديد ، وهو محتمل للبناء للفاعل والمفعول كقراءة الجمهور ، إلا أنه كسر على أصل التخلص . { وإِنْ تَفْعَلُوا } ما ذكر من المضارة أو ما نهيتهم عنه مطلقا فى الآيات السابقة ، وهو قول من قال إن الإشهاد والكتابة والمطاوعة الكتابة والشهادة واجبات . { فإنَّهُ } أى فعليكم والضرر . { فُسُوقٌ } أى خروج عما حده الله تبارك وتعالى وعز وجل . { بِكمُ } أى منكم أو الباء للالصاق وهو متعلق بمحذوف نعت لفسوق ، أى ثابت معكم جزاءه لا يفارقكم ، أو صادر منكم ولاحق بكم من الشيطان والنفس . { واتَّقُوا اللّهَ } أى عقابه بترك المعصية . { ويُعلِّمُكمُ اللّهُ } علم الشريعة لتتوصلوا به إلى مصالح دنياكم وأخراكم ، والجملة مستأنفة ، ومن جاز أن يكون الحال جملة فعلية فعلها مضارع مثبت مجرد ، وقد مقرونة ، فواو الحال أجاز أن تكون هذه الجملة حالا مقدرة . { واللّهُ بِكلِّ شَىءٍ عَليمٌ } من جملة ذلك علمه مصالحكم وتعليمه إياكم علم الشريعة ، وعلمه بأن التقوى من أسباب العلم كما قال يوسف { مما علمنى ربّى إنى تركت ملة } الآية وعن ابن القاسم صاحب مالك فى المسائل التى سمعها منه فى عتبة الدار سمعت مالك يقول ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة ، وقال أبو عمر وابن عبد البر روينا عن مسروق كفى بالمرء علما أن يخشى الله ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه . قال أبو عمرو وإنما أعرفه بعلمه . ومقتضى الظاهر واتقوا الله ويعلمكم الله وهو بكل شئ عليم ، ولكن أظهر للتعظيم ، ولكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة ، الأولى فى الأمر بالتقوى ، والثانية فى الوعد بالإنعام ، والثالثة فى تعظيم شأنه سبحانه وتعالى ، والتهديد على أنه لا تخفى عنه طاعة المطيع ومعصية العاصى .