Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 91-92)

Tafsir: al-Ǧāmiʿ li-aḥkām al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه ست مسائل : الأُولىٰ قوله تعالىٰ : { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } الآية . أصل في سقوط التكليف عن العاجز فكل من عجز عن شيء سقط عنه ، فتارة إلى بدل هو فعل ، وتارة إلى بدل هو غرم ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة أو العجز من جهة المال ونظير هذه الآية قوله تعالىٰ : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] وقوله : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [ النور : 61 ] . وروى أبو داود عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " « لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلاَّ وهم معكم فيه » . قالوا يا رسول الله ، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال « حبسهم العذر » " فبيّنت هذه الآية مع ما ذكرنا من نظائرها أنه لا حرج على المعذورين ، وهم قوم عرف عذرهم كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون فقال : ليس على هؤلاء حرج . { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } إذا عرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه قال العلماء : فعذر الحق سبحانه أصحاب الأعذار ، وما صبرت القلوب فخرج ابن أُم مكتوم إلى أُحُد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه مصعب بن عمير ، فجاء رجل من الكفار فضرب يده التي فيها اللواء فقطعها ، فأمسكه باليد الأُخرى فضرب اليد الأُخرى فأمسكه بصدره وقرأ { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } [ آل عمران : 144 [ . هذه عزائم القوم . والحق يقول : « لَيْسَ عَلَىٰ الأَعْمَىٰ حَرَجٌ » وهو في الأوّل . « وَلاَ عَلَىٰ الأَعْرَجِ حَرَجٌ » وعمرو بن الجَمَوح من نقباء الأنصار أعرج وهو في أوّل الجيش . قال له الرسول عليه السَّلام : " إن الله قد عذرك " فقال : والله لأحفرن بعرجتي هذه في الجنة إلى أمثالهم حسب ما تقدّم في هذه السورة من ذكرهم رضي الله عنهم . وقال عبد الله بن مسعود : ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف . الثانية قوله تعالىٰ : { إِذَا نَصَحُواْ } النصح إخلاص العمل من الغش . ومنه التوبة النصوح . قال نَفْطَوَيْه : نصح الشيء إذا خلص . ونصح له القول أي أخلصه له . وفي صحيح مسلم عن تميم الدّاريّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " « الدين النصيحة » ثلاثاً . قلنا لمن ؟ قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم » " قال العلماء : النصيحة لله إخلاص الإعتقاد في الوحدانية ، ووصفُه بصفات الألوهية ، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في مَحابّه والبعد من مساخطه . والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوّته ، والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبته ومحبة آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والتفقه فيها والذبّ عنها ونشرها والدعاء إليها ، والتخلّق بأخلاقه الكريمة صلى الله عليه وسلم . وكذا النصح لكتاب الله : قراءته والتفقه فيه ، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به . والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أُمور المسلمين ، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم . والنصح للعامة : ترك معاداتهم . وإرشادُهم وحب الصالحين منهم ، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم . وفي الحديث الصحيح : " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . الثالثة قوله تعالىٰ : { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } { مِن سَبِيلٍ } في موضع رفع اسم « ما » ٱي من طريق إلى العقوبة . وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن . ولهذا قال علماؤنا في الذي يقتص مِن قاطع يده فيفضي ذلك في السراية إلى إتلاف نفسه : إنه لا دية له لأنه محسن في اقتصاصه من المعتدِي عليه . وقال أبو حنيفة : تلزمه الدّية . وكذلك إذا صال فحل على رجل فقتله في دفعه عن نفسه فلا ضمان عليه وبه قال الشافعيّ . وقال أبو حنيفة تلزمه لمالكه القِيمة . قال ابن العربيّ : وكذلك القول في مسائل الشريعة كلها . الرابعة قوله تعالىٰ : { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } روي أن الآية نزلت في عِرباض بن سارِية . وقيل : نزلت في عائذ بن عمرو . وقيل : نزلت في بني مُقَرِّن وعلى هذا جمهور المفسرين وكانوا سبعة إخوة ، كلهم صحبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم ، وهم النعمان ومعقِل وعقيل وسويد وسنان وسابع لم يُسَمّ . بنو مقرّن المُزنيون سبعة إخوة هاجروا وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشاركهم فيما ذكره ابن عبد البر وجماعة في هذه المكرمة غيرهم . وقد قيل : إنهم شهدوا الخندق كلهم . وقيل : نزلت في سبعة نفر من بطون شتّى ، وهم البكّاءون أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ليحملهم ، فلم يجد ما يحملهم عليه فـ { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } فسُمّوا البكائين . وهم سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف وعُلْبة بن زيد أخو بني حارثة . وأبو ليلى عبد الرّحمٰن بن كعب من بني مازن بن النجّار . وعمرو بن الحُمَام من بني سلمة . وعبد الله بن المغَفّل المزنيّ ، وقيل : بل هو عبد الله بن عمرو المزني . وهَرَميّ بن عبد الله أخو بني واقف ، وعِرْبَاض بن سارية الفزاري ، هكذا سماهم أبو عمر في كتاب الدرر له . وفيهم اختلاف . قال القشيريّ : معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن غَنَمة ، وعبد الله بن مغَفّل وآخر . قالوا : يا نبي الله ، قد ندبتنا للخروج معك ، فٱحملنا على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة نَغْزُ معك . فقال : " لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " فتولّوْا وهم يبكون . وقال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب ، وكان الرجل يحتاج إلى بعيرين ، بعير يركبه وبعير يحمل ماءه وزاده لبعد الطريق . وقال الحسن : " نزلت في أبي موسى وأصحابه أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستحملوه ، ووافق ذلك منه غضباً فقال : « والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه » فتولوا يبكون فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذَوْدا . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله ؟ فقال : « إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاَّ أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني » " . قلت : وهذا حديث صحيح أخرجه البخارِيّ ومسلم بلفظه ومعناه . وفي مسلم : فدعا بنا فأمر لنا بخمس ذَوْدٍ غرِّ الذُّرَى … الحديث . وفي آخره : " فانطلِقوا فإنما حملكم الله " وقال الحسن أيضاً وبكر بن عبد الله : نزلت في عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنِيّ ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله . قال الجُرْجانيّ : التقدير أي ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وقلت لا أجد . فهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو ، والجواب « تَوَلَّوْا » . { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } الجملة في موضع نصب على الحال . { حَزَناً } مصدر . { أَلاَّ يَجِدُواْ } نصب بأن . وقال النحاس : قال الفراء يجوز أن لا يجدون يجعل لا بمعنى ليس . وهو عند البصريين بمعنى أنهم لا يجدون . الخامسة والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوه أنه لا يجب عليه . وقال علماؤنا : إذا كانت عادته المسألة لزمه كالحج وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد . والله أعلم . السادسة في قوله تعالىٰ : { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } ما يستدل به على قرائن الأحوال . ثم منها ما يفيد العلم الضروريّ ، ومنها ما يحتمل الترديد . فالأوّل كمن يمرّ على دار قد علا فيها النعي وخُمشت الخدود وحُلقت الشعور وسُلِقت الأصوات وخرقت الجيوب ونادوا على صاحب الدار بالثُّبور فيُعلم أنه قد مات . وأما الثاني فكدموع الأيتام على أبواب الحُكّام قال الله تعالىٰ مخبراً عن إخوة يوسف عليه السَّلام : { وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } [ يوسف : 16 ] . وهم الكاذبون قال الله تعالىٰ مخبراً عنهم : { وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } [ يوسف : 18 ] . ومع هذا فإنها قرائن يستدل بها في الغالب فتبنى عليها الشهادات بناء على ظواهر الأحوال وغالبها . وقال الشاعر : @ إذا ٱشتبكتْ دموع في خدود تبيّن مَن بَكَى ممن تَباكَى @@ وسيأتي هذا المعنى في « يوسف » مستوفى إن شاء الله تعالىٰ .