Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-177)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ } ٱختلِف من المراد بهذا الخطاب فقال قتادة : ذُكر لنا أن رجلاً سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية . قال : وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إلٰه إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ثم مات على ذلك وجبت له الجنة فأنزل الله هذه الآية . وقال الربيع وقتادة أيضاً : الخطاب لليهود والنصارى لأنهم ٱختلفوا في التوجّه والتَّولّي فاليهود إلى المغرب قِبَل بيت المقدس ، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس وتكلّموا في تحويل القبلة وفضّلت كل فرقة توليتها فقيل لهم : ليس البر ما أنتم فيه ، ولكن البر من آمن بالله . الثانية : قرأ حمزة وحفص « البِرَّ » بالنصب ، لأن ليس من أخوات كان ، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر فلما وقع بعد « ليس » : « البِرّ » نصبه وجعل « أن تُوَلُّوا » الاسمِ ، وكان المصدر أولى بأن يكون ٱسماً لأنه لا يتنكّر ، والبرّ قد يتنكّر والفعل أقوى في التعريف . وقرأ الباقون « البِرُّ » بالرفع على أنه ٱسم ليس ، وخبره « أن تُوَلُّوا » ، تقديره : ليس البرّ توليتكم وجوهكم وعلى الأوّل ليس توليتكم وجوهكم البرّ ، كقوله : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] ، { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ } [ الروم : 10 ] { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ } [ الحشر : 17 ] وما كان مثله . ويقوّي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعاً في قوله : { وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } [ البقرة : 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع فحملُ الأوّل على الثاني أوْلى من مخالفته له . وكذلك هو في مصحف أُبَيّ بالباء « لَّيْسَ ٱلْبِرَّ بأَن تُوَلُّواْ » وكذلك في مصحف ٱبن مسعود أيضاً وعليه أكثر القراء ، والقراءتان حسنتان . الثالثة : قوله تعالى : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ } البر ها هنا ٱسم جامع للخير ، والتقدير : ولكن البرّ برُّ من آمن فحذف المضاف كقوله تعالى : { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ } [ البقرة : 93 ] قاله الفرّاء وقُطْرُب والزجاج . وقال الشاعر : @ فإنما هي إقبالٌ وإدبار @@ أي ذات إقبال وذات إدبار . وقال النابغة : @ وكيف تُواصل من أصبحتْ خِلاَلته كأبِي مَرْحَبِ @@ أي كخلالة أبي مَرْحب فحذف . وقيل : المعنى ولكنّ ذا البر كقوله تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] أي ذوو درجات . وذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفُرضت الفرائض وصُرفت القبلة إلى الكعبة وحُدّت الحدود أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البر كله أن تصلّوا ولا تعملوا غير ذلك ، ولكن البر أي ذا البر من آمن بالله ، إلى آخرها قاله ٱبن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضاً . ويجوز أن يكون « البر » بمعنى البارّ والبَرّ ، والفاعل قد يُسمَّى بمعنى المصدر كما يقال : رجل عَدْل ، وصَوْم وفِطْر . وفي التنزيل : { إن أصبح ماؤكم غوراً } [ الملك : 30 ] أي غائراً وهذا ٱختيار أبي عبيدة . وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت « وَلَـٰكِنَّ ٱلْبَرَّ » بفتح الباء . الرابعة : قوله تعالى : { وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ } فقيل : يكون « الموفون » عطفاً على « مَن » لأن من في موضع جمع ومحل رفع كأنه قال : ولكن البرّ المؤمنون والموفون قاله الفراء والأخفش . « والصابرين » نصب على المدح ، أو بإضمار فعل . والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أوّل الكلام ، وينصبونه . فأمّا المدح فقوله : { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] . وأنشد الكسائي : @ وكلُّ قومٍ أطاعوا أَمْرَ مُرْشِدِهم إلا نُميراً أطاعت أَمْرَ غاوِيها الظاعنين ولما يُظْعِنوا أحدا والقائلون لِمَنْ دارٌ نُخلِّيها @@ وأنشد أبو عبيدة : @ لا يَبْعَدن قومي الذين هُمُ سَمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الجُزْرِ النازلين بكل مُعْتَرَكٍ والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ @@ وقال آخر : @ نحن بني ضَبَّةَ أصحاب الجَمَل @@ فنصب على المدح . وأمّا الذّم فقوله تعالى : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوۤاْ } [ الأحزاب : 61 ] الآية . وقال عُرْوَة بن الوَرْد : @ سَقَوْني الخمر ثم تَكَنَّفُوني عُدَاةَ اللَّهِ من كَذِب وزورِ @@ وهذا مَهْيَع في النعوت ، لا مطعن فيه من جهة الإعراب ، موجود في كلام العرب