Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } « هَلْ » : بمعنى قد قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة . وقد حكي عن سيبويه « هَلْ » بمعنى قد . قال الفراء : هل تكون جَحْداً ، وتكون خبراً ، فهذا من الخبر لأنك تقول : هل أعطيتك ؟ تُقَرِّره بأنك أعطيته . والجحد أن تقول : هل يقدر أحد على مثل هذا ؟ وقيل : هي بمنزلة الاستفهام ، والمعنى : أتى . والإنسان هنا آدم عليه السلام قاله قتادة والثَّوريّ وعِكرمة والسّديّ . وروي عن ٱبن عباس . { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } قال ٱبن عباس في رواية أبي صالح : أربعون سنة مرّت به ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف . وعن ٱبن عباس أيضاً في رواية الضحاك أنه خلق من طين ، فأقام أربعين سنة ، ثم من حَمَإٍ مسنون أربعين سنة ، ثم من صَلْصال أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة . وزاد ٱبن مسعود فقال : أقام وهو من تراب أربعين سنة ، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة ، ثم نفخ فيه الروح . وقيل : الحين المذكور ها هنا : لا يُعْرف مقدارُه عن ٱبن عباس أيضاً ، حكاه الماورديّ . { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } قال الضحاك عن ٱبن عباس : لا في السماء ولا في الأرض . وقيل : أي كان جسداً مصوّراً تراباً وطيناً ، لا يُذكَر ولا يُعرَف ، ولا يُدرَى ما ٱسمه ولا ما يراد به ، ثم نُفِخ فيه الرُّوح ، فصار مذكوراً قاله الفراء وقطرب وثعلب . وقال يحيـى بن سلاّم : لم يكن شيئاً مذكوراً في الخَلْق وإن كان عند الله شيئاً مذكوراً . وقيل : ليس هذا الذِّكر بمعنى الإخبار ، فإن إخبار الربّ عن الكائنات قديم ، بل هذا الذِّكر بمعنى الخطر والشرف والقدر تقول : فلان مذكور أي له شرف وقدر . وقد قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قَدْر عند الخليقة . ثم لما عَرَّف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة ، وحمَّله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال ، ظهر فضله على الكل ، فصار مذكوراً . قال القُشيريّ : وعلى الجملة ما كان مذكوراً للخلق ، وإن كان مذكوراً لله . وحكى محمد ابن الجهم عن الفراء : « لَمْ يَكُنْ شَيْئاً » قال : كان شيئاً ولم يكن مذكوراً . وقال قوم : النفي يرجع إلى الشيء أي قد مضى مُدَد من الدهر وآدم لم يكن شيئاً يذكر في الخليقة لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة ، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين . والمعنى : قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئاً ولا مخلوقاً ولا مذكوراً لأحد من الخليقة . وهذا معنى قول قتادة ومقاتل : قال قتادة : إنما خلق الإنسان حديثاً ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان . وقال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره : هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئاً مذكوراً لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله ، ولم يخلق بعده حيواناً . وقد قيل : « الإنسان » في قوله تعالى : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ } عُنِيَ به الجنس من ذرّية آدم ، وأن الحين تسعة أشهر ، مدّة حمل الإنسان في بطن أمه { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } : إذ كان علقة ومضغة لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له . وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية : ليتها تَمَّت فلا نُبْتَلى . أي ليت التي أتت على آدم لم تكن شيئاً مَذْكُوراً تَمَّت على ذلك ، فلا يلد ولا يُبْتَلى أولادُه . وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يقرأ { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال ليتها تَمَّت . قوله تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } أي ٱبن آدم من غير خلاف { مِن نُّطْفَةٍ } أي من ماء يقطُر وهو المنيّ ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه : @ مالي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ هل أنتِ إِلاَّ نُطْفةٌ في شَنَّهْ @@ وجمعها : نَطف ونِطَاف . { أَمْشَاجٍ } : أخلاط . واحدها : مِشْج ومَشِيج ، مثل خِدْن وخَدِين قال : رؤبة : @ يَطْرحْن كُلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجِ لَمْ يُكْسَ جِلْداً في دَمٍ أَمْشَاجِ @@ ويقال : مَشَجتُ هذا بهذا أي خلطته ، فهو مَمْشوج ومَشِيج مثل مَخْلوط وخَلِيط . وقال المبرّد : واحد الأمشاج : مشيج يقال : مشج يمشِج : إذا خلط ، وهو هنا ٱختلاط النطفة بالدم قال الشَّمَّاخ : @ طَوَتْ أَحْشَاء مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ على مَشَج سُلاَلَتُهُ مَهِينُ @@ وقال الفراء : أمشاج : أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعَلَقة . ويقال للشيء من هذا إذا خُلط : مَشِيج كقولك خَلِيط ، ومَمْشوج كقولك مَخْلوط . وروي عن ٱبن عباس رضي الله عنه قال : الأمشاج : الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة قال الهُذليّ : @ كَأَنَّ الرِّيشَ والْفُوقَيْنِ مِنْهُ خِلاَفَ النَّصْلِ سِيطَ به مَشِيجُ @@ وعن ٱبن عباس أيضاً قال : يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوّة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعاً ذكره البزار . وروي عن ٱبن مسعود : أمشاجها عروق المضغة . وعنه : ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد : نطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ٱبن عباس : خلق من ألوان خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال قتادة : هي أطوار الخلق : طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحماً كما قال في سورة « المؤمنون » { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآية . وقال ٱبن السِّكِّيت : الأمشاج الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني : والأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت للنطفة كما يقال : بُرْمَةٌ أَعشَار وثوبٌ أخلاقٌ . وروي عن أبي أيوب الأنصاريّ : قال " جاء حبر من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال : « ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا عَلاَ ماء المرأة آنثَتْ وإذا عَلاَ ماءُ الرجل أَذْكَرَتْ » فقال الحبر : أشهد أن لا إلٰه إلا الله وأنك رسول الله " وقد مضى هذا القول مستوفًى في سورة « البقرة » . { نَبْتَلِيهِ } أي نختبره . وقيل : نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان : أحدهما نختبره بالخير والشر قاله الكلبي : الثاني نختبر شكره في السَّراء وصبره في الضَّرَّاء قاله الحسن . وقيل : « نَبْتَلِيهِ » نُكلِّفه . وفيه أيضاً وجهان : أحدهما بالعمل بعد الخلق قاله مقاتل . الثاني بالدِّين ليكون مأموراً بالطاعة ومنهيًّا عن المعاصي . وروي عن ٱبن عباس : « نَبْتَلِيهِ » : نصرفه خلقاً بعد خلق لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : المعنى والله أعلم { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } لنبتليه ، وهي مُقدَّمة معناها التأخير . قلت : لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخِلْقة . وقيل : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } : يعني جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى ، وبصراً يبصر به الهدى . قوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أي بيّنا له وعَرَّفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشرّ ببعث الرسل ، فآمن أو كفر كقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] . وقال مجاهد : أي بيّنا له السبيل إلى الشَّقاء والسَّعادة . وقال الضحاك وأبو صالح والسّديّ : السبيل هنا خروجه من الرحم . وقيل : منافعه ومضارّه التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله . { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أي أيهما فعل فقد بيّنا له . قال الكوفيون : « إِن » ها هنا تكون جزاء و « ما » زائدة أي بيّنا له الطريق إن شَكَر أو كَفَر . وٱختاره الفراء ولم يجزْه البصريون إذ لا تدخل « إِنْ » للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل . وقيل : أي هديناه الرشد ، أي بيّنا له سبيل التوحيد بنصب الأدلة عليه ثم إن خلقنا له الهداية ٱهتدى وآمن ، وإن خذلناه كَفَر . وهو كما تقول : قد نصحت لك ، إن شئت فاقبل ، وإن شئت فٱترك أي فإن شئت ، فتحذف الفاء . وكذا { إِمَّا شَاكِراً } والله أعلم . ويقال : هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل . وقد تقدّم في « الفاتحة » وغيرها . وجمع بين الشاكر والكفور ، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع ٱجتماعهما في معنى المبالغة نفياً للمبالغة في الشكر وإثباتاً لها في الكفر لأن شكر الله تعالى لا يُؤدَّى ، فٱنتفت عنه المبالغة ، ولم تنتف عن الكفر المبالغة ، فقَلَّ شكره ، لكثرة النِّعم عليه وكَثرة كفره وإن قَلّ مع الإحسان إليه . حكاه الماورديّ .