Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 13-13)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه ثماني مسائل : الأولى : قوله تعالى : { مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } المحراب في اللغة : كل موضع مرتفع . وقيل للذي يصلَّى فيه : محراب لأنه يجب أن يرفع ويعظّم . وقال الضحاك : « مِنْ مَحَارِيبَ » أي من مساجد . وكذا قال قتادة . وقال مجاهد : المحاريب دون القصور . وقال أبو عبيدة : المحراب أشرف بيوت الدار . قال : @ وماذا عليه أن ذكرتُ أوانساً كغِزلان رَمْل في محاريبِ أقيالِ @@ وقال عَدِيّ بن زيد : @ كدُمَى العاج في المحاريب أو كالـ ـبَيْض في الروْض زهره مستنيرُ @@ وقيل : هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة كما قال : { إِذْ تَسَوَّرُواْ ٱلْمِحْرَابَ } [ صۤ : 21 ] وقوله : { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } [ مريم : 11 ] أي أشرف عليهم . وفي الخبر « أنه أمر أن يعمل حول كرسيّه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يَصْرخون إلى الله دائباً ، وهو على الكرسي في موكِبه والمحاريب حوله ، ويقول لجنوده إذا ركب : سبّحوا الله إلى ذلك العَلَم ، فإذا بلغوه قال : هلّلوه إلى ذلك العَلَم ، فإذا بلغوه قال : كبّروه إلى ذلك العَلَم الآخر ، فتَلِجّ الجنود بالتسبيح والتهليل لَجَّةً واحدة . الثانية : قوله تعالى : { وَتَمَاثِيلَ } جمع تمثال . وهو كل ما صُوّر على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان . وقيل : كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان . وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء ، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهاداً ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنَوْا على قبره مسجداً وصوّروا فيه تلك الصُّورَ " أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة . وهذا يدلّ على أن التصوير كان مباحاً في ذلك الزمان ، ونسخ ذلك بشرع محمد صلى الله عليه وسلم . وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « نوح » عليه السلام . وقيل : التماثيل طِلَّسْمات كان يعملها ، ويحرم على كل مصوّر أن يتجاوزها فلا يتجاوزها ، فيعمل تمثالاً للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان ، ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبداً ما دام ذلك التمثال قائماً . وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء . قال : @ ويا رُبَّ يومٍ قد لهَوْتُ وليلةٍ بآنسة كأنها خطّ تمثالِ @@ وقيل : إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يَحِيك فيهم السلاح . ويقال : إن اسفنديار كان منهم والله أعلم . وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أطلق النَّسران أجنحتهما . الثالثة : حكى مكيّ في الهداية له : أن فرقة تجوّز التصوير ، وتحتج بهذه الآية . قال ابن عطية : وذلك خطأ ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوّزه . قلت : ما حكاه مكيّ ذكره النحاس قبله ، قال النحاس : قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية ، ولِمَا أخبر الله عز وجل عن المسيح . وقال قوم : قد صح النهي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها ، والتوعّد لمن عملها أو اتخذها ، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحاً قبله ، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بُعث عليه السلام والصور تُعبد ، فكان الأصلح إزالتها . الرابعة : التمثال على قسمين : حيوان وموات . والموات على قسمين : جماد ونامٍ وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه لعموم قوله : « وَتَمَاثيلَ » . وفي الإسرائيليات : أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان . فإن قيل : لا عموم لقوله : { وَتَمَاثِيلَ } فإنه إثبات في نكرة ، والإثبات في النكرة لا عموم له ، إنما العموم في النفي في النكرة . قلنا : كذلك هو ، بَيْدَ أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم ، وهو قوله : « مَا يَشَاءُ » فاقتران المشيئة به يقتضي العموم له . فإن قيل : كيف استجاز الصور المنهي عنها ؟ قلنا : كان ذلك جائزاً في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا ، والله أعلم . وعن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرَّماً . الخامسة : مقتضى الأحاديث يدلّ على أن الصور ممنوعة ، ثم جاء : " إلا ما كان رَقْماً في ثوب " فخص من جملة الصور ، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب : " أخّريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا " ثم بِهتكه الثوب المصوّر على عائشة منع منه ، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها ، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز ، لقولها في النُّمرُقة المصوّرة : اشتريتها لك لتقعد عليها وتَوَسَّدها ، فمنع منه وتوعّد عليه . وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه . فهكذا استقر الأمر فيه والله أعلم قاله ابن العربي . السادسة : روى مسلم " عن عائشة قالت : كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حوّلي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا » . قالت : وكانت لنا قطيفة كنا نقول علَمها حرير ، فكنا نلبسها . وعنها قالت : فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مستترة بِقِرام فيه صورة ، فتلوّن وجهه ، ثم تناول الستر فهتكه ، ثم قال : « إن من أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُشَبِّهُونَ بخلق الله عز وجل » " وعنها : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سَهْوة ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي إليه فقال : « أخِّريه عني » قالت : فأخرته فجعلته وسادتين . قال بعض العلماء : ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره وَرَعاً لأن محل النبوّة والرسالة الكمالُ . فتأمله . السابعة : قال المزنيّ عن الشافعيّ : إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صوراً ذات أرواح ، لم يدخل إن كانت منصوبة . وإن كانت توطأ فلا بأس ، وإن كانت صور الشجر . ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة . وكذلك عندهم ما كان خرطاً أو نقشاً في البناء . واستثنى بعضهم " ما كان رقماً في ثوب " ، لحديث سهل بن حُنيف . قلت : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المصورين ولم يستثن . وقوله : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيُوا ما خلقتم " ولم يستثن . وفي الترمذيّ عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرج عُنُق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول : إني وُكِّلت بثلاث : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلٰهاً آخر وبالمصوّرين " قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . وفي البخاريّ ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصوّرون " يدل على المنع من تصوير شيء ، أي شيء كان . وقد قال جل وعز : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] على ما تقدّم بيانه فاعلمه . الثامنة : وقد استثنى من هذا الباب لُعَب البنات ، لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تزوّجها وهي بنت سبع سنين ، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع ولُعَبُها معها ، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة . وعنها أيضاً قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمِعن منه فيُسَرِّ بُهُنَّ إليّ فيلعبن معي . خرجهما مسلم . قال العلماء : وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدرّبن على تربية أولادهنّ . ثم إنه لا بقاء لذلك ، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له ، فرخّص في ذلك ، والله أعلم . قوله تعالى : { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ } قال ابن عرفة : الجوابي جمع الجابية ، وهي حُفيرة كالحوض . وقال : كحياض الإبل . وقال ابن القاسم عن مالك : كالجَوْبَة من الأرض ، والمعنى متقارب . وكان يقعد على الجَفْنَة الواحدة ألف رجل . النحاس : « وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ » الأوْلى أن تكون بالياء ، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيّرها عن حالها ، فلما كان يقال جوابٍ ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله فحذف الياء . وواحد الجوابي جابية ، وهي القِدر العظيمة ، والحوض العظيم الكبير الذي يُجْبَى فيه الشيء أي يجمع ومنه جببت الخراج ، وجَببت الجراد أي جعلت الكساء فجمعته فيه . إلا أن لَيْثاً روى عن مجاهد قال : الجوابي جمع جَوبة ، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر . وقال الكسائي : جَبَوْت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته ، والجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل ، قال : @ تروح على آلِ المُحَلَّقِ جَفْنَة كجابية الشيخ العراقي تَفْهَقُ @@ ويروى أيضاً : @ نفى الذمَّ عن آل المُحَلق جفنةٌ كجابية السيح … @@ ذكره النحاس . قوله تعالى : { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } قال سعيد بن جُبير : هي قدور النحاس تكون بفارس . وقال الضحاك : هي قدور تعمل من الجبال . غيره : قد نحتت من الجبال الصُّم مما عملت له الشياطين ، أثافِيها منها منحوتة هكذا من الجبال . ومعنى « رَاسِيَاتٍ » ثوابت ، لا تُحمل ولا تحرّك لعظمها . قال ابن العربي : وكذلك كانت قدور عبد الله بن جُدعان ، يصعد إليها في الجاهلية بسُلَّم . وعنها عبّر طرفة بن العبد بقوله : @ كالجوابي لا تَنِي مُتْرَعَةً لِقرَى الأضياف أو للمحتضِر @@ قال ابن العربي : ورأيت برِباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك ، فإنهم يطبخون جميعاً ويأكلون جميعاً من غير استئثار واحد منهم على أحد . قوله تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } قد مضى معنى الشكر في « البقرة » وغيرها . وروي : أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال : " « ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود » قال فقلنا : ما هن ؟ فقال : « العدل في الرضا والغضب . والقصد في الفقر والغنى . وخشية الله في السر والعلانية » " خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة . وروي أن داود عليه السلام قال : « يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك . وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمةٌ لك » فقال : « يا داود الآن عرفتني » . وقد مضى هذا المعنى في سورة « إبراهيم » . وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته ، والكفران استعمالها في المعصية . وقليل من يفعل ذلك لأن الخير أقل من الشر ، والطاعة أقل من المعصية ، بحسب سابق التقدير . وقال مجاهد : لما قال الله تعالى : { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُدَ شُكْراً } قال داود لسليمان : إن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل ، قال : لا أقدر ، قال : فاكفني قال الفاريابي ، أراه قال إلى صلاة الظهر قال نعم ، فكفاه ، وقال الزهري : « اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً » أي قولوا الحمد لله . و « شُكْراً » نصب على جهة المفعول أي اعملوا عملاً هو الشكر . وكأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدّت مسدّه ، ويبيّن هذا قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ صۤ : 24 ] وهو المراد بقوله : « وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور » . وقد قال سفيان بن عُيَيْنَة في تأويل قوله تعالى : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي } أنّ المراد بالشكر الصلوات الخمس . وفي صحيح مسلم " عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تَفَّطر قدماه فقالت له عائشة رضي الله عنها : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : « أفلا أكون عبداً شكوراً » " انفرد بإخراجه مسلم . فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان فالشكر بالأفعال عمل الأركان ، والشكر بالأقوال عمل اللسان . والله أعلم . قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود ، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض . وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلاً يقول : اللهم اجعلني من القليل فقال عمر : ما هذا الدعاء ؟ فقال الرجل : أردت قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } . فقال عمر رضي الله عنه : كل الناس أعلم منك يا عمر ! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدَّرْمَك . وقد قيل : إنه كان يأكل الرماد ويتوسَّده ، والأول أصح ، إذ الرماد ليس بقوت . وروي أنه ما شبع قَطُّ ، فقيل له في ذلك فقال : أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع . وهذا من الشكر ومن القليل ، فتأمّله ، والله أعلم .