كما بيّنا . وقال بعض من تعسّف في كلامه : إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال : أرى فيه لَحْناً وستقيمه العرب بألسنتها . وهكذا قال في سورة النساء { والْمُقِيمينَ الصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] ، وفي سورة المائدة { وَٱلصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] . والجواب ما ذكرناه . وقيل : « الموفون » رفع على الابتداء والخبر محذوف ، تقديره وهم الموفون . وقال الكسائي : « والصابرين » عطف على « ذوي القربى » كأنه قال : وآتى الصابرين . قال النحاس : « وهذا القول خطأ وغلط بيّن لأنك إذا نصبت « والصابرين » ونسقته على « ذوي القربى » دخل في صلة « من » وإذا رفعت « والموفون » على أنه نسق على « مَن » فقد نسقت على « مَن » مِن قبل أن تتم الصلة ، وفرّقت بين الصلة والموصول بالمعطوف » . وقال الكسائي : وفي قراءة عبد اللَّه « والموفين ، والصابرين » . وقال النحاس : « يكونان منسوقين على « ذوي القربى » أو على المدح . قال الفرّاء : وفي قراءة عبد اللَّه في النساء { وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ وَٱلْمُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [ النساء : 162 ] . وقرأ يعقوب والأعمش « والموفون والصابرون » بالرفع فيهما . وقرأ الجَحْدَرِيّ « بعهودهم » . وقد قيل : إن « والمُوفُون » عطف على الضمير الذي في « آمن » . وأنكره أبو عليّ وقال : ليس المعنى عليه إذ ليس المراد أن البرِّ بِرّ من آمن بالله هو والموفون أي آمنا جميعاً . كما تقول : الشجاع من أقدم هو وعمرو وإنما الذي بعد قوله « من آمن » تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم . الخامسة : قال علماؤنا : هذه آية عظيمة من أمّهات الأحكام لأنها تضمّنت ست عشرة قاعدة : الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وقد أتينا عليها في « الكتاب الأسنى » والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله كما تقدّم والنبّيين وإنفاق المال فيما يَعِنّ من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقّد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك ، ومراعاة ٱبن السبيل قيل المنقطع به ، وقيل : الضيف والسّؤال وفكّ الرقاب . وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات ، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد . وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب . وتقدّم التنبيه على أكثرها ، ويأتي بيان باقيها بما فيها في مواضعها إن شاء الله تعالى . وٱختلف هل يُعطَى اليتيم من صدقة التّطوع بمجرّد اليُتْم على وجه الصلة وإن كان غنياً ، أو لا يعطى حتى يكون فقيراً قولان للعلماء . وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة ، على ما نبيّنه آنفاً . السادسة : قوله تعالى : { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } ٱستدلّ به من قال : إن في المال حقاً سوى الزكاة وبها كمال البِرّ . وقيل : المراد الزكاة المفروضة ، والأوّل أصح لما خرّجه الدّارقطْني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في المال حقاً سوى الزكاة " ثم تلا هذه الآية { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية . وأخرجه ٱبن ماجه في سُننه والترمذي في جامعه وقال : « هذا حديث ليس إسناده بذاك ، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعَّف . وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح » . قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : { وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ } فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } ليس الزكاة المفروضة ، فإن ذلك كان يكون تكراراً ، والله أعلم . وٱتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها . قال مالك رحمه الله : يجب على الناس فداء أسراهم وإن ٱستغرق ذلك أموالهم . وهذا إجماع أيضاً ، وهو يقوّي ما ٱخترناه ، والموفّق الإلٰه . السابعة : قوله تعالى : { عَلَىٰ حُبِّهِ } الضمير في { حُبِّهِ } ٱختلف في عوده فقيل : يعود على المعطي للمال ، وحذف المفعول وهو المال . ويجوز نصب « ذَوِي القُرْبَى » بالحُبّ ، فيكون التقدير على حبّ المعطي ذوي القربى . وقيل : يعود على المال ، فيكون المصدر مضافاً إلى المفعول . قال ٱبن عطية : ويجيء قوله { عَلَىٰ حُبِّه } ٱعتراضاً بليغاً أثناء القول . قلت : ونظيره قوله الحق : { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً } [ الإنسان : 8 ] فإنه جمع المعنيين ، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول أي على حب الطعام . ومن الاعتراض قوله الحق : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـٰئِكَ }