Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 32-35)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه أربع مسائل : الأولى : هذه الآية مشكلة لأنه قال جل وعز : { ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } ثم قال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال النحاس : فمن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس « فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ » قال : الكافر رواه ابن عُيَيْنة عن عمرو ابن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضاً . وعن ابن عباس أيضاً « فَمِنْهُمْ ظَالِم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ » قال : نجت فرقتان ، ويكون التقدير في العربية : فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه أي كافر . وقال الحسن : أي فاسق . ويكون الضمير الذي في « يَدْخُلُونَهَا » يعود على المقتصِد والسابق لا على الظالم . وعن عكرمة وقتادة والضحاك والفرّاء أن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التّقي على الإطلاق . قالوا : وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } الآية . قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم . ورواه مجاهد عن ابن عباس . قال مجاهد : « فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ » أصحاب المشأمة ، « وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ » أصحاب الميمنة ، « وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ » السابقون من الناس كلهم . وقيل : الضمير في « يَدْخُلُونَهَا » يعود على الثلاثة الأصناف ، على ألا يكون الظالم هاهنا كافراً ولا فاسقاً . وممن روي عنه هذا القول عمر وعثمان وأبو الدرداء ، وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة ، والتقدير على هذا القول : أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر والمقتصد قال محمد بن يزيد : هو الذي يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها فيكون « جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا » عائداً على الجميع على هذا الشرح والتبيين وروي عن أبي سعيد الخدري . وقال كعب الأحبار : استوت مناكبهم وربّ الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم . وقال أبو إسحاق السَّبِيعي : أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ . وروى أسامة بن زيد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : " كلهم في الجنة " وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سابِقُنا سابق ومُقْتَصِدُنا ناجٍ وظالمنا مغفور له " فعلى هذا القول يقدّر مفعول الاصطفاء من قوله : { أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } مضافا حُذف كما حذف المضاف في { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] أي اصطفينا دينهم ، فبقي اصطفيناهم فحذف العائد إلى الموصول كما حذف في قوله : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِيۤ أَعْيُنُكُمْ } [ هود : 31 ] أي تزدريهم ، فالاصطفاء إذاً موجه إلى دينهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ } [ البقرة : 132 ] . قال النحاس : وقول ثالث : يكون الظالم صاحبَ الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته فيكون : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } للذين سبقوا بالخيرات لا غير . وهذا قول جماعة من أهل النظر لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى . قلت : القول الوسط أوْلاها وأصحها إن شاء الله لأن الكافر والمنافق لم يصطفَوا بحمد الله ، ولا اصطفى دينهم . وهذا قول ستة من الصحابة ، وحسْبُك . وسنزيده بياناً وإيضاحاً في باقي الآية . الثانية : قوله تعالى : { أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ } أي أعطينا . والميراث عطاء حقيقةً أو مجازاً فإنه يقال فيما صار للإنسان بعد موت آخر . و « الكتابَ » هاهنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده ، وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن ، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورّث أمة محمد عليه السلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا . { ٱصْطَفَيْنَا } أي اخترنا . واشتقاقه من الصفو ، وهو الخلوص من شوائب الكدر . وأصله اصتفَوْنا ، فأبدلت التاء طاء والواو ياء . { مِنْ عِبَادِنَا } قيل المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس وغيره . وكان اللفظ يحتمل جميع المؤمنين من كل أمة ، إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأُوَل لم يرثوه . وقيل : المصطفَوْن الأنبياء ، توارثوا الكتاب بمعنى أنه انتقل عن بعضهم إلى آخر ، قال الله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } [ النمل : 16 ] ، وقال : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] فإذا جاز أن تكون النبوّة موروثة فكذلك الكتاب . { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } من وقع في صغيرة . قال ابن عطية : وهذا قول مردود من غير ما وجه . قال الضحاك : معنى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي من ذرِّيَّتهم ظالم لنفسه وهو المشرك . الحسن : من أممهم ، على ما تقدّم ذكره من الخلاف في الظالم . والآية في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم . وقد اختلفت عبارات أرباب القلوب في الظالم والمقتصد والسابق ، فقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم الذاكر الله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحبه من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد الذي يعبد الله طمعاً في الجنة ، والسابق الذي يعبد الله لوجهه لا لسبب . وقيل : الظالم الزاهد في الدنيا ، لأنه ظلم نفسه فترك لها حظاً وهي المعرفة والمحبة ، والمقتصد العارف ، والسابق المحب . وقيل : الظالم الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد الصابر على البلاء ، والسابق المتلذذ بالبلاء . وقيل : الظالم الذي يعبد الله على الغفلة والعادة ، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق الذي يعبده على الهيبة . وقيل : الظالم الذي أُعْطِيَ فمنَع ، والمقتصد الذي أُعْطِيَ فبذَل ، والسابق الذي مُنع فشكر وآثر . يروى أن عابِدَيْن التقيا فقال : كيف حال إخوانكم بالبصرة ؟ قال : بخير ، إن أُعطوا شكروا وإن مُنعوا صبروا . فقال : هذه حالة الكلاب عندنا ببلخ ! عُبَّادنا إن مُنعوا شكروا وإن أُعطوا آثروا . وقيل : الظالم من استغنى بماله ، والمقتصد من استغنى بدينه ، والسابق من استغنى بربه . وقيل : الظالم التالي للقرآن ولا يعمل به ، والمقتصد التالي للقرآن ويعمل به ، والسابق القارىء للقرآن العامل به والعالِم به . وقيل : السابق الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد الذي يدخل المسجد وقد أذّن ، والظالم الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة لأنه ظلم نفسه الأجر فلم يحصِّل لها ما حصَّله غيره . وقال بعض أهل العلم في هذا : بل السابق الذي يدرك الوقت والجماعة فيدرك الفضيلتين ، والمقتصد الذي إن فاتته الجماعة لم يفرط في الوقت ، والظالم الغافل عن الصلاة حتى يفوت الوقت والجماعة ، فهو أولى بالظلم . وقيل : الظالم الذي يحب نفسه ، والمقتصد الذي يحب دينه ، والسابق الذي يحب ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا يُنصف ، والمقتصد الذي ينتصف ويُنصف ، والسابق الذي يُنصف ولا ينتصف . وقالت عائشة رضي الله عنها : السابق الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد من أسلم بعد الهجرة ، والظالم من لم يسلم إلا بالسيف وهم كلهم مغفور لهم . قلت : ذكر هذا الأقوال وزيادةً عليها الثعلبيّ في تفسيره . وبالجملة فهم طرفان وواسطة ، وهو المقتصد الملازم للقصد وهو ترك الميل ومنه قول جابر بن حُنَيّ التَّغْلبيّ : @ نعاطي الملوك السّلم ما قصدوا لنا وليس علينا قتلُهم بمحرّم @@ أي نعاطيهم الصلح ما ركبوا بنا القصد ، أي ما لم يجوروا ، وليس قتلهم بمحرّم علينا إن جاروا فلذلك كان المقتصد منزلة بين المنزلتين ، فهو فوق الظالم لنفسه ودون السابق بالخيرات . { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } يعني إتياننا الكتاب لهم . وقيل : ذلك الاصطفاء مع علمنا بعيوبهم هو الفضل الكبير . وقيل : وعدُ الجنة لهؤلاء الثلاثة فضل كبير . الثالثة : وتكلم الناس في تقديم الظالم على المقتصد والسابق فقيل : التقديم في الذكر لا يقتضي تشريفاً كقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الحشر : 20 ] . وقيل : قدم الظالم لكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم ، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم ، والسابقين أقل من القليل ذكره الزمخشري ولم يذكره غيره . وقيل : قدّم الظالم لتأكيد الرجاء في حقه ، إذ ليس له شيء يتكل عليه إلا رحمة ربه . واتكل المقتصد على حسن ظنه ، والسابق على طاعته . وقيل : قدّم الظالم لئلا ييئس من رحمة الله ، وأخّر السابق لئلا يعجب بعمله . وقال جعفر بن محمد بن علي الصادق رضي الله عنه : قدّم الظالم ليخبر أنه لا يتقرّب إليه إلا بصرف رحمته وكرمه ، وأن الظلم لا يؤثر في الاصطفائية إذا كانت ثَمَّ عناية ، ثم ثنّى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله ، وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص : « لا إلٰه إلا الله محمد رسول الله » . وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالةً للعلل عن العطاء لأن الاصطفاء يوجب الإرث ، لا الإِرث يوجب الاصطفاء ، ولذلك قيل في الحكمة : صحح النسبة ثم ادّع في الميراث . وقيل : أخّر السابق ليكون أقرب إلى الجنات والثواب ، كما قدّم الصوامع والبيع في « سورة الحج » على المساجد ، لتكون الصوامع أقربَ إلى الهدم والخراب ، وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله . وقيل : إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدّموا الأدنى كقوله تعالى : { لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] ، وقوله : { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ } [ الشورى : 49 ] ، وقوله : { لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الحشر : 20 ] . قلت : ولقد أحسن من قال : @ وغاية هذا الجود أنت وإنما يوافي إلى الغايات في آخر الأمر @@ الرابعة : قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } جمعهم في الدخول لأنه ميراث ، والعاق والبارّ في الميراث سواء إذا كانوا معترفين بالنسب فالعاصي والمطيع مقرّون بالرب . وقرىء : « جَنَّةُ عَدْنٍ » على الإِفراد ، كأنها جنة مختصة بالسابقين لقلتهم على ما تقدّم . و « جَنَّاتِ عَدْنٍ » بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر أي يدخلون جنات عدن يدخلونها . وهذا للجميع ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى . وقرأ أبو عمرو « يُدخَلونها » بضم الياء وفتح الخاء . قال : لقوله : « يُحَلَّوْن » . وقد مضى في « الحج » الكلام في قوله تعالى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] . { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } قال أبو ثابت : دخل رجل المسجد فقال اللهم ارحم غُربتي وآنس وحدتي ويسر لي جليساً صالحاً . فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقاً فلأنا أسعد بذلك منك ، سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : " { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } قال فيجيء هذا السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ويوبخ ويقرّع ثم يدخل الجنة فهم الذين قالوا : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } " وفي لفظ آخر : " وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله برحمته فهم الذين يقولون ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ إلى قوله { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } " وقيل : هو الذي يؤخذ منه في مقامه يعني يكفَّر عنه بما يصيبه من الهمّ والحزن ، ومنه قوله تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] يعني في الدنيا . قال الثعلبيّ : وهذا التأويل أشبه بالظاهر لأنه قال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } ، ولقوله : { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } والكافر والمنافق لم يصطفَوْا . قلت : وهذا هو الصحيح ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ومَثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ، ريحها طيب وطعمها مر " فأخبر أن المنافق يقرؤه ، وأخبر الحق سبحانه وتعالى أن المنافق في الدرك الأسفل من النار ، وكثير من الكفار واليهود والنصارى يقرؤونه في زماننا هذا . وقال مالك : قد يقرأ القرآن من لا خير فيه . والنَّصَب : التعب . واللُّغوب : الإعياء .