Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 271-271)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية في صدقة التطوّع لأن الإخفاء فيها أفضل من الإظهار ، وكذلك سائر العبادات الإخفاءُ أفضل في تطوّعها لانتفاء الرياء عنها ، وليس كذلك الواجبات . قال الحسن : إظهار الزكاة أحسن ، وإخفاء التطوّع أفضل لأنه أدلّ على أنه يراد الله عز وجل به وحده . قال ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوّع تفضُل علانيتها يقال بسبعين ضِعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سِرِّها يقال بخمسة وعشرين ضِعفاً . قال : وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها . قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي وإنما هو توقيف وفي صحيح مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أفضل صلاة المرء في بيته إِلا المكتوبة " وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عُرضة لذلك وروى النَّسائيّ عن عُقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة والذي يُسِرّ بالقرآن كالذي يُسِرّ بالصدقة " وفي الحديث : " صدقة السرّ تُطْفِىء غضب الربّ " . قال ابن العربيّ : « وليس في تفضيل صدقة العلانية على السر ، ولا تفضيل صدقة السر على العلانية حديث صحيح ولكنه الإجماع الثابت فأمّا صدقة النفل فالقرآن ورد مصرّحاً بأنها في السر أفضل منها في الجهر بَيْدَ أن علماءنا قالوا : إن هذا على الغالب مخرجه ، والتحقيق فيه أن الحال في الصدقة تختلف بحال المُعْطِي لها والمعطَى إياها والناس الشاهدين لها . أما المعطي فله فيها فائدة إظهار السُّنَّة وثواب القدوة . قلت : « هذا لمن قَوِيت حاله وحسنت نيّته وأمِن على نفسه الرياء ، وأما من ضعف عن هذه المرتبة فالسرّ له أفضل . وأما المُعْطَى إياها فإن السرّ له أسلم من احتقار الناس له ، أو نسبته إلى أنه أخذها مع الغنَى عنها وتَرَك التعفّف ، وأما حال الناس فالسر عنهم أفضل من العلانية لهم ، من جهة أنهم ربما طعنوا على المعطِي لها بالرياء وعلى الآخذ لها بالاستغناء ، ولهم فيها تحريك القلوب إلى الصدقة لكن هذا اليوم قليل » . وقال يزيد بن أبي حبيب : إنما نزلت هذه الآية في الصدقة على اليهود والنصارى ، فكان يأمر بقَسْم الزكاة في السرّ . قال ابن عطيّة : وهذا مردود ، لا سِيّما عند السلف الصالح فقد قال الطبريّ : أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل . قلت : ذكر الكِيَا الطبريّ أن في هذه الآية دلالة على قول إخفاء الصدقات مطلقاً أوْلى ، وأنها حق الفقير وأنه يجوز لرب المال تفريقها بنفسه ، على ما هو أحدُ قولي الشافعيّ . وعلى القول الآخر ذكروا أن المراد بالصدقات هاهنا التطوع دون الفرض الذي إظهاره أوْلى لئلا يلحقَه تُهمة ولأجل ذلك قيل : صلاة النفل فُرَادَى أفضل ، والجماعة في الفرض أبعد عن التُّهمَة . وقال المَهْدَوِيّ : المراد بالآية فرض الزكاة وما تطوّع به ، فكان الإخفاء أفضل في مدّة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ساءت ظنون الناس بعد ذلك ، فاستحسن العلماء إظهار الفرائض لئلا يُظَنَّ بأحد المنع . قال ٱبن عطيّة : وهذا القول مخالف للآثار ، ويشبه في زماننا أن يحسن التستر بصدقة الفرض ، فقد كثر المانع لها وصار إخراجها عُرضة للرياء . وقال ابن خُوَيزْ مَنْدَاد : وقد يجوز أن يراد بالآية الواجبات من الزكاة والتطوّع لأنه ذَكر الإخفاء