Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 45-45)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه ثمان مسائل : الأولى : قوله تعالى : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } الصبر : الحبس في اللغة . وقُتِل فلان صَبراً أي أُمْسِك وحُبِس حتى أُتلف . وصَبَرْتُ نفسي على الشيء : حبستها . والمصبورة التي نُهى عنها في الحديث هي المحبوسة على الموت ، وهي المُجَثَّمة . وقال عنترة : @ فصَبَرْتُ عارفةً لذلك حُرّةً تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبان تَطلّعُ @@ الثانية : أمر تعالى بالصبر على الطاعة وعن المخالفة في كتابه فقال : « وَٱصْبِرُوا » . يقال : فلان صابر عن المعاصي وإذا صبر عن المعاصي فقد صبر على الطاعة هذا أصح ما قيل . قال النحاس : ولا يقال لمن صبر على المعصية : صابر إنما يقال : صابر على كذا . فإذا قلت : صابر مطلقاً فهو على ما ذكرنا قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . الثالثة : قوله تعالى : { وَٱلصَّلاَةِ } خصّ الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات تنويهاً بذكره . و : كان عليه السلام إذا حَزَبَه أمْرٌ فَزَع إلى الصلاة ومنه ما روي أن عبد اللَّه بن عباس نُعِيَ له أخوه قُثَم وقيل بنت له وهو في سفر فاسترجع وقال : عَوْرة سترها الله ، ومؤنة كفاها الله ، وأجرٌ ساقه الله . ثم تنحَّى عن الطريق وصلّى ، ثم ٱنصرف إلى راحلته وهو يقرأ : { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ } . فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية . وقال قوم : هي الدعاء على عُرْفها في اللغة فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } [ الأنفال : 45 ] لأن الثبات هو الصبر ، والذكر هو الدعاء . وقول ثالث ، قال مجاهد : الصبر في هذه الآية الصوم ومنه قيل لرمضان : شهر الصبر ، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات ويزهّد في الدنيا ، والصلاة تنهَى عن الفحشاء والمنكر ، وتُخشع ويُقرأ فيها القرآن الذي يذكّر الآخرة . والله أعلم . الرابعة : الصبر على الأذى والطاعات من باب جهاد النفس وقمعها عن شهواتها ومنعها من تطاولها ، وهو من أخلاق الأنبياء والصالحين . قال يحيى بن اليَمان : الصبر ألا تتمنّى حالة سوى ما رزقك الله ، والرضا بما قضى الله من أمر دنياك وآخرتك . وقال الشعبيّ : قال عليّ رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد . قال الطبري : وصدق عليّ رضي الله عنه وذلك أن الإيمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح فمن لم يصبر على العمل بجوارحه لم يستحق الإيمان بالإطلاق . فالصبر على العمل بالشرائع نظير الرأس من الجسد للإنسان الذي لا تمام له إلا به . الخامسة : وصف الله تعالى جزاء الأعمال وجعل لها نهاية وحدًّا فقال : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] . وجعل جزاء الصدقة في سبيل الله فوق هذا فقال : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ } [ البقرة : 261 ] الآية . وجعل أجر الصابرين بغير حساب ، ومدح أهله فقال : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . وقال : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [ الشورىٰ : 43 ] . وقد قيل : إن المراد بالصابرين في قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّابِرُونَ } [ الشورى : 43 ] أي الصائمون لقوله تعالى في صحيح السُّنّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " الصيام لي وأنا أَجْزِي به " فلم يذكر ثواباً مقدّراً كما لم يذكره في الصبر . والله أعلم . السادسة : مِن فَضْل الصّبر وصفَ الله تعالى نفسه به كما في حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس أحد أو ليس شيء أصبرَ على أذًى سمعه من الله تعالى إنهم ليَدْعُون له ولداً وإنه ليعافيهم ويرزقهم " أخرجه البخاري . قال علماؤنا : وصفُ الله تعالى بالصبر إنما هو بمعنى الحلم ، ومعنى وصفه تعالى بالحلم هو تأخير العقوبة عن المستحقين لها ، ووصفه تعالى بالصبر لم يَرِد في التنزيل وإنما ورد في حديث أبي موسى ، وتأوّله أهل السُّنة على تأويل الحلم قاله ٱبن فُورَك وغيره . وجاء في أسمائه « الصبور » للمبالغة في الحلم عمن عصاه . السابعة : قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } اختلف المتأوّلون في عود الضمير من قوله : « وإنها » فقيل : على الصلاة وحدها خاصة لأنها تكبر على النفوس ما لا يكبر الصوم . والصبر هنا : الصوم . فالصلاة فيها سجن النفوس ، والصوم إنما فيه منع الشهوة فليس مَن مُنع شهوة واحدة أو شهوتين كما مُنع جميع الشهوات . فالصائم إنما منع شهوة النساء والطعام والشراب ، ثم ينبسط في سائر الشهوات من الكلام