Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 197-197)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه أربع عشرة مسألة : الأولى : قوله تعالى : { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } لمّا ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله : { وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ } [ البقرة : 196 ] بيّن ٱختلافهما في الوقت فجميع السَّنة وقتٌ للإحرام بالعمرة ، ووقت العمرة . وأمّا الحج فيقع في السَّنة مَرّةً ، فلا يكون في غير هذه الأشهر . { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ٱبتداء وخبر ، وفي الكلام حذف تقديره : أشهرُ الحج أشهرٌ ، أو وقت الحج أشهرٌ ، أو وقت عمل الحج أشهرٌ . وقيل التقدير : الحج في أشهر . ويلزمه مع سقوط حرف الجَرّ نصب الأشهر ، ولم يقرأ أحد بنصبها ، إلا أنه يجوز في الكلام النصب على أنه ظرف . قال الفرّاء : الأشهر رَفْعٌ لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات . قال الفرّاء : وسمعت الكسائي يقول : إنما الصيف شهران ، وإنما الطيلسان ثلاثة أشهر . أراد وقت الصيف ، ووقت لباس الطيلسان فحذف . الثانية : وٱختلِف في الأشهر المعلومات فقال ٱبن مسعود وٱبن عمر وعطاء والرّبيع ومجاهد والزهريّ : أشهر الحج شوّال وذو القعدة وذو الحجة كله . وقال ٱبن عباس والسدّي والشعبيّ والنَّخعي : هي شوّال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وروي عن ٱبن مسعود ، وقاله ٱبن الزبير ، والقولان مرويان عن مالك حكى الأخيرَ ٱبنُ حبيب ، والأوّلَ ٱبنُ المنذر . وفائدة الفرق تعلّق الدم فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج لم ير دَماً فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها في أشهر الحج . وعلى القول الأخير ينقضي الحج بيوم النحر ، ويلزم الدم فيما عمل بعد ذلك لتأخيره عن وقته . الثالثة : لم يسمّ الله تعالى أشهر الحج في كتابه لأنها كانت معلومة عندهم . ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ، لأن بعض الشهر يتنزّل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان . ولعله إنما رآه في ساعة منها فالوقت يُذكر بعضه بكله ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أيامُ مِنىً ثلاثة " وإنما هي يومان وبعض الثالث . ويقولون : رأيتك اليوم ، وجئتك العام . وقيل : لما كان الاثنان وما فوقهما جَمْعٌ قال أشهر والله أعلم . الرابعة : ٱختلف في الإهلال بالحج في غير أشهر الحج فروي عن ٱبن عباس : مِن سُنّة الحج أن يُحرم به في أشهر الحج . وقال عطاء ومجاهد وطاوس والأوزَاعي : من أحرم بالحج قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حَجّه ويكون عمرة كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه وتكون نافلة وبه قال الشافعي وأبو ثور . وقال الأوزاعي : يَحلّ بعمرة . وقال أحمد بن حنبل : هذا مكروه وروي عن مالك ، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة كلها وهو قول أبي حنيفة . وقال النَّخعيّ : لا يحلّ حتى يقضي حَجّه لقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } [ البقرة : 189 ] وقد تقدّم القول فيها . وما ذهب إليه الشافعيّ أصح لأن تلك عامة ، وهذه الآية خاصة . ويحتمل أن يكون من باب النص على بعض أشخاص العموم ، لفضل هذه الأشهر على غيرها وعليه فيكون قول مالك صحيحاً ، والله أعلم . الخامسة : قوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ } أي ألزمه نفسه بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً ، وبالإحرام فعلاً ظاهراً ، وبالتلبية نُطقاً مسموعاً قاله ٱبن حبيب وأبو حنيفة في التلبية . وليست التلبية عند الشافعي من أركان الحج وهو قول الحسن بن حَيّ . قال الشافعيّ : تكفي النية في الإحرام بالحج . وأوجب التلبية أهل الظاهر وغيرهم . وأصل الفرض في اللغة : الحَزَّ والقَطْع ومنه فُرْضة القَوْس والنّهر والجبل . ففرضية الحج لازمةٌ للعبد الحرّ كلزوم الخَزِّ للقِدْح . وقيل : « فَرَض » أي أبان وهذا يرجع إلى القطع ، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره . و « مَن » رفع بالابتداء ومعناها الشرط ، والخبر قوله : « فَرض » لأن « من » ليست بموصولة فكأنه قال : رَجُلٌ فَرْض . وقال : « فيهن » ولم يقل فيها فقال قوم : هما سواء في الاستعمال . وقال المازني أبو عثمان : الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة ، والقليل ليس كذلك تقول : الأجذاع ٱنكسرن ، والجذوع ٱنكسرت ويؤيد ذلك قول الله تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } [ التوبة : 36 ] ثم قال : « مِنها » . السادسة : قوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ } قال ٱبن عباس وٱبن جُبير والسُّدى وقتادة والحسن وعكرمة والزهريّ ومجاهد ومالك : الرَّفثُ الجماعُ أي فلا جماع لأنه يفسده . وأجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج ، وعليه حَجٌّ قابل والهَدْيُ . وقال عبد اللَّه ٱبن عمر وطاوس وعطاء وغيرهم : الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام لقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، من غير كناية وقاله ٱبن عباس أيضاً ، وأنشد وهو مُحْرِم : @ وهنّ يمشين بنا هَميسَا إن تَصدقِ الطير نَنِك لَمِيسَا @@ فقال له صاحبه حُصين بن قيس : أترفُث وأنت مُحْرِم ! فقال : إن الرّفث ما قيل عند النساء . وقال قوم : للرّفث الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهنّ أم لا . وقيل : الرفث كلمةٌ جامعةٌ لما يريده الرجل من أهله . وقال أبو عبيدة : الرّفث اللَّغَا من الكلام ، وأنشد : @ ورُبّ أسرابِ حجيج كُظّمِ عن اللّغَا ورَفَث التكلُّمِ @@ يقال : رَفَث يَرْفُث ، بضم الفاء وكسرها . وقرأ ٱبن مسعود « فلا رفوث » على الجمع . قال ٱبن العربي : المراد بقوله « فلا رفث » نفيه مشروعاً لا موجوداً ، فإنّا نجد الرّفث فيه ونشاهده ، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً كقوله تعالى : { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ } [ البقرة : 228 ] معناه : شرعاً لا حِسًّا فإنا نجد المطلّقات لا يتربّصن فعاد النّفي إلى الحكم الشرعيّ لا إلى الوجود الحِسّي . وهذا كقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 79 ] إذا قلنا : إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح أن معناه لا يمسّه أحد منهم شرعاً ، فإن وُجد المسّ فعلى خلاف حكم الشرع وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النّهي ، وما وُجد ذلك قَطُّ ، ولا يصحّ أن يوجد ، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادّان وَصْفاً » . السابعة : قوله تعالى : { وَلاَ فُسُوقَ } يعني جميع المعاصي كلّها قاله ٱبن عباس وعطاء والحسن . وكذلك قال ٱبن عمر وجماعة : الفسوق إتيان معاصي الله عز وجل في حال إحرامه بالحج كقتل الصيد وقصّ الظفر وأخذ الشعر ، وشبه ذلك . وقال ٱبن زيد ومالك : الفسوق الذبح للأصنام ومنه قوله تعالى : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [ الأنعام : 145 ] . وقال الضحاك : الفسوق التنابز بالألقاب ومنه قوله : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ } [ الحجرات : 11 ] . وقال ٱبن عمر أيضاً : الفسوق السباب ومنه قوله عليه السلام : " سِبابُ المسلِم فسوقٌ وقتالُه كفرٌ " والقول الأوّل أصح ، لأنه يتناول جميع الأقوال . قال صلى الله عليه وسلم : " « مَن حَجّ فلم يَرْفُث ولم يفسُق رَجع كيوم ولدته أمه » « والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة » " خرّجه مسلم وغيره . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسي بيده ما بين السماء والأرض مِن عملٍ أفضلُ من الجهاد في سبيل الله أو حَجّة مبرورة لا رَفَث فيها ولا فسوق ولا جدال " وقال الفقهاء : الحج المبرور هو الذي لم يُعص الله تعالى فيه أثناء أدائه . وقال الفرّاء : هو الذي لم يُعص الله سبحانه بعده ذكر القولين ٱبن العربي رحمه الله . قلت : الحج المبرور هو الذي لم يعص الله سبحانه فيه لا بعده . قال الحسن : الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة . وقيل غير هذا ، وسيأتي . الثامنة : قوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ } قُرِىء « فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ » بالرفع والتنوين فيهما . وقرئا بالنصب بغير تنوين . وأجمعوا على