Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } قال ٱبن عباس ومجاهد : معنى { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } والثُّرَيَّا إذَا سقطت مع الفجر والعرب تسمي الثُّريَّا نجماً وإن كانت في العدد نجوماً يقال : إنها سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة وواحد خفيّ يَمتحِن الناس به أبصارهم . وفي « الشِّفا » للقاضي عياض : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثُّريا أحد عشر نجماً . وعن مجاهد أيضاً أن المعنى والقرآن إذا نزل لأنه كان ينزل نجوماً . وقاله الفرّاء . وعنه أيضاً : يعني نجوم السماء كلها حين تغرب . وهو قول الحسن قال : أقسم الله بالنجوم إذا غابت . وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمْع كقول الراعي : @ فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتَحِيرةٍ سَرِيع بِأيدي الآكلِين جمُودُها @@ وقال عمر بن أبي ربيعة : @ أَحْسَنُ النَّجْمِ في السماءِ الثُّرَيَّا وَالثُّرَيَّا في الأرضِ زَيْنُ النِّساءِ @@ وقال الحسن أيضاً : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة . وقال السدّي : إن النجم ههنا الزُّهرَة لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها . وقيل : المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً كثر ٱنقضاض الكواكب قبل مولده ، فذُعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريراً ، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال : ٱنظروا البروج الاثني عشر فإن ٱنقضّ منها شيء فهو ذهاب الدنيا ، فإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك فلما بُعِث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي ٱستشعروه ، فأنزل الله تعالى : { وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوّة التي حدثت . وقيل : النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق ، وهَوَى أي سقط على الأرض . وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم : « وَالنَّجْمِ » يعني محمداً صلى الله عليه وسلم « إِذَا هَوَى » إذا نزل من السماء ليلة المعراج . وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما : " أن عُتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتينّ محمداً فلأوذينّه ، فأتاه فقال : يا محمد أنا كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى . ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّ عليه ٱبنته وطَلّقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللّهم سَلِّط عليه كلباً من كلابك » وكان أبو طالب حاضراً فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة ، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلاً ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة . فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ! فإني أخاف على ٱبني من دعوة محمد فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتَشمَّم وجوههم حتى ضرب عُتْبة فقتله " وقال حسان : @ مَنْ يَرْجِعِ العام إِلى أَهْلِهِ فَمَا أَكِيلُ السَّبْع بالرَّاجِع @@ وأصل النَّجْم الطلوع يقال : نَجَم السنُّ ونَجَم فلانٌ ببلاد كذا أي خرج على السلطان . والهُوِيّ النزول والسقوط يقال : هَوَى يَهْوِي هُوِيّاً مثل مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا قال زهير : @ فَشَجَّ بِهَا الأماعِزَ وهْي تَهْوِي هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَها الرِّشَاءُ @@ وقال آخر : @ بَيْنَما نَحْنُ بالبَلاَكِثِ فالْقَا عِ سِرَاعاً والعِيسُ تَهْوِي هُوِيّاً خَطَرتْ خَطْرَةٌ على القَلْبِ مِن ذِكْـ ـرَاكِ وَهْناً فما ٱستطعْتُ مُضيًّا @@ الأصمعي : هَوَى بالفتح يَهْوِي هُوَيًّا أي سقط إلى أسفل . قال : وكذلك ٱنهوى في السير إذا مضى فيه ، وهَوَى وٱنْهَوى فيه لغتان بمعنًى ، وقد جمعهما الشاعر في قوله : @ وكَمْ مَنْزِلٍ لولايَ طِحْتَ كما هَوَى بأَجرامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيقِ مَنْهَوِي @@ ويقال في الحُبّ : هَوِيَ بالكسر يَهْوَى هَوًى أي أحبّ . قوله تعالى : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } هذا جواب القسم أي ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق وما حاد عنه . { وَمَا غَوَىٰ } الغيَّ ضد الرشد أي ما صار غاوياً . وقيل : أي ما تكلم بالباطل . وقيل : أي ما خاب مما طلب والغيّ الخيبة قال الشاعر : @ فمن يَلْقَ خيراً يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ على الغَيِّ لائِمَا @@ أي مَن خاب في طلبه لامه الناس . ثم يجوز أن يكون هذا إخباراً عما بعد الوحي . ويجوز أن يكون إخباراً عن أحواله على التعميم أي كان أبداً موحداً لله . وهو الصحيح على ما بيناه في « الشورى » عند قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } . قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } . فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } قال قتادة : وما ينطق بالقرآن عن هواه { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } إليه . وقيل : « عَنِ الْهَوَى » أي بالهوى قاله أبو عبيدة كقوله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] أي فٱسأل عنه . النحاس : قول قتادة أولى ، وتكون « عن » على بابِها ، أي ما يخرج نطقه عن رأيه ، إنما هو بوحي من الله عز وجل لأن بعده : { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } . الثانية : قد يحتج بهذه الآية من لا يجوّز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث . وفيها أيضاً دلالة على أن السُّنة كالوحي المنزل في العمل . وقد تقدّم في مقدّمة الكتاب حديث المِقدام بن معدي كرب في ذلك والحمد لله . قال السجستاني : إن شئت أبدلت { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } مِن { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } قال ٱبن الأنباري : وهذا غلط لأن « إِنْ » الخفيفة لا تكون مبدلة من « ما » الدليل على هذا أنك لا تقول : والله ما قمت إِن أنا لقاعد . قوله تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين سوى الحسن فإنه قال : هو الله عز وجل ، ويكون قوله تعالى : { ذُو مِرَّةٍ } على قول الحسن تمام الكلام ، ومعناه ذو قوّة والقوة من صفات الله تعالى وأصله من شدّة فتل الحبل ، كأنه ٱستمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل . ثم قال : { فَٱسْتَوَىٰ } يعني الله عز وجل أي ٱستوى على العرش . روي معناه عن الحسن . وقال الربيع بن أنس والفراء : { فَٱسْتَوَىٰ } { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } أي ٱستوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام . وهذا على العطف على المضمر المرفوع بـ « ـهو » . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه فيقولون : ٱستوى هو وفلان وقلما يقولون ٱستوى وفلان وأنشد الفرّاء : @ أَلَمْ تَرَ أَنّ النَّبْعَ يَصلُبُ عُودُهُ ولا يَسْتوِي والخِرْوَعُ المتقصِّفُ @@ أي لا يستوى هو والخِروع ونظير هذا : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ } [ النمل : 67 ] والمعنى أئذا كنا تراباً نحن وآباؤنا . ومعنى الآية : ٱستوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الإسراء بالأفق الأعلى . وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر . وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر . وقيل : المعنى فٱستوى جبريل بالأفق الأعلى ، وهو أجود . وإذا كان المستوي جبريل فمعنى « ذُوِ مرَّةٍ » في وصفه ذو منطق حسن قاله ٱبن عباس . وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن . وقيل : معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا تحلّ الصدقة لغنيّ ولا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ " وقال امرؤ القيس : @ كنتُ فيهم أبداً ذا حِيلة مُحْكَمَ المِرَّةِ مأمُونَ الْعُقَد @@ وقد قيل : « ذُو مِرَّةٍ » ذو قوة . قال الكلبي : وكان من شدّة جبريل عليه السلام : أنه ٱقتلع مدائن قوم لوطٍ من الأرض السفلى ، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء ، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها . وكان من شدّته أيضاً : أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدّسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند ، وكان من شدّته : صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم ، فأصبحوا جاثمين خامدين . وكان من شدته : هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف . وقال قُطْرُب : تقول العرب لكل جَزل الرأي حصيف العقل : ذُو مِرّةٍ . قال الشاعر : @ قد كنتُ قبلَ لِقاكُمُ ذا مِرَّةٍ عندي لِكلّ مُخاصِمٍ مِيزانُهُ @@ وكان من جزالة رأيه وحصَافة عقله : أن الله ٱئتمنه على وحيه إلى جميع رسله . قال الجوهري : والمِرَّة إحدى الطبائع الأربع ، والمِرّة القوّة وشدّة العقل أيضاً . ورجل مرير أي قويّ ذوِ مرةٍ . قال : @ تَرى الرَّجُل النَّحيفَ فتزدريه وحَشْوُ ثِيابِه أسدٌ مَرِيرٌ @@ وقال لَقِيط : @ حتى ٱستمرّتْ على شَزْرٍ مَرِيرتهُ مُرُّ العزِيمةِ لا رَتًّا ولا ضَرَعَا @@ وقال مجاهد وقتادة : « ذُو مِرَّةٍ » ذو قوّة ومنه قول خُفَاف بن نَدْبة : @ إِنيّ ٱمرؤٌ ذو مِرّةٍ فاستبقِنِي فِيما يَنُوبُ مِن الخُطُوبِ صَلِيبُ @@ فالقوة تكون من صفة الله عز وجل ، ومن صفة المخلوق . { فَٱسْتَوَىٰ } يعني جبريل على ما بينا أي ٱرتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علَّم محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيِّب وٱبن جبير . وقيل : { فَٱسْتَوَىٰ } أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها لأنه كان يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة الأدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء ، فسأله النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض ومرة في السماء فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بحراءٍ ، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب ، فخر النبيّ صلى الله عليه وسلم مغشيًّا عليه ، فنزل إليه في صورة الآدميين وضمّه إلى صدره ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه فلما أفاق النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحداً على مثل هذه الصورة " فقال : يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سَعَة كل جناح ما بين المشرق والمغرب . فقال : « إن هذا لعظيم » فقال : وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيراً ، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح ، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي ، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصَع . يعني العصفور الصغير دليله قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] وأما في السماء فعند سِدرة المنتهى ، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقول ثالث أن معنى « فَاسْتَوَى » أي ٱستوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان : أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه . الثاني في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه . وقول رابع أن معنى « فَاسْتَوَى » فاعتدل يعني محمداً صلى الله عليه وسلم . وفيه على هذا وجهان : أحدهما فاعتدل في قوّته . الثاني في رسالته . ذكرهما الماوردي . قلت : وعلى الأوّل يكون تمام الكلام « ذُو مرَّةٍ » ، وعلى الثاني « شَدِيدُ الْقُوَى » . وقول خامس أن معناه فارتفع . وفيه على هذا وجهان : أحدهما أنه جبريل عليه السلام ٱرتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفاً . الثاني أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ٱرتفع بالمعراج . وقول سادس « فَاسْتَوَى » يعني الله عز وجل ، أي ٱستوى على العرش على قول الحسن . وقد مضى القول فيه في « الأعراف » . قوله تعالى : { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } جملة في موضع الحال ، والمعنى فاستوى عالياً ، أي ٱستوى جبريل عالياً على صورته ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا . والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق . وقال قتادة : هو الموضع الذي تأتي منه الشمس . وكذا قال سفيان : هو الموضع الذي تطلع منه الشمس . ونحوه عن مجاهد . ويقال : أفْق وأُفُق مثل عُسْر وعُسُر . وقد مضى في « حم السجدة » . وفرس أُفُق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى قال الشاعر : @ أرجِّلُ لِمَّتِي وَأَجُرُّ ذَيْلِي وتَحمِلُ شِكَّتِي أُفُقٌ كُمَيْتُ @@ وقيل : « وَهُوَ » أي النبيّ صلى الله عليه وسلم { بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني ليلة الإسراء وهذا ضعيف لأنه يقال : ٱستوى هو وفلان ، ولا يقال ٱستوى وفلان إلا في ضرورة الشعر . والصحيح ٱستوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية لأنه كان يتمثل للنبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل ، فأحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية ، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق . قوله تعالى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أي دنا جبريل بعد ٱستوائه بالأفق الأعلى من الأرض { فَتَدَلَّىٰ } فنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي . المعنى أنه لما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى ، وهاله ذلك ردّه الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي ، وذلك قوله تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } يعني أوحي الله إلى جبريل وكان جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله ٱبن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم . وعن ٱبن عباس أيضاً في قوله تعالى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } أن معناه أن الله تبارك وتعالى « دَنَا » من محمد صلى الله عليه وسلم { فَتَدَلَّىٰ } . وروى نحوه أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . والمعنى دنا منه أمره وحكمه . وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب قال لبِيد : @ فتَدَلَّيْت عليه قافِلاً وعلى الأرض غيَابَات الطَّفَل @@ وذهب الفرّاء إلى أن الفاء في « فَتَدَلَّى » بمعنى الواو ، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا . ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أو كالواحد قدمت أيهما شئت ، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا ، وشتمني فأساء وأساء فشتمني لأن الشتم والإساءة شيء واحد . وكذلك قوله تعالى : { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] المعنى والله أعلم : ٱنشق القمر وٱقتربت الساعة . وقال الجرجاني : في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا لأن التدلّي سبب الدنوّ . وقال ٱبن الأنباري : ثم تدلّى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ٱبن عباس : تدلّى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه . وسيأتي . ومن قال : المعنى فٱستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول : ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة فتدلّى أي هَوَى للسجود . وهذا قول الضحاك . قال القشيري : وقيل على هذا تدلّى أي تَدلّلَ كقولك تَظَنَّى بمعنى تَظَنَّنَ ، وهذا بعيد