ومدَحه والإظهار ومَدحه ، فيجوز أن يتوجّه إليهما جميعاً . وقال النقّاش : إن هذه الآية نسخها قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ البقرة : 274 ] الآية . قوله تعالى : { فَنِعِمَّا هِيَ } ثناء على إبداء الصدقة ، ثم حكم على أن الإخفاء خير من ذلك . ولذلك قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فٱستره ، وإذا اصطُنع إليك فٱنشره . قال دِعْبِل الخُزَاعِيّ : @ إذا انتقموا أعْلَنُوا أمرَهم وإن أَنعموا أَنْعَمُوا باكْتِتامِ @@ وقال سهل بن هارون : @ خِلٌّ إذا جِئتَه يوماً لتسألَه أعطاك ما ملكتْ كفّاه واعتذرَا يُخفِي صنائعَه واللَّهُ يُظْهِرها إن الجميل إذا أخفيتَه ظهَرَا @@ وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه : لا يتمّ المعروف إلا بثلاث خصال : تعجيلُه وتصغيرُه وسترهُ فإذا أعجلته هنيّته ، وإذا صغّرته عظّمته ، وإذا سترته أتْمَمْته . وقال بعض الشعراء فأحسن : @ زاد معروفُك عندي عِظَماً أنه عندك مستورٌ حقِيرْ تَتَناساه كأَنْ لَمْ تأتِه وهو عند الناس مشهور خطِيرْ @@ واختلف القرّاء في قوله { فَنِعِمَّا هِيَ } فقرأ أبو عمرو ونافع في رواية وَرْش وعاصم في رواية حفص وابن كَثير « فَنِعِمَّا هَي » بكسر النون والعين . وقرأ أبو عمرو أيضاً ونافع في غير رواية ورش وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل « فنِعْمَا » بكسر النون وسكون العين . وقرأ الأعمش وابن عامر وحمزة والكسائيّ « فَنَعِمَّا » بفتح النون وكسر العين ، وكلهم سكَّن الميم . ويجوز في غير القرآن فَنِعْمَ مَا هِي . قال النحاس : ولكنه في السّواد متصل فلزم الإدغام . وحكى النحويون في « نِعْمَ » أربع لغات : نَعِمَ الرجلُ زيدٌ ، هذا الأصل . ونِعِمَ الرجل ، بكسر النون لكسر العين . ونَعْمَ الرجل ، بفتح النون وسكون العين ، والأصل نَعِمَ حذفت الكسرة لأنها ثقيلة . ونِعْمَ الرجل ، وهذا أفصح اللغات ، والأصل فيها نَعِم . وهي تقع في كل مدح ، فخففت وقلبت كسرة العين على النون وأسكنت العين ، فمن قرأ « فَنِعِمّا هِيَ » فله تقديران : أحدهما أن يكون جاء به على لغة من يقول نِعِم . والتقدير الآخر أن يكون على اللغة الجيّدة ، فيكون الأصل نِعْمَ ، ثم كسرت العين لالتقاء الساكنين . قال النحاس : فأمّا الذي حُكي عن أبي عمرو ونافع من إسكان العين فمحال . حُكي عن محمد بن يزيد أنه قال : أمّا إسكان العين والميم مشدّدة فلا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يَرُوم الجمع بين ساكنين ويحرّك ولا يأبَهُ . وقال أبو عليّ : من قرأ بسكون العين لم يستقم قوله لأنه جمع بين ساكنين الأوّل منهما ليس بحرف مدّولِين وإنما يجوز ذلك عند النحويين إذا كان الأوّل حرف مَدّ ، إذ المدّ يصير عِوضاً من الحركة ، وهذا نحو دابّة وضَوَالّ ونحوه . ولعل أبا عمرو أخفى الحركة واختلسها كأخذه بالإخفاء في « بَارِئِكُم و يَأْمُرُكُمْ » فظنّ السامع الإخفاء إسكاناً للطف ذلك في السمع وخفائه . قال أبو عليّ : وأمّا من قرأ « نَعِمَا » بفتح النون وكسر العين فإنما جاء بالكلمة على أصلها ومنه قول الشاعر : @ ما أقلّتْ قدمايَ إنّهُم نَعِمَ السّاعون في الأمر المُبِرْ @@ قال أبو عليّ : و « ما » من قوله تعالى : « نِعِمَّا » في موضع نصب ، وقوله « هي » تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر ، والتقدير نعم شيئاً إبداؤها ، والإبداء هو المخصوص بالمدح إلا أن المضاف حذف