Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 146-147)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } . قال الزهريّ : صاح الشيطان يوم أُحُد : قتِل محمد فانهزم جماعة من المسلمين . قال كعب بن مالك : فكنت أوّل من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأيتُ عينيْه من تحت المِغْفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأومأ إليّ أن أسكت ، فأنزل الله عز وجل : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ } الآية . و « كأين » بمعنى كَمْ . قال الخليل وسيبويه : هي أيّ دخلت عليها كاف التشبيه وبنيت معها فصار في الكلام معنى كم وصوّرت في المصحف نوناً لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغُيِّر لفظها لتغير معناها ، ثم كثر استعمالها فتلعَّبَت بها العرب وتصرفت فيها بالقلب والحذف ، فحصل فيها لغات أربعٌ قُرِىء بها . وقرأ ابن كثير « وكَائِنْ » مثل وكَاعِنْ ، على وزن فاعل ، وأصله كَيْءٍ فقلبت الياء ألفاً ، كما قلبت في يَيْأَس فقيل ياءَسُ قال الشاعر : @ وكَائِنْ بالأبَاطِحِ من صَديقٍ يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هو المُصَابَا @@ وقال آخر : @ وكَائِنْ رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّجٍ يَجِىءُ أمامَ الرَّكْب يَرْدِي مُقَنَّعَا @@ وقال آخر : @ وكَائِنْ في المَعاشِرِ من أُنَاس أخوهم فَوْقَهم وهُمُ كِرَامُ @@ وقرأ ابن محيصِن « وكَئِنْ » مهموزاً مقصوراً مثل وكَعِن ، وهو من كَائِنْ حذفت ألفه . وعنه أيضاً « وكَأْيِن » مثل وكَعْيِّنْ وهو مقلوب كَيْءٍ المخفف . وقرأ الباقون « كَأَيِّنْ » بالتشديد مثل كَعَيِّن وهو الأصل ، قال الشاعر : @ كَأَيِّنْ من أُناسٍ لم يزالوا أخوهم فوقَهم وهُمُ كرامُ @@ وقال آخر : @ كأَيِّنْ أبَدْنا من عدوّ بِعزِّنا وكائِنْ أجَرْنا من ضَعِيفٍ وخائفٍ @@ فجمع بين لغتين : كأَيِّنْ وكَائِنْ ، ولغة خامسة كَيْئِنْ مثل كَيْعِنْ ، وكأنه مخفَّف من كَيِّىء مقلوب كَأيِّنْ . ولم يذكر الجوهري غير لغتين : كائِنْ مثل كاعِنْ ، وكأَيِّنْ مثل كَعَيِّنْ تقول كأَيِّنْ رجلاً لقيتُ بنصب ما بعد كأَيِّنْ على التمييز . وتقول أيضاً : كأَيِّنْ مِن رجل لقيت وإدخال مِن بعدَ كأيِّنْ أكثرُ من النصب بها وأجودُ . وبكأَيِّنْ تبيع هذا الثوب ؟ أي بكم تبيع قال ذو الرمّة : @ وكَائِنْ ذَعَرْنا من مَهَاةٍ ورَامِحٍ بِلاَدُ العِدَا لَيْسَتْ له بِبِلادِ @@ قال النحاس : ووقف أبو عمرو « وكَأَيْ » بغير نون لأنه تنوين . وروى ذلك سَوْرَةُ ابن المبارك عن الكسائيّ . ووقف الباقون بالنون اتباعاً لخط المصحف . ومعنى الآية تشجيع المؤمنين ، والأمر بالاقتداء بمن تقدّم من خِيار أتباع الأنبياء أي كثير من الأنبياء قُتِل معه رِبِّيُّون كثير ، أو كثير من الأنبياء قتِلوا فما ٱرتدّ أممهم قولان : الأوّل للحسن وسعيد بن جبير . قال الحسن : ما قُتِل نبي في حرب قط . وقال ابن جبير : ما سمعنا أن نبياً قتل في القتال . والثاني عن قتادة وعكرمة . والوقف على هذا القول على « قُتِل » جائز ، وهي قراءة نافع وابن جبير وأبي عمرو ويعقوب . وهي قراءة ابن عباس وٱختارها أبو حاتم . وفيه وجهان : أحدهما أن يكون « قُتِل » واقعاً على النبيّ وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قوله « قُتِل » ويكون في الكلام إضمار ، أي ومعه ربيون كثير كما يقال : قُتِل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه جيش . وخرجْتُ معي تجارة أي ومعي . الوجه الثاني أن يكون القتل نال النبيّ ومن معه من الربِّيّين ، ويكون وجه الكلام قتِل بعض من كان معه تقول العرب : قتلنا بني تميم وبني سليم ، وإنما قتلوا بعضهم . ويكون قوله { فَمَا وَهَنُوا } راجعاً إلى من بقي منهم . قلت : وهذا القول أشبه بنزول الآية وأنسب ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل ، وقُتِل معه جماعة من أصحابه . وقرأ الكوفيون وابن عامر « قَاتَلَ » وهي قراءة ابن مسعود واختارها أبو عبيْد وقال . إن الله إذا حَمِد من قاتل كان من قُتِل داخلاً فيه ، وإذا حمِد من قُتِل لم يدخل فيه غيرهم فقاتل أعمّ وأمدح . و « الرِّبيون » بكسر الراء قراءة الجمهور . وقراءة عليّ رضي الله عنه بضمها . وابن عباس بفتحها ثلاث لغات . والرِّبِّيون الجماعات الكثيرة عن مجاهد وقتادة والضّحاك وعِكرمة ، واحدهم رُبِّيّ بضم لراء وكسرها منسوب إلى الرِّبة بكسر الراء أيضاً وضمها ، وهي الجماعة . وقال عبد الله بن مسعود : الربِّيُّون الألوف الكثيرة . وقال ابن زيد : الربِّيُّون الأتباع . والأوّل أعرف في اللغة ومنه يقال للخِرقة التي تجمع فيها القِدَاح : رِبّةٌ ورُبّة . والرِّبَاب قبائل تجَمَّعَت . وقال أَبَان بن ثعلب : الرِّبي عشرة آلاف . وقال الحسن : هم العلماء الصُّبُر . ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسّدي : الجمْعُ الكثير قال حسّان : @ وإذا مَعْشَرٌ تَجَافَوْا عن الحَـ ـقِّ حمَلْنَا عليهمُ رُبِّيَا @@ وقال الزجاج : ها هنا قراءتان « رُبِّيُّون » بضم الراء « ورِبِّيُّون » بكسر الراء أما الرُّبيون بالضم : الجماعات الكثيرة . ويقال : عشرة آلاف . قلت : وقد روي عن ابن عباس « رَبِّيُّون » بفتح الراء منسوب إلى الرب . قال الخليل : الرِّبِّي الواحد من العبّاد الذين صبروا مع الأنبياء . وهم الربانيون نسبوا إلى التَألُّه والعبادة ومعرِفة الربُوبِية لِلّه تعالى ، والله أعلم . قوله تعالى : { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } « وَهَنُوا » أي ضعُفوا ، وقد تقدّم والوهن : انكسار الجدّ بالخوف . وقرأ الحسن وأبو السَّمّال « وَهِنُوا » بكسر الهاء وضمها ، لغتان عن أبي زيد . وهَن الشيء يَهِن وَهْناً . وأوْهَنْته أنا ووَهَّنته ضعّفته . والوَاهِنة : أسفل الأضلاع وقِصَارُها . والوَهَن من الإبل : الكثيف . والوَهْن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك المَوْهِن . وأوْهَنا صِرْنا في تلك الساعة أي ما وَهَنوا لقتل نبيهم ، أو لقتل مَن قُتِل منهم ، أي ما وهن باقيهم فحذف المضاف . { وَمَا ضَعُفُواْ } أي عن عدوّهم . { وَمَا ٱسْتَكَانُواْ } أي لِما أصابهم في الجهاد . والاستكانة : الذّلّة والخضوع وأصلها « ٱسْتَكَنُوا » على افتعلوا فأُشبِعت فتحةُ الكاف فتولّدت منها ألفٌ . ومن جعلها من الكَوْن فهي استفعلوا والأوّل أشبه بمعنى الآية . وقُرىء « فَمَا وَهْنُوا وَمَا ضَعْفُوا » بإسكان الهاء والعين . وحكى الكِسائي « ضَعَفُوا » بفتح العين . ثم أخبر تعالى عنهم بعد أن قُتل منهم أو قتل نبيّهم بأنهم صبروا ولم يفِرّوا ووطّنوا أنفسهم على الموت ، واستغفَروا ليكون موتهم على التوبة من الذنوب إن رُزِقُوا الشهادة ، ودعوا في الثبات حتى لا ينهزموا ، وبالنصر على أعدائهم . وخَصّوا الأقدَام بالثبات دون غيرها من الجوارح لأن الاعتماد عليها . يقول : فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمدٍ ؟ فأجاب دعاءهم وأعطاهم النصر والظفر والغنيمة في الدنيا والمغفرة في الآخرة إذا صاروا إليها . وهكذا يفعل الله مع عباده المخلصين التائبين الصادقين الناصرين لدينه ، الثابتين عند لقاء عدوّه بوعده الحق ، وقوله الصدق . { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّابِرِينَ } يعني الصابرين على الجهاد . وقرأ بعضهم { وَمَا كَانَ قَوْلُهُمْ } بالرفع جعل القول ٱسماً لكان فيكون معناه وما كان قولُهم إلاّ قولَهم : { ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } ومن قرأ بالنصب جعل القول خبر كان . واسمها { إِلاّ أَنْ قَالُوا } . { رَبَّنَا ٱغْفرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } يعني الصغائر { وَإِسْرَافَنَا } يعني الكبائر . والإسراف : الإفراط في الشيء ومجاوزة الحدّ . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعريّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهدا الدعاء . " اللّهم ٱغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني " وذكر الحديث . فعلى الإنسان أن يستعمل ما في كتاب الله وصحيح السنة من الدعاء ويَدَع ما سواه ، ولا يقول أختار كذا فإن الله تعالى قد اختار لنبيّه وأوليائه وعَلَّمهم كيف يدعون .