Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 135-135)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه عشر مسائل : الأُولى قوله تعالى : { كُونُواْ قَوَّامِينَ } { قَوَّامِينَ } بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها . ثم ذكر الوالدين لوجوب بِرِّهما وعِظم قدرِهما ، ثم ثنّى بالأقربين إذ هم مظنة المودّة والتعصب فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال . الثانية لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأُم ماضية ، ولا يمنع ذلك من برّهما ، بل من برّهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل ، وهو معنى قوله تعالى : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] فإن شهد لهما أو شهدا له وهي : الثالثة فقد اختلف فيها قديماً وحديثاً فقال ابن شهاب الزهري : كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، ويتأوّلون في ذلك قول الله تعالىٰ : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } فلم يكن أحد يُتَّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم . ثم ظهرت من الناس أُمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتّهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة وهو مذهب الحسن والنخعِيّ والشعبِيّ وشريح ومالك والثورِيّ والشافعيّ وابن حنبل . وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولاً . وروي عن عمر ابن ٱلخطاب أنه أجازه وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال إسحاق والثوريّ والمزنِيّ . ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلاً إلاَّ في النسب . وروي عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه . وقال مالك وأبو حنيفة : شهادة الزوج لزوجته لا تقبل لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة . وقال الشافعيّ : تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان ، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو مُعَرّض للزوال . والأصل قبول الشهادة إلاَّ حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل وهذا ضعيف فإن الزوجية توجب الحَنَان والمواصلة والألفة والمحبة ، فالتهمة قوية ظاهرة . وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمر على أخيه ، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم . قال الخطابيّ : ذو الغِمْر هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة ، فتردّ شهادته عليه للتهمة . وقال أبو حنيفة : شهادته على العدوّ مقبولة إذا كان عدلاً . والقانع السائل والمستطعم وأصل القنوع السؤال . ويُقال في القانع : إنه المنقطع إلى القوم يخدِمُهم ويكون في حوائجهم وذلك مثل الأجِير أو الوكيل ونحوه . ومعنى ردّ هذه الشهادةِ التّهْمَةُ في جر المنفعة إلى نفسه لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع . وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعاً فشهادته مردودة كمن شهد لرجل على شراء دارٍ هو شفيعها ، أو كمن حكم له على رجل بدَيْن وهو مفلس ، فشهد المفلس على رجل بدَيْن ونحوِه . قال الخطّابي : ومن ردّ شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يردّ شهادة الزوج لزوجته لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر وإلى هذا ذهب أبو حنيفة . والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجرّ به النفع لما جُبِل عليه من حبه والميل إليه ولأنه يتملك عليه ماله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " أنت ومالك لأبيك " . وممن تردّ شهادته عند مالك البدوِيّ على القَرَوِيّ قال : إلاَّ أن يكون في بادية أو قرية ، فأما الذي يُشهد في الحضر بدَوِيّاً ويدع جِيرتَه من أهل الحضر عندي مُريب . وقد روى أبو داود والدارقطنيّ عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تجوز شهادة بدوِيّ على صاحب قرية " قال محمد بن عبد الحكم : تأوّل مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال ، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق . وقال عامة أهل العلم : شهادة البَدَوِي إذا كان عدلاً يقيم الشهادة على وجهها جائزة والله أعلم . وقد مضى القول في هذا في « البقرة » ، ويأتي في « براءة » تمامها إن شاء الله تعالىٰ . الرابعة قوله تعالىٰ : { شُهَدَآءِ للَّهِ } نصب على النعت لـ { قَوَّامِينَ } ، وإن شئت كان خبراً بعد خبر . قال النحاس : وأجود من هذين أن يكون نصباً على الحال بما في { قَوَّامِينَ } من ذكر الذين آمنوا لأنه نفس المعنىٰ ، أي كونوا قوّامين بالعدل عند شهادتكم . قال ابن عطية : والحال فيه ضعيفة في المعنى لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط . ولم ينصرف { شُهَدَآءَ } لأن فيه ألف التأنيث . الخامسة قوله تعالىٰ : { للَّهِ } معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه . { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } متعلق بـ { شُهَدَآءَ } هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيُقرّبها لأهلها ، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه كما تقدّم . أدّب الله جلّ وعزّ المؤمنين بهذا كما قال ابن عباس : أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم . ويحتمل أن يكون قوله : { شُهَدَآءَ للَّهِ } معناه بالوحدانية لله ، ويتعلق قوله : { وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } ب { قَوَّامِينَ } والتأويل الأوّل أبّيَن . السادسة قوله تعالىٰ : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } في الكلام إضمار وهو اسم كان أي إن يكن الطالب أو المشهود عليه غنِياً فلا يُراعى لغناه ولا يُخاف منه ، وإن يكن فقيراً فلا يُراعى إشفاقاً عليه . { فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } أي فيما اختار لهما من فقر وغِنى . قال السدّيّ : اختصم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم غنيّ وفقير ، فكان ضَلْعه صلّىٰ الله عليه وسلّم مع الفقير ، ورأى أن الفقير لا يظلم الغنيّ فنزلت الآية . السابعة قوله تعالىٰ : { فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } إنما قال { بِهِمَا } ولم يقل « به » وإن كانت { أَوْ } إنما تدل على الحصول الواحد لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما . وقال الأخفش : تكون { أَوْ } بمعنى الواو أي إن يكن غنياً وفقيراً فالله أولى بالخصمين كيفما كانا وفيه ضعف . وقيل : إنما قال { بِهِمَا } لأنه قد تقدّم ذكرهما كما قال تعالىٰ : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ } [ النساء 12 . ] الثامنة قوله تعالىٰ : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ } نهي ، فإن اتباع الهوى مُرْدٍ ، أي مهلك قال الله تعالىٰ : { فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ صۤ : 26 ] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق ، وعلى الجور في الحكم ، إلى غير ذلك . وقال الشعبيّ : أخذ الله عزّ وجل على الحكام ثلاثة أشياء : ألاّ يتّبعوا الهوى ، وألاّ يخشَوا الناسَ ويخشوه ، وألاّ يشتروا بآياته ثمناً قليلاً . { أَن تَعْدِلُواْ } في موضع نصب . التاسعة قوله تعالىٰ : { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } قرىء { وَإِن تَلْوُواْ } من لويت فلاناً حقه ليّاً إذا دفعتَه به ، والفعل منه لَوَى والأصل فيه لَوَىٰ قلبت الياء ألفاً لحركتها وحركة ما قبلها ، والمصدر لَيّاً والأصل لَوْياً ، ولِيّاناً والأصل لِوْيَاناً ، ثم أدغمت الواو في الياء . وقال القتبيّ : { تَلْوُواْ } من الليّ في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين . وقرأ ابن عامر والكوفيون « تَلُوا » أراد قمتم بالأمر وأعرضتم ، من قولك : وليت الأمر ، فيكون في الكلام معنى التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر . وقيل : إن معنى { تَلُواً } الإعراض . فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين : الولاية والإعراض ، والقراءة بواوين تفيد معنى واحداً وهو الإعراض . وزعم بعض النحويين أن من قرأ { * تلوا } فقد لحن لأنه لا معنى للولاية هٰهنا . قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ولكن تكون « تلُوا » بمعنى « تَلُووا » وذلك أن أصله « تلووا » فاستُثقلت الضمة على الواو بعدها واوٌ أُخرىٰ ، فأُلقيتْ الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين ذكره مكيّ . وقال الزجاج : المعنى على قراءته « وإن تلووا » ثم همز الواو الأُولى فصارت « تلؤوا » ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت « تلوا » وأصلها « تلووا » . فتتفق القراءتان على هذا التقدير . وذكره النحاس ومكيّ وابن العربيّ وغيرهم . قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر فالّليّ على هذا مَطْل الكلام وجَرّه حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه . قال ابن عطية وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكلّ . وقال ابن عباس أيضاً والسدّيّ وابن زيد والضحّاك ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرّفها فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها . ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة ، وكل إنسان مأمور بأن يعدل . وفي الحديث : " لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرضَه وعقوبته " قال ٱبن الأعرابيّ : عقوبته حبسه ، وعرضه شكايته . العاشرة وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية فقال : جعل الله تعالىٰ الحاكم شاهداً في هذه الآية ، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه ، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلاً فلذلك ردّت الشهادة .