Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 61-61)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ } كان هذا القول منهم في الِّتيه حين مَلُّوا المنّ والسَّلْوَى ، وتذكّروا عيشهم الأوّل بمصر . قال الحسن : كانوا نَتَانَى أهل كُرّاث وأبصال وأعداس ، فنزعوا إلى عِكْرهم عِكرِ السّوء ، وٱشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : لن نصبر على طعام واحد . وكَنوا عن المنّ والسلوى بطعام واحد وهما ٱثنان لأنهم يأكلون أحدهما بالآخر فلذلك قالوا : طعام واحد . وقيل : لتكرارهما في كل يوم غذاء كما تقول لمن يداوم على الصوم والصلاة والقراءة : هو على أمر واحد لملازمته لذلك . وقيل : المعنى لن نصبر على الغنى فيكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض لاستغناء كل واحد منّا بنفسه . وكذلك كانوا فهم أوّل من ٱتخذ العبيد والخَدَم . قوله تعالى : { عَلَىٰ طَعَامٍ } الطعام يُطلق على ما يُطعم ويُشرب قال الله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } [ البقرة : 249 ] وقال : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } [ المائدة : 93 ] أي ما شربوه من الخمر ، على ما يأتي بيانه . وإن كان السلوى العسل كما حكى المؤرِّج فهو مشروب أيضاً . وربما خُصّ بالطعام البُرُّ والتمرُ ، كما في حديث أبي سعيد الخُدْرِيّ قال : " كنا نُخرج صدقةَ الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير " الحديث . والعرف جارٍ بأن القائل : ذهبت إلى سوق الطعام ، فليس يفهم منه إلا موضع بيعه دون غيره مما يؤكل أو يُشرب . والطَّعْم بالفتح : هو ما يؤدّيه الذوق يقال : طعمهْ مرّ . والطَّعْم أيضاً : ما يشتهى منه يقال : ليس له طعم . وما فلان بذي طعم : إذا كان غثًّا . والطُّعم بالضم : الطعام قال أبو خِراش : @ أرُدّ شُجاعَ البطن لو تعلمينه وأُوثِرُ غيري من عِيَالِكِ بالطُّعْمِ وأغتبِق الماء القَرَاحَ فانتهي إذا الزادُ أمسى للمُزَلَّج ذا طَعْمِ @@ أراد بالأوّل الطعام ، وبالثاني ما يُشتهى منه . وقد طَعِم يَطْعَمُ فهو طاعم إذا أكل وذاق ومنه قوله تعالى : « وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّه مِنِّي » أي من لم يذقه . وقال : « فَإذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُوا » أي أكلتم . " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمزم : « إنها طَعامُ طُعْمٍ وشِفاءُ سُقْم » " وٱستطعمني فلان الحديث إذا أراد أن تحدّثه . وفي الحديث : " إذا ٱستطعمكم الإمامُ فأطعموه " يقول : إذا ٱستفتح فٱفتحوا عليه . وفلان ما يَطْعَم النوم إلا قائماً . وقال الشاعر : @ نَعاماً بوَجْرَةَ صُفر الخدو د ما تَطْعَم النومَ إلا صِياماً @@ قوله تعالى : { فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ } لغة بني عامر « فٱدعِ » بكسر العين لالتقاء الساكنين يُجرون المعتل مجرى الصحيح ولا يراعون المحذوف . و « يُخْرِجْ » مجزوم على معنى سَلْه وقل له : أَخْرِجْ ، يُخْرِج . وقيل : هو على معنى الدعاء على تقدير حذف اللام ، وضعّفه الزجاج . و « مِن » ، في قوله « مِمّا » زائدة في قول الأخفش ، وغير زائدة في قول سيبويه لأن الكلام موجب . قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولاً لـ « ـيُخرِج » فأراد أن يجعل « ما » مفعولاً . والأوْلى أن يكون المفعول محذوفاً دلّ عليه سائر الكلام التقدير : يخرج لنا مما تنبت الأرض مأكولاً . فـ « من » الأولى على هذا للتبعيض ، والثانية للتخصيص . و { مِن بَقْلِهَا } بدل من « ما » بإعادة الحرف . { وَقِثَّآئِهَا } عطف عليه ، وكذا ما بعده فٱعلمه . والبَقْلُ معروف ، وهو كل نبات ليس له ساق . والشجر : ما له ساق . والقِثّاء أيضاً معروف ، وقد تُضمّ قافه ، وهي قراءة يحيىٰ بن وَثّاب وطلحة بن مُصَرِّف ، لغتان والكسر أكثر . وقيل في جمع قِثّاء : قَثَائِيّ مثلُ عِلْبَاء وعَلاَبِيّ إلا أن قثاء من ذوات الواو تقول : أقثأتُ القوم أي أطعمتهم ذلك . وفَثَأَت القِدْرَ سكّنت غليانها بالماء قال الجَعْدِيّ : @ تَفُور علينا قِدْرُهم فنُدِيمُهَا ونَفْثَؤُها عنّا إذا حَمْيُهَا غلا @@ وفثأتُ الرجل إذا كسرتَه عنك بقول أو غيره وسكّنت غضبه . وعدا حتى أفثأ أي أعْيَا وٱنبهر . وأفثأ الحَرُّ أي سكن وفتَر . ومن أمثالهم في اليسير من البِرّ قولهم : إنّ الرَّثِيئة تفثأ في الغضب » . وأصله أن رجلاً كان غَضِب على قوم وكان مع غضبه جائعاً ، فسَقَوْه رَثِيئة فسكن غضبه وكفّ عنهم . الرثيئة : اللبن المحلوب على الحامض ليَخْثُر . رَثَأْت اللبن رَثْأً إذا حلبته على حامض فخُثر والاسم الرَّثيئة . وٱرتثأ اللبن خثر . ] وروى ٱبن ماجه حدّثنا محمد بن عبد اللَّه بن نمير حدّثنا يونس بن بُكير حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : « كانت أمّي تعالجني للسِّمْنة ، تريد أن تُدخلني على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما ٱستقام لها ذلك حتى أكلت القِثّاء بالرُّطَب فسَمِنتُ كأحسنِ سِمْنة » . وهذا إسناد صحيح . قوله تعالى : { وَفُومِهَا } اختلف في الفُوم ، فقيل : هو الثُّوم ، لأنه المشاكل للبصل . رواه جُوَيْبِر عن الضحاك . والثاء تبدل من الفاء ، كما قالوا : مغافير ومغاثير . وجَدَثٌ وجَدَفٌ للقبر . وقرأ ٱبن مسعود « ثومها » بالثاء المثلثة وروي ذلك عن ٱبن عباس . وقال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت : @ كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرةً فيها الفَرَادِيْسُ والفُومان والبَصلُ @@ الفراديس : واحدها فرديس . وكَرْمُ مَفْرَدس ، أي معرّش ، وقال حسّان : @ وأنتم أناسٌ لئامُ الأصول طعامُكُم الفُومُ والحَوْقَلُ @@ يعني الثّوم والبصل وهو قول الكسائي والنّضر بن شُمَيل . وقيل : الفُوم الحنطة روي عن ٱبن عباس أيضاً وأكثر المفسرين وٱختاره النحاس ، قال : وهو أوْلى ، ومن قال به أعلى ، وأسانيده صحاح وليس جُوَيْبر بنظير لرُوايته وإن كان الكسائي والفراء قد ٱختارا القول الأوّل ، لإبدال العرب الفاء من الثاء والإبدال لا يقاس عليه وليس ذلك بكثير في كلام العرب . وأنشد ٱبن عباس لمن سأله عن الفوم وأنه الحنطة ، قول أحَيْحَة بن الجُلاَح : @ قد كنتُ أغنَى الناسِ شخصاً واجداً ورَدَ المدينةَ عن زراعة فُومِ @@ وقال أبو إسحاق الزجاج : وكيف يطلب القوم طعاماً لا بُرّ فيه ، والبرّ أصل الغذاء ! وقال الجوهري أبو نصر : الفوم الحنطة . وأنشد الأخفش : @ قد كنت أحسبني كأغنى واجد نزل المدينة عن زراعة فُومِ @@ وقال ٱبن دُرَيد : الفُومة السُّنْبلة وأنشد : @ وقال رَبِيئهم لمّا أتانا بِكَفّهِ فومةٌ أو فُومتان @@ والهاء في « كَفّه » غير مشبعة . وقال بعضهم : الفُوم : الحِمَّص لغةٌ شاميّة . وبائعه فاميّ ، مغيَّر عن فُوميّ لأنهم قد يغيّرون في النسب كما قالوا : سُهْلِيّ ودُهْرِيّ . ويقال : فَوِّموا لنا أي ٱختبزوا . قال الفرّاء : هي لغة قديمة . وقال عطاء وقتادة : الفُوم كل حب يُخْتَبز . مسألة : ٱختلف العلماء في أكل البصل والثوم وما له رائحة كريهة من سائر البقول . فذهب جمهور العلماء إلى إباحة ذلك للأحاديث الثابتة في ذلك . وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب الصلاة في الجماعة فرضاً إلى المنع ، وقالوا : كل ما مَنَع من إتيان الفرض والقيام به فحرام عمله والتشاغل به . وٱحتجّوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمّاها خبيثة والله عز وجل قد وصف نبيّه عليه السلام بأنه يحرّم الخبائث . ومن الحجة للجمهور ما ثبت عن جابر : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ ببَدْر فيه خَضِرات من بقول فوجد لها ريحاً قال : فأخْبِر بما فيها من البقول فقال : « قرّبوها » إلى بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها ، قال : « كُلْ فإنِّي أُناجِيَ مَن لا تُناجِي » " أخرجه مسلم وأبو داود . فهذا بَيِّنٌ في الخصوص له والإباحة لغيره . وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي أيوب : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل على أبي أيوب ، فصنع للنبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثُوم ، فلما رُدّ إليه سأل عن موضع أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : لم يأكل . ففزِع وصعِد إليه فقال : أحرامٌ هو ؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ولكني أكْرَهُه » . قال : فإني أكره ما تكره أو ما كرهت ، قال : وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى يعني يأتيه الوحي " فهذا نصّ على عدم التحريم . وكذلك ما رواه أبو سعيد الخُدْرِيّ " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حين أكلوا الثّوم زمنَ خَيْبَر وفتحها : « أيها الناس إنه ليس لي تحريمُ ما أحلّ الله ولكنها شجرة أكره ريحها » " فهذه الأحاديث تُشعر بأن الحكم خاصّ به ، إذ هو المخصوص بمناجاة المَلَك . لكن قد علمنا هذا الحكم في حديث جابر بما يقتضي التسوية بينه وبين غيره في هذا الحكم حيث قال : " من أكل من هذه البقلةِ الثوم وقال مرة : من أكل البصل والثوم والكُرّاث فلا يَقْرَبَنّ مسجدنا فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم " وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث فيه طُول : " إنكم أيها الناس ، تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم . ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأُخْرِج إلى البَقيع ، فمن أكلهما فَلْيُمِتْهُمَا طبخاً " خرّجه مسلم . قوله تعالى : { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } العدس معروف . والعَدَسَةُ : بثْرَةٌ تخرج بالإنسان ، وربما قتلت . وعَدَسْ : زَجْرٌ للبغال قال : @ عَدَسْ ما لِعبّادٍ عليكِ إمارةٌ نَجوْتِ وهذا تحملين طَلِيق @@ والعَدْس : شدّة الوطء ، والكَدْح أيضاً يقال : عَدَسه . وعَدَس في الأرض : ذهب فيها . وعَدَستْ إليه المنيّة أي سارت قال الكُمَيْت : @ أُكَلّفها هَوْلَ الظلامِ ولم أزَلْ أخا الليلِ مَعْدوساً إليّ وعادِسَا @@ أي يُسار إليّ بالليل . وعَدَسْ : لغة في حَدَس قاله الجوهري . ويؤثَرُ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث عليّ أنه قال : " عليكم بالعدس فإنه مبارَك مقدّس وإنه يَرِقّ القلب ويكثر الدَّمعة فإنه بارك فيه سبعون نبيًّا آخرهم عيسى ابن مريم " ذكره الثعلبي وغيره . وكان عمر بن عبد العزيز يأكل يوماً خبزاً بزيت ، ويوماً بلحم ، ويوماً بعدس . قال الحَلِيميّ : والعدس والزيت طعام الصالحين ولو لم يكن له فضيلة إلا أنه ضيافة إبراهيم عليه السلام في مدينته لا تخلو منه لكان فيه كفاية . وهو مما يخفّف البدن فيخِفّ للعبادة ، ولا تثور منه الشهوات كما تثور من اللحم . والحِنْطة من جملة الحبوب وهي الفُوم على الصحيح ، والشعير قريب منها وكان طعام أهل المدينة ، كما كان العدس من طعام قرية إبراهيم عليه السلام فصار لكل واحد من الحبتين بأحد النبيين عليهما السلام فضيلة . وقد روي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لم يَشْبع هو وأهله من خُبْزِ بُرًّ ثلاثة أيام متتابعة منذ قِدم المدينة إلى أن توفاه الله عزّ وجلّ " . قوله تعالى : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } الاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر ومنه البدل ، وقد تقدّم . و « أدْنَى » مأخوذ عند الزجاج من الدُّنُوّ أي القُرْب في القيمة من قولهم : ثَوْبٌ مقارِب أي قليل الثمن . وقال عليّ بن سليمان : هو مهموز من الدنيء البيّن الدناءة بمعنى الأخس ، إلا أنه خفّف همزته . وقيل : هو مأخوذ من الدُّون أي الأحط فأصله أَدْوَن ، أفْعَل ، قُلِب فجاء أفْلَع وحُوّلت الواو ألفاً لتطرُّفها . وقُرىء في الشّواذّ « أدنأ » . ومعنى الآية : أتستبدلون البَقْل والقِثّاء والفُومَ والعَدَس والبَصل الذي هو أدنى بالمنّ والسَّلْوَى الذي هو خير . وٱختُلِف في الوجوه التي توجب فضل المنّ والسّلْوَى على الشيء الذي طلبوه وهي خمسة : الأوّل : أن البقول لما كانت لا خطر لها بالنسبة إلى المنّ والسلوى كانا أفضل قاله الزجاج . الثاني : لمّا كان المنّ والسلوى طعاماً منّ الله به عليهم وأمرهم بأكله وكان في ٱستدامة أمر الله وشكر نعمته أجر وذُخْرٌ في الآخرة ، والذي طلبوه عارٍ من هذه الخصائل ، كان أدنى في هذا الوجه . الثالث : لمّا كان ما منّ الله به عليهم أطيب وألذّ من الذي سألوه ، كان ما سألوه أدنى من هذا الوجه لا محالة . الرابع : لمّا كان ما أُعْطُوا لا كُلْفةَ فيه ولا تعب ، والذي طلبوه لا يجيء إلا بالحرث والزراعة والتعب ، كان أدنى . الخامس : لمّا كان ما ينزل عليهم لا مِرْيةَ في حِلّه وخُلوصه لنزوله من عند الله ، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغصوب وتدخلها الشُّبه ، كانت أدنى من هذا الوجه . مسألة : في هذه الآية دليلٌ على جواز أكل الطّيبات والمطاعم المستلذّات ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ الحَلْوى والعَسَل ، ويشرب الماء البارد العَذْب وسيأتي هذا المعنى في « المائدة » و « النحل » إن شاء الله مستوفىً . قوله تعالى : { ٱهْبِطُواْ مِصْراً } تقدّم معنى الهبوط وهذا أمر معناه التعجيز كقوله تعالى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } [ الإسراء : 50 ] . لأنهم كانوا في التِّيه وهذا عقوبة لهم . وقيل : إنهم أعطوا ما طلبوه . و « مِصْراً » بالتنوين