الفتح في « ولا جدال » ، وهو يقوّي قراءة النصب فيما قبله ، ولأن المقصود النفي العام من الرفث والفسوق والجدال ، وليكون الكلام على نظام واحد في عموم المنفي كلّه وعلى النصب أكثر القرّاء . والأسماء الثلاثة في موضع رفع ، كل واحد مع « لا » . وقوله « في الحج » خبر عن جميعها . ووجه قراءة الرفع أن « لا » بمعنى « ليس » فٱرتفع الاسم بعدها ، لأنه ٱسمها ، والخبر محذوف تقديره : فليس رفث ولا فسوق في الحج دّل عليه « في الحج » الثاني الظاهر وهو خبر « لا جدال » . وقال أبو عمرو بن العلاء : الرفع بمعنى فلا يكونن رفثٌ ولا فسوقٌ أي شيء يُخرج من الحج ، ثم ٱبتدأ النفي فقال : ولا جدال . قلت : فيحتمل أن تكون كان تامة ، مثل قوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } فلا تحتاج إلى خبر . ويحتمل أن تكون ناقصة والخبر محذوف ، كما تقدّم آنفاً . ويجوز أن يرفع « رفث وفسوق » بالابتداء ، « ولا » للنفي ، والخبر محذوف أيضاً . وقرأ أبو جعفر بن القَعْقاع بالرفع في الثلاثة . ورُويت عن عاصم في بعض الطرق ، وعليه يكون « في الحج » خبر الثلاثة ، كما قلنا في قراءة النصب وإنما لم يحسن أن يكون « في الحج » خبر عن الجميع مع ٱختلاف القراءة ، لأن خبر ليس منصوب وخبر « ولا جدال » مرفوع لأن « ولا جدال » مقطوع من الأوّل وهو في موضع رفع بالابتداء ، ولا يعمل عاملان في ٱسم واحد . ويجوز « فلا رَفَثَ ولا فسوقٌ » تعطفه على الموضع . وأنشد النحويون : @ لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلّةٌ اتّسع الخَرْقُ على الرّاقعِ @@ ويجوز في الكلام « فلا رفثَ ولا فسوقاً ولا جدالاً في الحج » عطفاً على اللفظ على ما كان يجب في « لا » . قال الفَرّاء : ومثله : @ فلا أبَ وٱبناً مثلَ مروانَ وٱبنهِ إذا هو بالمجدِ ٱرْتَدَى وتأزّرَا @@ وقال أبو رجاء العطاردي : « فلا رفثَ ولا فسوقَ » بالنصب فيهما ، « ولا جدالٌ » بالرفع والتنوين . وأنشد الأخفش : @ هذا وجَدّكم الصَّغار بعينه لا أُمَّ لِي إن كان ذاك ولا أبُ @@ وقيل : إن معنى « فلا رفث ولا فسوق » النهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا . ومعنى « ولا جدال » النفي ، فلما ٱختلفا في المعنى خولف بينهما في اللفظ . قال القشيري : وفيه نظر ، إذ قيل : « ولا جدال » نهي أيضاً أي لا تجادلوا ، فلم فرق بينهما . التاسعة : قوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ } الجدال وزنه فعال من المجادلة ، وهي مشتقة من الجَدْل وهو الفَتْل منه زمامٌ مجدول . وقيل : هي مشتقة من الجَدَالة التي هي الأرض . فكأن كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب به الجَدَالة . قال الشاعر : @ قد أركب الآلة بعد الآلة وأترك العاجز بالجَدَالهْ مُنْعَفِراً ليست له محاله @@ العاشرة : وٱختلفت العلماء في المعنى المراد به هنا على أقوال ستة فقال ٱبن مسعود وٱبن عباس وعطاء : الجدال هنا أن تُماري مسلماً حتى تغضبه فينتهي إلى السَّباب فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها . وقال قتادة : الجِدال السّباب . وقال ٱبن زيد ومالك بن أنس : الجدال هنا أن يختلف الناس : أيّهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك فالمعنى على هذا التأويل : لا جدال في مواضعه . وقالت طائفة : الجدال هنا أن تقول طائفة : الحج اليوم ، وتقول طائفة : الحج غداً . وقال مجاهد وطائفة معه : الجدال المماراة في الشهور حسب ما كانت عليه العرب من النَّسيء ، كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجَمْع وبعضهم بعَرَفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك . قلت : فعلى هذين التأويلين لا جدال في وقته ولا في موضعه ، وهذان القولان أصح ما قيل في تأويل قوله « وَلاَ جِدَالَ » لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الزمان قد ٱستدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " الحديث ، وسيأتي في « براءة » . يعني رجع أمر الحج كما كان ، أي عاد إلى يومه ووقته . وقال صلى الله عليه وسلم لما حَجّ : " خذوا عني مناسككم " فبيّن بهذا مواقف الحج ومواضعه . وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ : الجِدال أن تقول طائفة : حَجّنا أبَرّ من حَجّكم . ويقول الآخر مثل ذلك . وقيل : الجدال كان في الفخر بالآباء ، والله أعلم . الحادية عشرة : قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } شرط وجوابه ، والمعنى : أن الله يجازيكم على أعمالكم ، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء . وقيل : هو تحريض وحَثّ على حُسنِ الكلام مكان الفحش ، وعلى البِرّ والتقوى في الأخلاق مكان الفسوق والجِدال . وقيل : جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم حتى لا يوجد ما نُهوا عنه . الثانية عشرة : قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ } أَمْرٌ بٱتخاذ الزاد . قال ٱبن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وٱبن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ، ويقول بعضهم : كيف نحجّ بيت الله ولا يطعمنا فكانوا يبقون عالةً على الناس ، فنُهوا عن ذلك ، وأمِروا بالزاد . وقال عبد اللَّه بن الزبير : كان الناس يتّكل بعضهم على بعض بالزاد فأمروا بالزاد . " وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلةٌ عليها زاد ، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مُزَينة ، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال : « يا عمر زوّد القوم » " وقال بعض الناس : « تزوّدوا » الرفيق الصالح . وقال ٱبن عطية : وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة . قلت : القول الأوّل أصح ، فإن المراد الزاد المتَخَذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا كما روى البخاريّ عن ٱبن عباس قال : كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } وهذا نص فيما ذكرنا ، وعليه أكثر المفسرين . قال الشعبيّ : الزاد التمر والسَّوِيق . ٱبن جبير : الكعك والسويق . قال ٱبن العربيّ : « أمر الله تعالى بالتزوّد لمن كان له مال ، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تَنْفُق في الطريق أو سائلاً فلا خطاب عليه وإنما خاطب الله أهلَ الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون : نحن المتوكلون . والتوكل له شروط ، من قام بها خرج بغير زاد ولا يدخل في الخطاب ، فإنه خرج على الأغلب من الخلق وهم المقصّرون عن درجة التوكل الغافلون عن حقائقه ، والله عز وجل أعلم » . قال أبو الفرج الحَوْزِيّ : وقد لَبّس إبليس على قوم يدعون التوكل ، فخرجوا بلا زاد وظنوا أن هذا هو التوكل وهم على غاية الخطأ . قال رجل لأحمد بن حنبل : أريد أن أخرج إلى مكة على التوكل بغير زاد فقال له أحمد : أخرج في غير القافلة . فقال لا ، إلا معهم . قال : فعلى جُرُب الناس توكّلت ؟ ! الثالثة عشرة : قوله تعالى : { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } أخبر تعالى أن خير الزاد ٱتقاء المنهيّات فأمرهم أن يضموا إلى التزوّد التقوى . وجاء قوله { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } محمولاً على المعنى لأن معنى « وَتَزَوَّدُوا » : اتقوا الله في ٱتباع ما أمركم به من الخروج بالزاد . وقيل : يحتمل أن يكون المعنى : فإن خير الزاد ما ٱتقى به المسافر من الهَلَكة أو الحاجة إلى السؤال والتكفّف . وقيل : فيه تنبيه على أن هذه الدار ليست بدار قرار . قال أهل الإشارات : ذكّرهم الله تعالى سفر الآخرة وحثّهم على تزوّد التقوى فإن التقوى زاد الآخرة . قال الأعشى : @ إذ أنت لم تَرْحل بزادٍ من التُّقَى ولاقَيْتَ بعد الموت مَن قد تَزوّداً نَدِمتَ على ألاّ تكون كمثله وأنك لم ترصُد كما كان أرْصدَا @@ وقال آخر : @ الموتُ بحرٌ طامحٌ موجه تذهب فيه حيلة السابحِ يا نفسُ إني قائلٌ فٱسمعي مقالةً مِن مُشفق ناصِح لا يصحب الإنسانَ في قبره غيرُ التُّقَى والعملِ الصالح @@ الرابعة عشرة : قوله تعالى : { وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } خصّ أولي الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله ، وهم قابلو أوامره والناهضون بها . والألباب جمع لُبّ ولُبُّ كلّ شيء : خالصه ولذلك قيل للعقل : لُبّ . قال النحاس : سمعت أبا إسحٰق يقول قال لي أحمد بن يحيى ثعلب : أتعرف في كلام العرب شيئاً من المضاعف جاء على فَعُلَ ؟ قلت نعم ، حكى سيبويه عن يونس : لَبُبْتَ تَلُبّ فٱستحسنه وقال : ما أعرف له نظيراً .