Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 66-66)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه عشر مسائل : الأولى قوله تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } قد تقدّم القول في الأنعام ، وهي هنا الأصناف الأربعة : الإبل والبقر والضأن والمعز . { لَعِبْرَةً } أي دلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته . والعِبرة أصلها تمثيل الشيء بالشيء لنعرف حقيقته من طريق المشاكلة ، ومنه { فَٱعْتَبِرُواْ } [ الحشر : 2 ] . وقال أبو بكر الورّاق : العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، وتمرّدك على ربك وخلافك له في كل شيء . ومن أعظم العِبَر بريء يحمل مذنباً . الثانية قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } قراءة أهل المدينة وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بفتح النون من سَقَى يَسْقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقي يُسقي ، وهي قراءة الكوفيين وأهل مكة . قيل : هما لغتان . وقال لَبِيد : @ سَقَى قَومِي بني مَجْدٍ وأسقى نُمَيْراً والقبائلَ من هِلالِ @@ وقيل : يقال لما كان من يدك إلى فيه سقيته ، فإذا جعلت له شِرْباً أو عرضته لأن يشرب بفيه أو يزرعه قلت أسقيته قاله ابن عُزيز ، وقد تقدّم . وقرأت فرقة « تسقيكم » بالتاء ، وهي ضعيفة ، يعني الأنعام . وقرىء بالياء ، أي يسقيكم الله عز وجل . والقراء على القراءتين المتقدّمتين ففتح النون لغة قريش وضمها لغة حِمير . الثالثة قوله تعالى : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } اختلف الناس في الضمير من قوله « مما في بطونه » على ماذا يعود . فقيل : هو عائد إلى ما قبله وهو جمع المؤنث . قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . قال ابن العربيّ : وما أراه عوّل عليه إلا من هذه الآية ، وهذا لا يشبه منصبه ولا يليق بإدراكه . وقيل : لما كان لفظ الجمع وهو اسم الجنس يذكر ويؤنث فيقال : هو الأنعام وهي الأنعام ، جاز عود الضمير بالتذكير وقاله الزجاج . وقال الكسائيّ : معناه مما في بطون ما ذكرناه ، فهو عائد على المذكور وقد قال الله تعالى : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } وقال الشاعر : @ مثـل الفِـراخ نُتِفـتْ حـواصلُـه @@ ومثله كثير . وقال الكسائيّ : « مما في بطونِه » أي مما في بطون بعضه إذ الذكور لا ألبان لها ، وهو الذي عوّل عليه أبو عبيدة . وقال الفَرّاء : الأنعام والنَّعَم واحد ، والنَّعَم يذكر ، ولهذا تقول العرب : هذا نَعَم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النّعم الذي هو بمعنى الأنعام . قال ابن العربيّ : إنما رجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة ، فذكّره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة فقال { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } وبهذا التأويل ينتظم المعنى انتظاماً حسناً . والتأنيث باعتبار لفظ الجماعة والتذكير باعتبار لفظ الجمع أكثر من رَمْل يَبْرِين وتَيْهَاء فِلَسْطِين . الرابعة استنبط بعض العلماء الجِلّة وهو القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير ، أن لبن الفحل يفيد التحريم ، وقال : إنما جيء به مذكّراً لأنه راجع إلى ذكر النَّعم لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن لبن الفحل يحرّم حين أنكرته عائشة رضي الله عنها في حديث أفْلح أخي أبي القُعَيس " فللمرأة السّقي وللرجل اللقاح " فجرى الاشتراك فيه بينهما . وقد مضى القول في تحريم لبن الفحل في « النساء » والحمد لله . الخامسة قوله تعالى : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً } نبّه سبحانه على عظيم قدرته بخروج اللبن خالصاً بين الفَرْث والدم . والفَرْثُ : الزّبل الذي ينزل إلى الكَرِش ، فإذا خرج لم يُسَمَّ فَرْثاً . يقال : أفْرَثْت الكَرِش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى : أن الطعام يكون منه ما في الكَرِش ويكون منه الدّم ، ثم يخلص اللبن من الدم فأعلم الله سبحانه أن هذا اللبن يخرج من بين ذلك وبين الدّم في العروق . وقال ابن عباس : إن الدابة تأكل العلف فإذا استقرّ في كَرشها طبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً ، والكبد مسلّط على هذه الأصناف فتقسم الدم وتمّيزه وتُجريه في العروق ، وتجرِي اللبن في الضرع ويبقى الفرث كما هو في الكَرِش { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِـي ٱلنُّذُرُ } . { خَالِصاً } يريد من حمرة الدم وقذارة الفَرْث وقد جمعهم وعاء واحد . وقال ابن بحر : خالصاً بياضه . قال النابغة : @ بخَالصـة الأرْدان خُضْـرِ المناكـب @@ أي بيض الأكمام . وهذه قدرة لا تنبغي إلا للقائم على كل شيء بالمصلحة . السادسة قال النقاش : في هذا دليل على أن المَنِيّ ليس بنجس . وقاله أيضاً غيره واحتج بأن قال : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغاً خالصاً كذلك يجوز أن يخرج المني على مخرج البول طاهراً . قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم وأخذ شنيع . اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ليكون عبرة ، فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة ، وليس المنِيّ من هذه الحالة حتى يكون ملحقاً به أو مَقِيساً عليه . قلت : قد يعارَض هذا بأن يقال : وأيّ مِنّة أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم وقد قال تعالى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } ، وقال : { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } وهذا غاية في الامتنان . فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول ، قلنا : هو ما أردناه ، فالنّجاسة عارضة وأصله طاهر وقد قيل : إن مَخْرَجه غير مخرج البول وخاصّةً المرأة فإن مَدخل الذكر منها ومخرج الولد غيرُ مخرج البول على ما قاله العلماء . وقد تقدّم في البقرة . فإن قيل : أصله دم فهو نجس ، قلنا ينتقض بالمسك ، فإن أصله دم وهو طاهر . وممن قال بطهارته الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري . قال الشافعيّ : فإن لم يُفْرَك فلا بأس به . وكان سعد بن أبي وَقّاص يفرك المنيّ من ثوبه . وقال ابن عباس : هو كالنُّخامة أمِطْه عنك بإذْخِرة وامسحه بخرقة . فإن قيل : فقد ثبت عن عائشة أنها قالت : كنت أغسل المنيّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه . قلنا : يحتمل أن تكون غسلته استقذاراً كالأشياء التي تزال من الثوب لا لنجاسة ، ويكون هذا جَمْعاً بين الأحاديث . والله أعلم . وقال مالك وأصحابه والأَوْزاعيّ : هو نجس . قال مالك : غسل الاحتلام من الثوب أمر واجب مجتمع عليه عندنا ، وهو قول الكوفيين . ويروى عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وجابر بن سمرة أنهم غسلوه من ثيابهم . واختلف فيه عن ابن عمر وعائشة . وعلى هذين القولين في نجاسة المني وطهارته التابعون . السابعة في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره ، فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس ، وذلك أن ضَرْع الميتة نجس واللبن طاهر فإذا حلب صار مأخوذاً من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه ، فمن قال : إن الإنسان طاهر حياً وميتاً فهو طاهر . ومن قال : يَنْجَس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعاً تثبت الحرمة لأن الصبي قد يغتذي به كما يغتذي من الحية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم " ولم يخصّ وقد مضى في « النساء » . الثامنة قوله تعالى : { سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } أي لذيذاً هيّناً لا يَغَصّ به من شربه . يقال : ساغ الشراب يسوغ سوغاً أي سهل مدخله في الحلق ، وأساغه شاربه ، وسغته أنا أسيغه وأسوغه ، يتعدّى ولا يتعدّى ، والأجود أسغته إساغة . يقال : أسِغ لي غُصّتي أي أمهلني ولا تُعجلني وقال تعالى : { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } والسِّواغ بكسر السين ما أسغت به غُصّتك . يقال : الماء سِواغ الغُصَص ومنه قول الكُمَيْت : @ فكانـت سِوَاغـاً أن جَئـزْت بغُصّـة @@ وروي أن اللبن لم يَشْرَق به أحد قطُّ ، وروي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . التاسعة في هذه الآية دليل على استعمال الحلاوة والأطعمة اللذيذة وتناولها ، ولا يقال : إن ذلك يناقض الزهد أو يباعده ، لكن إذا كان من وجهه ومن غير سَرَف ولا إكثار . وقد تقدّم هذا المعنى في « المائدة » وغيرها . وفي الصحيح عن أنس قال : لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله : العسل والنبيذ واللبن والماء . وقد كره بعض القرّاء أكل الفالوذَج واللبن من الطعام ، وأباحه عامة العلماء . وروي عن الحسن أنه كان على مائدة ومعه مالك بن دينار ، فأتى بفالوذَج فامتنع عن أكله فقال له الحسن : كُلْ ! فإنّ عليك في الماء البارد أكثر من هذا . العاشرة روى أبو داود وغيره عن ابن عباس قال : " أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن فشرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أكل أحدكم طعاماً فليقل اللَّهُمّ بارك لنا فيه وأطعمنا خيراً منه . وإذا سُقِيَ لبناً فليقل اللّهُمّ بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن " قال علماؤنا : فكيف لا يكون ذلك وهو أوّل ما يغتذي به الإنسان وتَنْمِي به الجثث والأبدان ، فهو قوت خليّ عن المفاسد به قِوام الأجسام ، وقد جعله الله تعالى علامة لجبريل على هداية هذه الأمة التي هي خير الأمم أمة فقال في الصحيح : " فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال لي جبريل اخترت الفِطرة أما إنك لو اخترت الخمر غَوَتْ أمتك " ثم إن في الدعاء بالزيادة منه علامة الخِصب وظهور الخيرات وكثرة البركات فهو مبارك كله .