والمشي والنظر إلى غير ذلك من ملاقاة الخلق ، فيتسلّى بتلك الأشياء عما مُنع . والمصلّي يمتنع من جميع ذلك ، فجوارحه كلها مقيَّدة بالصلاة عن جميع الشهوات . وإذا كان ذلك كانت الصلاة أصعبَ على النفس ومكابدتها أشدّ ، فلذلك قال : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } . وقيل : عليهما ، ولكنه كَنَى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله : { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 34 ] ، وقوله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] . فردّ الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم ، وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم . وقيل : إن الصبر لمّا كان داخلاً في الصلاة أعاد عليها كما قال : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] . ولم يقل : يرضوهما لأن رضا الرسول داخل في رضا الله جل وعز ومنه قول الشاعر : @ إنّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسـ ـودَ ما لم يُعاصَ كان جنونا @@ ولم يقل يعاصيا ، ردّ إلى الشباب لأن الشَّعَر داخل فيه . وقيل : ردّ الكناية إلى كل واحد منهما لكن حذف ٱختصاراً قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] ولم يقل آيتين ومنه قول الشاعر : @ فمن يك أمْسَى بالمدينة رَحْلُه فإني وَقيّارٌ بها لغرِيبُ @@ وقال آخر : @ لكلّ هَمٍّ مِن الهموم سَعَهْ والصُّبْحُ والمُسْيُ لا فلاح مَعَهْ @@ أراد : لغريبان ، لا فلاح معهما . وقيل : على العبادة التي يتضمّنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة . وقيل : على المصدر ، وهي الاستعانة التي يقتضيها قوله : { وَٱسْتَعِينُواْ } . وقيل : على إجابة محمد عليه السلام لأن الصبر والصلاة مما كان يدعو إليه . وقيل : على الكعبة لأن الأمر بالصلاة إنما هو إليها . { وكبيرةٌ } معناه ثقيلة شاقة ، خبر « إنّ » . ويجوز في غير القرآن : وإنه لكبيرة . { إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } فإنها خفيفة عليهم . قال أرباب المعاني : إلا على من أُيِّد في الأزل بخصائص الاجتباء والهدى . الثامنة : قوله تعالى : { عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ } الخاشعون جمع خاشع وهو المتواضع . والخشوع : هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع . وقال قتادة : الخشوع في القلب ، وهو الخوف وغض البصر في الصلاة . قال الزجاج : الخاشع الذي يُرَى أثر الذل والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الإقواء . هذا هو الأصل . قال النابغة : @ رَمَادٌ ككُحْل العين لأْياً أُبَيّنه ونؤيٌ كجِذْم الحوض أَثْلَمُ خاشِعُ @@ ومكان خاشع : لا يُهتَدى له . وخَشَعت الأصوات أي سكنت . وخَشَعت خَراشِيُّ صدرِه إذا ألقى بُصاقاً لزِجاً . وخَشَع ببصره إذا غَضّه . والخُشْعة : قطعة من الأرض رِخوة وفي الحديث : " كانت خُشْعة على الماء ثم دُحيت بعد " وبلدة خاشعة : مغبرّة لا منزل بها . قال سفيان الثورِيّ : سألت الأعمش عن الخشوع فقال : يا ثوريّ ، أنت تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع ! سألت إبراهيم النخعِيّ عن الخشوع فقال : أُعَيْمِش ! تريد أن تكون إماماً للناس ولا تعرف الخشوع ! ليس الخشوع بأكل الخشن ولبس الخشن وتطأطؤ الرأس ! لكن الخشوع أن ترى الشريف والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض ٱفترض عليك . ونظر عمر بن الخطاب إلى شاب قد نكس رأسه فقال : يا هذا ! ارفع رأسك ، فإن الخشوع لا يزيد على ما في القلب . وقال عليّ بن أبي طالب : الخشوع في القلب ، وأن تلين كفّيك للمرء المسلم ، وألاّ تلتفت في صلاتك . وسيأتي هذا المعنى مجوَّداً عند قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 1 2 ] . فمن أظهر للناس خشوعاً فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقاً على نفاق . قال سهل بن عبد اللَّه : لا يكون خاشعاً حتى تخشع كل شعرة على جسده لقول الله تبارك وتعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } [ الزمر : 23 ] . قلت : هذا هو الخشوع المحمود لأن الخوف إذا سكن القلب أوجب خشوع الظاهر فلا يملك صاحبه دفعه ، فتراه مطرقاً متأدّباً متذلّلاً . وقد كان السلف يجتهدون في ستر ما يظهر من ذلك وأما المذموم فتكلّفه والتباكي ومطأطأة الرأس كما يفعله الجهال ليُرَوْا بعين البر والإجلال ، وذلك خدع من الشيطان ، وتسويل من نفس الإنسان . روى الحسن أن رجلاً تنفّس عند عمر بن الخطاب كأنه يتحازن فلكزه عمر ، أو قال لكمه . وكان عمر رضي الله عنه إذا تكلّم أسمع ، وإذا مشى أسرع ، وإذا ضرب أوجع ، وكان ناسكاً صدقاً ، وخاشعاً حقًّا . وروى ٱبن أبي نَجِيح عن مجاهد قال : الخاشعون هم المؤمنون حقاً .