Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-19)

Tafsir: Taysīr at-tafsīr li-l-qurʾān al-karīm

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ واذْكُر } يا محمد للنَّاس { فى الكتابِ } فى هذه السورة ، إذ صدرت بقصة زكرياء المستتبعة لقصة مريم ، وقصص الأنبياء ، كما تناسبت هذه السورة ، وسورة الكهف فى الاشتمال على عجائب من أصحاب الكهف والجنتين ، وقصة موسى والخضر وذى القرنين ، وولادة يحيى وعيسى ، ولا سيما ما قيل : إن أصحاب الكهف من قوم عيسى ، وإنهم يبعثون ويحجون معه ، والجمهور على أن الكتاب القرآن وهو المتبادر . { مَرْيَم } أخبار مريم { إِذْ انْتَبَذَتْ } اعتزلت ، قيل متعلق بأخبار الذى قدرته مضافاً لمريم ، وقدر أبو حيان واذكر مريم ، وما جرى إذ انتبذت ، وهو أولى ، لأن جرى أدل على الحديث من الأخبار جمع خبر ، أو نبأ إن قدر بل لا يجوز تقدير نبأ أو أخبار ، لأنه لا أخبار وقت الانتباذ ، فلو قدر حوادث مريم لكان أولى لاختصاره ، وظهور الحدث ، وقيل : حال من نبأ المضاف لمريم أى اذكر نبأ مريم ثابتاً إذ انتبذت ، وفيه أنه لم يثبت حين انتبذت كما مر ، ويجوز أن يكون بدل اشتمال ، ولو كان الزمان لا يخبر به عن الجثة ، ولا توصف به ولا يجىء حالا منها ، وقيل : بدل مطابق ، وفيه أن وقت الانتباذ غير مريم وغير نبئها ، والقول بأن إذ حرف مصدر على معنى التعليل أى لأن انتبذت تخليط . { من أهْلها مكاناً شرقياً } متعلقان بانتبذت ، وقيل مكاناً مفعول به لتضمن انتبذت معنى أتت ، والمراد مكاناً شرقياً من بيت المقدس ، أو من دارها تختلى به للعبادة ، معتزلة عن الناس ، وقيل قعدت فى مشرفة لتغتسل من الحيض متحجبة بحائط أو جبل عند ابن عباس ، وبثوب عند بعض ، وذلك كما قال الله عز وجل : { فاتَّخذَت مِنْ دُونِهِمْ حجاباً } وكون المكان شرقياً اتفاقى لا قصد لها ولا تفضيل لعنة الله على النصارى ، كتب الله عليهم الصلاة إلى الكعبة ، والحج فما صرفهم عن ذلك إلا انتباذها من أهلها مكاناً شرقياً كما ، أخرجه أن ابن أبى حاتم ، عن ابن عباس ، فجعلوا المشرق قبلة . وروى أنهم كانوا فى زمان عيسى يستقبلون بيت المقدس ، وما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه ، وروى أنهم زعموا أنه ظهر لبعض كبرائِهم ، فأمره بذلك ، ويجوز أن الله اختار لها الشرق بقصدها أو بدونه ، لأنه مطلع الشمس والقمر وغيرهما من الأنوار الحسية المطابقة للنور العقلى ، وروى أن الشرق موضعها فى المسجد إذا طهرت ، وإذا حاضت تحولت إلى خالتها ، أتاها ملك فى صورة شاب أمرد ، وضىء الوجه ، حسن شعر الرأس ، وذلك قوله عز وجل : { فأرسلنا إليها رُوحَنا } جبريل عند الجمهور ، سمى روحاً لأن الدين يحيا ، والإِضافة للتشريف أو لحب الله إياه كما تقول لمن تحبه : هو روحى ، وفى هذا أيضاً تشريف ، أو لأنه من المقربين الذين لهم روح وريحان ، وقيل : هو عيسى كقوله تعالى فى عيسى : { ورورح منه } [ النساء : 171 ] وفى الإضافة ما مرّ . { فتمثَّل لَها } أى تمثل لها روحنا أى تصور لها { بشراً سوياً } كامل البنية والأدب ، لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئاً ، وقيل : تمثل فى صورة قريب لها يوسف من خدم بيت المقدس لتأنس بكلامه ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلماته ، ولو بدا لها على صورة ملك لنذرت فنقول لم يجىء إليها لتنحدر نطفة منها من صدرها إلى رحمها لتكون عيسى ، فإن هذا خطأ كما يدل له قوله تعالى : { قالَت إِنِّى أُعُوذ بالرَّحْمن منْكَ إِنْ كُنْت تَقيّاً } لله عز وجل حاذراً للزنى والمعاصى ، وإِن لم تكن تقياً لم أطمع أن تؤثر فيك استعاذتى بالله ، بأن ترهبها إلا أن يشاء الله ، بمعنى أن تقواك مانعة من الفجور ، وهذا تذكير ، وهذا شاهد عدل على ورعها . قلت : لا مانع من أن يرسله إليها لتنحدر من صدرها عند رؤيتها إياه ضرورة بلا اختيار منها ، ولا ميل وذلك غير مناف للورع ، إلا أنه بقى أن يقال : كون عيسى من نطفة جاءتها من نظر إلى غير زوجها نقص له حاشاه ، ويقوى عدم النطفة ما ذكره الله من النفخ فى الدرع ، ومن عادة المَلَك بفتح اللام إذا تمثل فى خير أن يتمثل بصورة حسنة كما كان جبريل يتمثل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى مصالحه صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبى ، وما قيل إن معن عن جوابها وذلك أولى من أن تقدر إن كنت تقياً اتعظت ، أو فاذهب عنى ، أو فلا تتعرض لى ، أو إن كنت تقياً تعوذت منك ، فكيف إن لالم تكن تقياً . ومن أن تجعل إن نافية مستأنفة أى ما كنت تقياً بحضورك عندى منفرداً ، ومن أن تقياً رجل طالح حقيق بأن يستعاذ منه ، أو صالح حقيق بأن تؤثر فيه الاستعاذة ، وابتلاها الله عز وجل بصورة الجميل اختباراً لعفتها وإظهاراً لها ، واستعاذتها بالله خوف أن يكون البشر السوى مريداً للزنى ، وحذراً من اشتهائها الطبيعى ، وهو لا ينافى ورعها ، بل يحققه إذ غلبته ، ولم تعمل به ، وقد قال الله عز ولج عن يوسف عليه السلام : { وإلاَّ تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [ يوسف : 33 ] وقال : { وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه } [ يوسف : 24 ] وقفنا على همَّ أو وصلناه على أنه مما بعده ، وذلك مع أنه من الطبع استعاذ منه فقال : { معاذ الله إنه ربِّى أحسن مثواى } [ يوسف : 23 ] وكفر من قال : خلق شىء لا من شىء محال ، وهو قول يوجب التسلسل ، والتسلسل باطل مناف للقدرة ، بل يخلق الله الشىء لا من شىء ويخلق منه ما يريد . والملك جسم عظيم ، لكن أقدر الله الملائكة على الانطواء ، أو له أجزاء أصلية قليلة ، تمثل بها ، وأجزاء فاضلة أسقطها ، وأما على أنه روحانى فلا إشكال فى أنه تارة بهيكل عظيم ، وتارة بصغير ، ولا يقال إجازة التمثيل يرفع الوثوق بكل ما نراه ، فلعله غيره ، لأنا نرى الشىء مستمراً ، وأيضاً يعاد فى ذلك إلى نفس التخييل لعله غير تخييل ، وإسناد الأشياء إلى الاتصالات الفلكية كفر قام الدليل القاطع على بطلانها ، والعقل ولو أجاز التخييل لكن بطل بالمشاهدة ، ودلائل الشرع ، وذكرت الرحمن مبالغة فى الحذر ، بأن يرحم ضعفها ، وعجزها عن الدفع واستجال برحمة الله الدافعة ، وعن ابن عباس لما قالت : أنى أعوذ بالرحمن الخ تبسم جبريل ، فقال ما ذكر الله عز وجل فى قوله : { قال إنَّما أنا رسُول ربِّك } ما أنا إلا رسول الذى ملك أمرك ، ونظر مصلحتك الذى استعذت به لست من أهل الالشر { لأهَبَ } أنا بالهمزة { لك غلاماً زكياً } لأكون سبباً وواسطة فى هبته لك بالنفخ فى الدرع ، أو لأهب بالياء فوق الإيمان أى ليهب الله لك ، ودعوى أن الأصل الهمزة قلبت ياء لكسر ما قبلها تكلف بلا داع مع ما فيه من الإلباس ، واللام على كل حال متعلق برسول ، لأنه بمعنى مرسل ، كأنه قيل : أرسلنى لأهب ، أو ليهب ، وإذا صير إلى التقدير فقدر جئت ، أو أرسلت ، وزكياً ينمو من خير إلى خير فوقه ، وتقدم تفسيره ، فإن هذا هو ذاك ، ولا دلالة فى الآية على نبوة مريم ، لأن تكلم جبريل لها ليس على طريق النبوة ، وأيضاً لم يوح إليهما بشرع .