لأن الدلال غير مرضيّ في صفة العبودية . قوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أي « كان » محمد من ربه أو من جبريل { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قدر قوسين عربيتين . قاله ٱبن عباس وعطاء والفرّاء . الزمخشري : فإن قلت كيف تقدير قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } قلت : تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله : @ وَقَدْ جَعَلَتْنِي مِن حَزِيمَةَ إِصْبِعَا @@ أي ذا مقدار مسافة إصبع « أَوْ أَدْنَى » أي على تقديركم كقوله تعالى : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 174 ] . وفي الصحاح : وتقول بينهما قابُ قَوْس ، وقِيبُ قَوْس وقادَ قَوْس ، وقِيدُ قَوْس أي قَدْر قَوْسٍ . وقرأ زيد بن علي « قَادَ » وقرىء « قِيدَ » و « قَدْرَ » . ذكره الزمخشري . وألقابُ ما بين المَقْبِض والسِّيَة . ولكل قوس قابان . وقال بعضهم في قوله تعالى : { قَابَ قَوْسَيْنِ } أراد قابي قوس فقلبه . وفي الحديث : " ولَقابُ قوسِ أحدِكم من الجنة وموضع قِدّه خيرٌ من الدنيا وما فيها " والقِدّ السوط . وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ولَقابُ قوسِ أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها " وإنما ضرب المثل بالقوس ، لأنها لا تختلف في القاب . والله أعلم . قال القاضي عِياض : ٱعلم أن ما وقع من إضافة الدنوّ والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنوّ مكانٍ ولا قرب مَدًى ، وإنما دنوّ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ربه وقرْبه منه : إبانةُ عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته . ومِن الله تعالى له : مبرةٌ وتأنيس وبسط وإكرام . ويتأوّل في قوله عليه السلام : " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان . قال القاضي : وقوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } فمن جعل الضمير عائداً إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبارةً عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفِّي ، وإنافة المنزلة والقرب من الله ويتأوّل فيه ما يتأوّل في قوله عليه السلام : " من تقرّب مني شبراً تقرّبت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً " قربٌ بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول . وقد قيل : « ثُمَّ دَنَا » جبريل من ربه { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } قاله مجاهد . ويدلّ عليه ما روي في الحديث : " إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام " وقيل : « أو » بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى . وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى . وقال سعيد بن المسيّب : القاب صدر القوس العربية حيث يشدّ عليه السير الذي يتنكّبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد . فأخبر أن جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين . وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهَمْداني وأبو وائل شقيق بن سلمة : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قدر ذراعين ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين . وقيل : هي لغة أزد شَنُوءة أيضاً . وقال الكسائي : قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } أراد قوساً واحداً كقول الشاعر : @ ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْن مَرْتَيْنِ قَطَعْتُهُ بالسَّمْتِ لا بالسَّمْتَيْنِ @@ أراد مهمهاً واحداً . والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس وفي المثل هو من خيرِ قُوَيْسٍ سَهْماً ، والجمع قِسِيّ وقُسِيّ وأقواس وقِياس وأنشد أبو عبيدة : @ ووَتَّـرَ الأسـاورُ القِياسَـا @@ والقَوْس أيضاً بقية التّمْر في الجُلَّة أي الوعاء ، والقَوْس برج في السماء . فأما القُوسُ بالضم فصومعة الراهب قال الشاعر وذكر ٱمرأة : @ لاسْتَفْتَنَتْنِي وذَا المْسحَينِ في القُوسِ @@ قوله تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } تفخيم للوحي الذي أوحى إليه . وتقدّم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوَحَاء الوَحَاء . والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى . وقيل : المعنى { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ } جبريل عليه السلام « مَا أَوْحَى » . وقيل : المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه . قاله الربيع والحسن وٱبن زيد وقتادة . قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد . ثم قيل : هذا الوحي هل هو مبهم ؟ لا نَطَّلِع عليه نحن وتُعُبِّدْنَا بالإيمان به على الجملة ، أو هو معلوم مفّسر ؟ قولان . وبالثاني قال سعيد بن جبير ، قال : أوحى الله إلى محمد : ألم أجدك يتيماً فآويتك ! ألم أجدك ضالاًّ فهديتك ! ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ! { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * ٱلَّذِيۤ أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشرح : 1 - 4 ] . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .