Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 102, Ayat: 1-2)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } « ألهاكم » شغلكم . قال : @ فَأَلْهَيْـتُـهـا عـن ذِي تَـمـائـم مُـغْـيـل @@ أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتى مِتم ودفنتم في المقابر . وقيل { أَلْهَاكُمُ } : أنساكم . { ٱلتَّكَّاثُرُ } أي من الأموال والأولاد ، قاله ابن عباس والحسن . وقال قتادة : أي التفاخر بالقبائل والعشائر . وقال الضحاك : أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة . يقال : لَهِيت عن كذا بالكسر أَلْهى لَهِيًّا ولِهْيَاناً : إذا سلوت عنه ، وتركت ذكره ، وأضربت عنه . وألهاه : أي شغله . ولهَّاه به تلهية أي عَلَّله . والتكاثر : المكاثرة . قال مقاتل وقتادة وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلاَّلاً . وقال ابن زيد : نزلت في فخِذ من الأنصار . وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي : نزلت في حَيَّيْن من قريش : بني عبد مَناف ، وبني سَهْم ، تعادُّوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حيّ منهم نحن أكثر سيداً ، وأعز عزيزاً ، وأعظم نفراً ، وأكثر عائذاً ، فكَثَرَ بنو عبد مناف سهماً . ثم تكاثروا بالأموات ، فَكَثَرَتْهُمْ سَهْم ، فنزلت { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } بأحيائكم فلم ترضَوا { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } مفتخرين بالأموات . وروى سعيد عن قتادة قال : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعدّ من بني فلان وهم كلَّ يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كُلُّهم . وعن عمرو بن دينار : حلف أن هذه السورة نزلت في التجار . وعن شبيان عن قتادة قال : نزلتْ في أهل الكتاب . قلت : الآية تَعُمّ جميع ما ذكر وغيره . وفي صحيح مسلم عن مُطَرِّف عن أبيه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } قال : « يقولُ ابنُ آدم : مالي مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيتَ ، أو لبستَ فأبلَيتَ ، أو تصدّقْتَ فأمضيت وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُه للناس . وروى البخاريّ عن ابن شهاب : أخبرني أنَس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن لابن آدم وادياً من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولَنْ يَمْلأ فاه إلاّ الترابُ ، ويتوبُ اللَّهُ على من تابَ " قال ثابت عن أنس عن أبيّ : كنا نرى هذا من القرآن ، حتى نزلت { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } . قال ابن العربيّ : وهذا نصّ صحيح مليح ، غاب عن أهل التفسير فجهِلوا وجَهَّلوا ، والحمد لله على المعرفة . وقال ابن عباس : " قرأ النبي صلى الله عليه وسلم { أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ } قال : « تَكاثُرُ الأموال : جمعها من غير حقها ، ومنعها من حقها ، وشدّها في الأوعية » " . الثانية : قوله تعالى : { حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوّاراً ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار . يقال لمن مات : قد زار قبره . وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات على ما تقدّم . وقيل : هذا وعيد . أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتَرَوْا ما ينزل بكم من عذاب الله عز وجل . الثالثة : قوله تعالى : { ٱلْمَقَابِرَ } جمع مَقْبَرة ومَقْبُرة بفتح الباء وضمها . والقبور : جمع القبر قال : @ أَرَى أَهْلَ القُصُور إذا أُمِيتُوا بَنَوْا فوق المقابر بالصُّخورِ أَبَوْا إلا مُباهاةً وفَخْرَا على الفقراءِ حتّى في القُبورِ @@ وقد جاء في الشعرالمَقْبَر قال : @ لكل أناسٍ مَقْبَر بفِنائهم فَهُمْ يَنقُصُونَ والقُبورُ تَزِيدُ @@ وهو المقْبُريّ والمقْبَريّ : لأبي سعيد المقبُريّ وكان يسكن المقابر . وقَبَرت المَيتَ أَقْبِرهُ واقبِرُهُ قبراً ، أي دفنته . وأقبرته أي أمرت بأن يقبر . وقد مضى في سورة « عبَس » القول فيه . والحمد لله . الرابعة : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة . وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي لأنها تذكر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها . قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكِّر الآخرة " رواه ابن مسعود أخرجه ابن ماجه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : " فإنها تذكر الموت " وفي الترمذيّ عن بُرَيْدة : " فإنها تذكِّر الآخرة " قال : هذا حديث حسن صحيح . وفيه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوّارات القبور . قال : وفي الباب عن ابن عباس وحسان بن ثابت . قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح . وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبيّ صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور فلما رَخَّص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم : إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صَبْرهن ، وكثرة جَزَعِهِنّ . قلت : زيارة القبور للرجال متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشوابّ فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهنّ ذلك . وجائز لجميعهن . ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ولا يختلف في هذا إن شاء الله . وعلى هذا المعنى يكون قوله : " زوروا القبور " عاماً . وأمّا مَوْضعٌ أو وقتٌ يُخْشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا يحل ولا يجوز . فبينا الرجل يخرج ليعتبر ، فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزوراً غير مأجور . والله أعلم . الخامسة : قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من ذكر هاذم اللذات ، ومفرق الجماعات ، ومُوتم البنين والبنات ، ويواظب على مشاهدة المحتضَرِين ، وزيارة قبور أموات المسلمين . فهذه ثلاثة أمور ، ينبغي لمن قسا قلبه ، ولزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت ، وانجلت به قساوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه ، واستحكمت فيه دواعي الذنب فإن مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين ، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير ، وقائم له مقام التخويف والتحذير . وفي مشاهدة من احتُضِر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين مُعايَنَةٌ ومشاهدة فلذلك كان أبلغ من الأوّل قال صلى الله عليه وسلم : " ليس الخبر كالمعاينة " رواه ابن عباس . فأما الاعتبار بحال المحتَضَرِين ، فغير ممكن في كل الأوقات ، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات . وأما زيارة القبور فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجدر . فينبغي لمن عزم على الزيارة ، أن يتأدّب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة . ونعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب المشي على المقابر ، والجلوس عليها ويُسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً ، وأتاه من تلقاء وجهه لأنه في زيارته كمخاطبته حياً ، ولو خاطبه حياً لكان الأدب استقباله بوجهه فكذلك هاهنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، بعد أن قاد الجيوش والعساكر ، ونافس الأصحاب والعشائر ، وجمع الأموال والذخائر فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه ، وهول لم يرتقبه . فليتأمّل الزائر حال من مضى من إخوانه ، ودَرَجَ من أقرانه الذين بلغوا الآمال ، وجمعوا الأموال كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وافترقت في القبور أجزاؤهم ، وترمّل من بعدهم نساؤهم ، وشَمِل ذل اليتيم أولادهم ، واقتسم غيرهم طريفهم وتِلادهم . وليتذكر تردّدهم في المآرب ، وحرصهم على نيل المطالب ، وانخداعهم لمواتاة الأسباب ، وركونهم إلى الصحة والشباب . وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم ، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع ، والهلاك السريع ، كغفلتهم ، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم ، ولْيُحضر بقلبه ذِكر من كان متردّداً في أغراضه ، وكيف تهدّمت رجلاه ، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خُوِّلَه وقد سالت عيناه ، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه ، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه ، وليتحقق أن حاله كحاله ، ومآله كمآله . وعند هذا التذكُّر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، ويقبل على الأعمال الأخروية ، فيزهد في دنياه ، ويقبل على طاعة مولاه ، ويلين قلبه ، وتخشع جوارحه .