وأُقيم المضاف إليه مقامه . ويدلّك على هذا قوله « فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ » أي الإخفاء خير . فكما أن الضمير هنا للإخفاء لا للصدقات فكذلك ، أوّلاً الفاعل هو الإبداء وهو الذي اتصل به الضمير ، فحذف الإبداء وأُقيم ضمير الصدقات مثله . { وَإِن تُخْفُوهَا } شرط ، فلذلك حذفت النون . { وَتُؤْتُوهَا } عطف عليه . والجواب { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } . { وَيُكَفِّرُ } اختلف القراء في قراءته فقرأ أبو عمرو وابن كَثير وعاصم في رواية أبي بكر وقتَادة وابن أبي إسحاق « ونُكَفِّرُ » بالنون ورفع الراء . وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم في الراء ورُوي مثل ذلك أيضاً عن عاصم . وروى الحسين بن عليّ الجَعْفِيّ عن الأعمش « يُكَفِّرَ » بنصب الراء . وقرأ ٱبن عامر بالياء ورفع الراء ورواه حفص عن عاصم ، وكذلك روى عن الحسن ، ورُوي عنه بالياء والجزم . وقرأ ابن عباس « وتُكَفِّرْ » بالتاء وكسر الفاء وجزم الراء . وقرأ عكرمة « وتُكَفَّرْ » بالتاء وفتح الفاء وجزم الراء . وحكى المَهْدَوِيّ عن ابن هُرْمُز أنه قرأ « وتُكَفِّرُ » بالتاء ورفع الراء . وحُكي عن عكرمة وشَهْر بن حَوشب أنهما قرءا بتاء ونصب الراء . فهذه تسع قراءات أَبْيَنُهَا « ونُكَفِّرُ » بالنون والرفع . هذا قول الخليل وسيبويه . قال النحاس قال سيبويه : والرفع هاهنا الوجه وهو الجيِّد ، لأن الكلام الذي بعد الفاء يجري مجراه في غير الجزاء . وأجاز الجزم بحمله على المعنى لأن المعنى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن خيراً لكم ونكفر عنكم . وقال أبو حاتم : قرأ الأعمش « يُكَفِّرُ » بالياء دون واو قبلها . قال النحاس : والذي حكاه أبو حاتم عن الأعمش بغير واو جزماً يكون على البدل كأنه في موضع الفاء . والذي روي عن عاصم « ويُكَفِّرُ » بالياء والرفع يكون معناه ويُكَفِّرُ الله هذا قول أبي عُبَيد . وقال أبو حاتم : معناه يكفِّر الإعطاء . وقرأ ابن عباس « وتُكَفِّرْ » يكون معناه وتكفِّر الصدقات . وبالجملة فما كان من هذه القراءات بالنون فهي نون العظمة ، وما كان منها بالتاء فهي الصدقة فاعلمه إلا ما رُوي عن عكرمة من فتح الفاء فإن التاء في تلك القراءة إنما هي للسيئات ، وما كان منها بالياء فالله تعالى هو المكفِّر ، والإعطاء في خفاء مكفِّر أيضاً كما ذكرنا ، وحكاه مَكِّيّ . وأما رفع الراء فهو على وجهين : أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفِّر أو وهي تكفِّر ، أعني الصدقة ، أو والله يكفِّر . والثاني القطع والاستئناف لا تكون الواو العاطفة للاشتراك لكن تعطف جملة كلام على جملة . وقد ذكرنا معنى قراءة الجزم . فأما نصب « ونُكَفِّرَ » فضعيف وهو على إضمار أن وجاز على بُعْد . قال المَهْدَوِيّ : وهو مشبه بالنصب في جواب الاستفهام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام . والجزم في الراء أفصح هذه القراءات ، لأنها تُؤْذن بدخول التكفير في الجزاء وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء . وأما الرّفع فليس فيه هذا المعنى . قلت : هذا خلاف ما اختاره الخليل وسيبويه . و « مِنْ » في قوله { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } للتبعيض المحض . وحكى الطبريّ عن فرقة أنها زائدة . قال ٱبن عطيّة : وذلك منهم خطأ . { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وعد ووعيد .