منكَّراً قراءة الجمهور ، وهو خطّ المصحف . قال مجاهد وغيره : فمن صَرَفها أراد مِصْراً من الأمصار غير معيَّن . وروى عكرمة عن ٱبن عباس في قوله : « ٱهْبِطُوا مِصْراً » قال : مِصْراً من هذه الأمصار . وقالت طائفة ممن صَرَفها أيضاً : أراد مِصْرَ فرعون بعينها . استدلّ الأوّلون بما ٱقتضاه ظاهر القرآن من أمرهم دخول القرية ، وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التِّيه . وٱستدلّ الآخرون بما في القرآن من أن الله أوْرث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم ، وأجازوا صرفها . قال الأخفش والكسائي : لخفّتها وشبهها بِهنْد ودَعْد وأنشد : @ لم تَتَلَفّعْ بفضل مِئزرها دَعْدٌ ولم تُسْقَ دَعْدُ في العُلَبِ @@ فجمع بين اللغتين . وسيبويه والخليل والفرّاء لا يجيزون هذا لأنك لو سَمّيت ٱمرأة بزيد لم تصرف . وقال غير الأخفش : أراد المكان فَصرف . وقرأ الحسن وأَبَان بن تَغْلِب وطلحة : « مِصْرَ » بترك الصرف . وكذلك هي في مصحف أُبيّ بن كعب وقراءة ٱبن مسعود . وقالوا : هي مصر فرعون . قال أشهب قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ذكره ٱبن عطية . والمِصر أصله في اللغة الحدّ . ومِصر الدّار : حدودها . قال ٱبن فارس ويقال : إن أهل هَجَر يكتبون في شروطهم « ٱشترى فلان الدار بِمُصُورها » أي حدودها قال عَدِيّ : @ وجاعلُ الشمسِ مصراً لا خفاءَ به بين النهار وبين الليل قد فَصلاَ @@ قوله تعالى : { فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } « ما » نصب بإن . وقرأ ٱبن وثَّاب والنَّخَعِي « سألتم » بكسر السين يقال : سألت وسلت بغير همز . وهو من ذوات الواو ، بدليل قولهم : يتساولان . ومعنى { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ } أي أُلزِموهما وقُضِيَ عليهم بهما مأخوذ من ضرب القباب ، قال الفرزدق في جَرِير : @ ضربتْ عليك العنكبوتُ بنَسْجها وقَضَى عليك به الكتابُ الْمُنْزَلُ @@ وضرب الحاكم على اليد أي حمل وألزم . والذَّلّة : الذُّلّ والصَّغار . والمسكنة : الفقر . فلا يوجد يهوديّ وإن كان غَنِياً خالياً من زِي الفقر وخضوعه ومهانته . وقيل : الذلة فرض الجِزْية عن الحسن وقتادة . والمسكنة الخضوع ، وهي مأخوذة من السكون أي قلّل الفقر حركته قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة : الذِّلة الصِّغار . والمسكنة مصدر المسكين . وروى الضّحاك بن مُزاحم عن ٱبن عباس : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ } قال : هم أصحاب القَبَالات . قوله تعالى : { وَبَآءُوا } أي ٱنقلبوا ورجعوا أي لزمهم ذلك . ومنه قوله عليه السلام في دعائه ومناجاته : " أَبُوءُ بنعمتك عليّ " أي أُقِرّ بها وأُلزمها نفسي . وأصله في اللغة الرجوع يقال باء بكذا ، أي رجع به . وباء إلى المَبَاءة وهي المنزل أي رجع . والبواء : الرجوع بالقَوَد . وهم في هذا الأمر بَوَاء أي سواء ، يرجعون فيه إلى معنىً واحد . وقال الشاعر : @ ألاَ تَنْتَهِي عنّا ملوكٌ وتَتّقي محارِمَنا لا يَبْؤُؤُ الدّمُ بالدّمِ @@ أي لا يرجع الدّم بالدم في القَوَد . وقال : @ فآبُوا بالنِّهابِ وبالسَّبايَا وأُبْنَا بالملوكِ مُصَفَّدِينَا @@ أي رجعوا ورجعنا . وقد تقدّم معنى الغضب في الفاتحة . قوله تعالى : { ذَلِكَ } « ذلك » تعليل . { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي يكذّبون { بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي بكتابه ومعجزات أنبيائه كعيسى ويحيى وزكريا ومحمد عليهم السلام . { وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ } معطوف على « يكفرون » . ورُوِيَ عن الحسن « يُقَتِّلون » وعنه أيضاً كالجماعة . وقرأ نافع « النَّبِيئين » بالهمز حيث وقع في القرآن إلا في موضعين : في سورة الأحزاب : { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ } [ الأحزاب : 50 ] . { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ } [ الأحزاب : 53 ] فإنه قرأ بلا مدّ ولا همز . وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين . وتَرَك الهمزَ في جميع ذلك الباقون . فأمّا من همز فهو عنده من أنبأ إذا أخبر وٱسم فاعله مُنْبِىء . ويجمع نبيء أنبياء ، وقد جاء في جمع نبيّ نُبآء قال العباس بن مِرْدَاس السُّلَمي يمدح النبيّ صلى الله عليه وسلم : @ يا خَاتَم النُّبَآءِ إنك مُرْسَلٌ بالحق كلُّ هُدَى السبيلِ هُدَاكَا @@ هذا معنى قراءة الهمز . وٱختلف القائلون بترك الهمز فمنهم من ٱشتق ٱشتقاق من همز ، ثم سهّل الهمز . ومنهم من قال : هو مشتق من نَبَا يَنْبُو إذا ظهر . فالنبيّ من النبوة وهو الارتفاع فمنزلة النبيّ رفيعة . والنبيّ بترك الهمز أيضاً الطريق ، فسُمِّيَ الرسول نَبِياًّ لاهتداء الخلق به كالطريق قال الشاعر : @ لأصبح رَتْماً دُقاق الحَصَى مكانَ النَّبِيّ من الكاثِبِ @@ رتَمْت الشيء : كسرته يقال : رتم أنفه ورثمه ، بالتاء والثاء جميعاً . والرتم أيضاً المرتوم أي المكسور . والكاثب ٱسم جبل . فالأنبياء لنا كالسُّبُل في الأرض . ويروى " أن رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا نبيء الله وهمز . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لستُ بنبيء الله وهمز ولكني نبيّ الله » ولم يهمز " قال أبو عليّ : ضُعِّف سند هذا الحديث ومما يقوّي ضعفه أنه عليه السلام قد أنشده المادح : @ يا خاتَمَ النُّبَآء … @@ ولم يُؤْثَر في ذلك إنكار قوله تعالى : { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } تعظيم للشُّنْعة والذّنب الذي أتوه . فإن قيل : هذا دليل على أنه قد يصح أن يُقتلوا بالحق ومعلوم أن الأنبياء معصومون من أن يصدر منهم ما يُقتلون به . قيل له : ليس كذلك وإنما خرج هذا مخرج الصفة لقتلهم أنه ظُلم وليس بحق فكان هذا تعظيماً للشُّنعة عليهم ومعلوم أنه لا يُقتل نبيّ بحق ، ولكن يُقتل على الحق فصرّح قوله : { بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ } عن شُنعة الذنب ووضوحه ولم يأت نبيّ قط بشيء يوجب قتله . فإن قيل : كيف جاز أن يخلّى بين الكافرين وقتل الأنبياء ؟ قيل : ذلك كرامة لهم وزيادة في منازلهم كمثل من يُقتل في سبيل الله من المؤمنين ، وليس ذلك بُخذلان لهم . قال ٱبن عباس والحسن : لم يُقتل نبيّ قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال ، وكلُّ مَن أمر بقتال نُصِر . قوله تعالى : { ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } « ذلك » ردّ على الأوّل وتأكيد للإشارة إليه . والباء في « بما » باء السبب . قال الأخفش : أي بعصيانهم . والعصيان : خلاف الطاعة . وٱعتصتِ النّواةُ إذا ٱشتدّت . والاعتداء : تجاوز الحدّ في كل شيء وعُرِف في الظلم والمعاصي .