Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 70-70)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه ثلاث مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } الآية . لما ذكر من الترهيب ما ذكر بين النعمة عليهم أيضاً . « كرمنا » تضعيف كرم أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا . وهذا هو كرم نفي النقصان لا كرم المال . وهذه الكرامة يدخل فيها خلقهم على هذه الهيئة في امتداد القامة وحسن الصورة ، وحملهم في البر والبحر مما لا يصح لحيوان سوى بني آدم أن يكون يتحمل بإرادته وقصده وتدبيره . وتخصيصهم بما خصهم به من المطاعم والمشارب والملابس ، وهذا لا يتسع فيه حيوان اتساع بني آدم لأنهم يكسبون المال خاصة دون الحيوان ، ويلبسون الثياب ويأكلون المركّبات من الأطعمة . وغاية كلّ حيوان يأكل لحما نيئاً أو طعاما غير مركّب . وحكى الطبريّ عن جماعة أن التفضيل هو أن يأكل بيده وسائر الحيوان بالفم . وروي عن ابن عباس ذكره المهدويّ والنحاس وهو قول الكلبيّ ومقاتل ذكره الماورديّ . وقال الضحاك : كرّمهم بالنطق والتمييز . عطاء : كرّمهم بتعديل القامة وامتدادها . يمان : بحسن الصورة . محمد بن كعب : بأن جعل محمداً صلى الله عليه وسلم منهم . وقيل : أكرم الرجال باللِّحَى والنساء بالذوائب . وقال محمد بن جرير الطبريّ : بتسليطهم على سائر الخلق ، وتسخير سائر الخلق لهم . وقيل : بالكلام والخط . وقيل : بالفهم والتمييز . والصحيح الذي يعوّل عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف ، وبه يُعرف الله ويُفهم كلامه ، ويوصل إلى نعيمه وتصديق رسله إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بُعثت الرسل وأنزلت الكتب . فمثال الشرع الشمس ، ومثال العقل العين ، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء . وما تقدّم من الأقوال بعضه أقوى من بعض . وقد جعل الله في بعض الحيوان خصالاً يفضل بها ابن آدم أيضاً كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوّة الفيل وشجاعة الأسد وكرم الديك . وإنما التكريم والتفضيل بالعقل كما بيناه . والله أعلم . الثانية : قالت فرقة : هذه الآية تقتضي تفضيل الملائكة على الإنس والجن من حيث إنهم المستثنون في قوله تعالى : { وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ النساء : 171 ] . وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل فيها بين الإنس والجن فإن هذه الآية إنما عدد الله فيها على بني آدم ما خصهم به من سائر الحيوان ، والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول ، ولم تتعرض الآية لذكرهم ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ، ويحتمل العكس ، ويحتمل التساوي ، وعلى الجملة فالكلام لا ينتهي في هذه المسألة إلى القطع . وقد تحاشى قوم من الكلام في هذا كما تحاشوا من الكلام في تفضيل بعض الأنبياء على بعض إذ في الخبر : " لا تُخايروا بين الأنبياء ولا تفضّلوني على يونس بن مَتَّى " وهذا ليس بشيء لوجود النص في القرآن في التفضيل بين الأنبياء . وقد بيناه في « البقرة » ومضى فيها الكلام في تفضيل الملائكة والمؤمن . الثالثة : قوله تعالى : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } يعني لذيذ المطاعم والمشارب . قال مقاتل : السمن والعسل والزبد والتمر والحَلْوَى ، وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم من التبن والعظام وغيرها . { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي على البهائم والدواب والوحش والطير بالغلبة والاستيلاء ، والثواب والجزاء والحفظ والتمييز وإصابة الفِراسة . الرابعة : هذه الآية تردّ ما روي عن عائشة رضي الله عنها ، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احْرِمُوا أنفسكم طَيّب الطعام فإنما قوى الشيطان أن يجري في العروق منها " وبه يستدلّ كثير من الصُّوفية في ترك أكل الطيبات ، ولا أصل له لأن القرآن يردّه ، والسنة الثابتة بخلافه ، على ما تقرّر في غير موضع . وقد حكى أبو حامد الطُّوسِيّ قال : كان سهل يقتات ورق النّبْق مدة ، وأكل دُقاق ورق التين ثلاث سنين . وذكر إبراهيم بن البنا قال : صحبت ذا النُّون من إخميم إلى الإسكندرية ، فلما كان وقت إفطاره أخرجت قرصا ومِلْحاً كان معي ، وقلت : هَلُمّ . فقال لي : ملحك مدقوق ؟ قلت نعم . قال : لست تُفلح ! فنظرت إلى مِزْوَده وإذا فيه قليل سَوِيقِ شعير يَسْتَف منه . وقال أبو يزيد : ما أكلت شيئاً مما يأكله بنو آدم أربعين سنة . قال علماؤنا : وهذا مما لا يجوز حمل النفس عليه لأن الله تعالى أكرم الآدميّ بالحنطة وجعل قشورها لبهائمهم ، فلا يصح مزاحمة الدواب في أكل التبن ، وأما سَويق الشعير فإنه يورث القُولَنْج ، وإذا اقتصر الإنسان على خبز الشعير والملح الجَريش فإنه ينحرف مِزاجه لأن خبز الشعير بارد مجفف ، والملح يابس قابض يضر الدّماغ والبصر . وإذا مالت النفس إلى ما يصلحها فمُنعت فقد قووِمت حكمة البارىء سبحانه بردّها ، ثم يؤثر ذلك في البدن ، فكان هذا الفعل مخالفاً للشرع والعقل . ومعلوم أن البدن مطيّة الآدميّ ، ومتى لم يرْفَق بالمطيّة لم تُبَلِّغ . وروي عن إبراهيم بن أدهم أنه اشترى زبدا وعسلاً وخبز حُوّارَى ، فقيل له : هذا كله ؟ فقال : إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال ، وإذا عدِمنا صَبَرنا صبر الرجال . وكان الثوري يأكل اللحم والعنب والفالوذج ثم يقوم إلى الصلاة . ومثل هذا عن السلف كثير . وقد تقدم منه ما يكفي في المائدة والأعراف وغيرهما . والأول غُلُوٌّ في الدِّين إن صح عنهم { وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد : 27 ]