Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 29-33)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه خمس مسائل : الأولى : قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً } التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام ، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ « ـإني نذرت للرحمن صوماً » وإنما ورد بأنها أشارت ، فيقوى بهذا قول من قال : إن أمرها بـ « ـقولي » إنما أريد به الإشارة . ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشدّ علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة التقرير : « كيف نكلم من كان فِي المهدِ صبِياً » و « كان » هنا ليس يراد بها الماضي لأن كل واحد قد كان في المهد صبياً ، وإنما هي في معنى هو الآن . وقال أبو عبيدة : « كان » هنا لغو كما قال : @ وجِيرانٍ لنا كانوا كرامِ @@ وقيل : هي بمعنى الوجود والحدوث كقوله : « وَإِنْ كَانَ ذو عُسْرَةٍ » وقد تقدّم . وقال ابن الأنباري : لا يجوز أن يقال زائدة وقد نصبت « صبياً » ، ولا أن يقال « كان » بمعنى حدث ، لأنه لو كانت بمعنى الحدوث والوقوع لاستغنى فيه عن الخبر ، تقول : كان الحَرُّ وتكتفي به . والصحيح أن « من » في معنى الجزاء و « كان » بمعنى يكن والتقدير : من يكن في المهد صبياً فكيف نكلمه ؟ ! كما تقول : كيف أعطي من كان لا يقبل عطية أي من يكن لا يقبل . والماضي قد يذكر بمعنى المستقبل في الجزاء كقوله تعالى : { تَبَارَكَ ٱلَّذِيۤ إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذٰلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [ الفرقان : 10 ] أي إن يشأ يجعل . وتقول : من كان إليّ منه إحسان كان إليه مني مثله ، أي من يكن منه إلى إحسان يكن إليه مني مثله . « والمهد » قيل : كان سريراً كالمهد . وقيل : « المهد » هاهنا حجر الأم . وقيل : المعنى كيف نكلم من كان سبيله أن ينوَّم في المهد لصغره ، فلما سمع عيسى عليه السلام كلامهم قال لهم من مرقده { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } وهي : الثانية : فقيل : كان عيسى عليه السلام يرضع فلما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، و { قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ } فكان أوّل ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى وربوبيته ، رداً على من غلا من بعده في شأنه والكتاب الإنجيل قيل : آتاه في تلك الحالة الكتاب ، وفهمه وعلمه ، وآتاه النبوّة كما علم آدم الأسماء كلها ، وكان يصوم ويصلي . وهذا في غاية الضعف على ما نبينه في المسألة بعد هذا . وقيل : أي حكم لي بإيتاء الكتاب والنبوة في الأزل ، وإن لم يكن الكتاب منزلاً في الحال وهذا أصح . { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلِّماً له . التُّسْتَريّ : وجعلني آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، وأرشد الضال ، وأنصر المظلوم ، وأغيث الملهوف . { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } أي لأؤدّيهما إذا أدركني التكليف ، وأمكنني أداؤهما ، على القول الأخير الصحيح . { مَا دُمْتُ حَيّاً } ما في موضع نصب على الظرف أي دوام حياتي . قوله تعالى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } قال ابن عباس : لما قال « وَبَرًّا بِوَالِدَتِي » ولم يقل بوالديّ علم أنه شيء من جهة الله تعالى . { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً } أي متعظماً متكبراً يقتل ويضرب على الغضب . وقيل : الجبار الذي لا يرى لأحد عليه حقّاً قطّ . { شَقِيّاً } أي خائباً من الخير . ابن عباس : عاقاً . وقيل : عاصياً لربه . وقيل : لم يجعلني تاركاً لأمره فأشقى كما شقي إبليس لما ترك أمره . الثالثة : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضى من أمره ، وبما هو كائن إلى أن يموت . وقد روي في قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا وقالوا : إن هذا لأمر عظيم . وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ، ثم عاد إلى حالة الأطفال ، حتى مشى على عادة البشر إلى أن بلغ مبلغ الصبيان ، فكان نطقه إظهار براءة أمه لا أنه كان ممن يعقل في تلك الحالة ، وهو كما ينطق الله تعالى الجوارح يوم القيامة . ولم يُنقَل أنه دام نطقه ، ولا أنه كان يصلي وهو ابن يوم أو شهر ، ولو كان يدوم نطقه وتسبيحه ووعظه وصلاته في صغره من وقت الولادة لكان مِثله مما لا ينكتم ، وهذا كله مما يدل على فساد القول الأول ، ويصرح بجهالة قائله . ويدل أيضاً على أنه تكلم في المهد خلافاً لليهود والنصارى . والدليل على ذلك إجماع الفِرق على أنها لم تُحَدّ . وإنما صحّ براءتها من الزنى بكلامه في المهد . ودلت هذه الآية على أن الصلاة والزكاة وبر الوالدين كان واجباً على الأمم السالفة ، والقرون الخالية الماضية ، فهو مما يثبت حكمه ، ولم ينسخ في شريعة أمره . وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع يأكل الشجر ، ويلبس الشعر ، ويجلس على التراب ، ويأوي حيث جَنّه الليل ، لا مسكن له ، صلى الله عليه وسلم . الرابعة : الإشارة بمنزلة الكلام ، وتُفهِم ما يُفهِم القول . كيف لا وقد أخبر الله تعالى عن مريم فقال : « فأشارت إليه » وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا : « كيف نكلم » وقد مضى هذا في « آل عمران » مستوفى . الخامسة : قال الكوفيون : لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه . وروي مثله عن الشعبي ، وبه قال الأوزاعيّ وأحمد وإسحاق ، وإنما يصح القذف عندهم بصريح الزنى دون معناه ، وهذا لا يصح من الأخرس ضرورة ، فلم يكن قاذفاً ولا يتميز بالإشارة بالزنى من الوطء الحلال والشبهة . قالوا : واللعان عندنا شهادات ، وشهادة الأخرس لا تقبل بالإجماع . قال ابن القصار : قولهم إن القذف لا يصح إلا بالتصريح فهو باطل بسائر الألسنة ما عدا العربية ، فكذلك إشارة الأخرس . وما ذكروه من الإجماع في شهادة الأخرس فغلط . وقد نص مالك أن شهادته مقبولة إذا فهمت إشارته ، وأنها تقوم مقام اللفظ بالشهادة ، وأما مع القدرة باللفظ فلا تقع منه إلا باللفظ . قال ابن المنذر : والمخالفون يلزمون الأخرس الطلاق والبيوع وسائر الأحكام ، فينبغي أن يكون القذف مثل ذلك . قال المهلب : وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل قوله عليه الصلاة والسلام : " بعثت أنا والساعة كهاتين " نعرف قرب ما بينهما بمقدار زيادة الوسطى على السبابة . وفي إجماع العقول على أن العِيان أقوى من الخبر دليل على أن الإشارة قد تكون في بعض المواضع أقوى من الكلام . { وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ } أي السلامة عليّ من الله تعالى . قال الزجاج : ذكر السلام قبل هذا بغير ألف ولام فحسن في الثانية ذكر الألف واللام . وقوله : { يَوْمَ وُلِدْتُّ } يعني في الدنيا . وقيل : من همز الشيطان كما تقدّم في « آل عمران » . { وَيَوْمَ أَمُوتُ } يعني في القبر . { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } يعني في الآخرة لأن له أحوالاً ثلاثة : في الدنيا حياً ، وفي القبر ميتاً ، وفي الآخرة مبعوثاً فسلم في أحواله كلها وهو معنى قول الكلبي . ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان . وقال قتادة : ذكر لنا أن عيسى عليه السلام رأته امرأة يُحيِي الموتى ، ويُبرىء الأكمة والأبرص في سائر آياته فقالت : طوبى للبطن الذي حملك ، والثدي الذي أرضعك فقال لها عيسى عليه السلام : طوبى لمن تلا كتاب الله تعالى واتبع ما فيه وعمل به .