Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 13-13)
Tafsir: Ǧawāhir at-tafsīr: Anwār min bayān al-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يسوغ هنا ما سبق في قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ } أن يعتبر قائل ذلك هو الله أو رسوله أو المؤمنون أو المنافقون أنفسهم ، عندما يفكر بعضهم في عاقبة هذا النفاق وما يكلفهم من ابتكار الحِيَل وانتحال الأكاذيب لأجل درء التهم ، وتحسين المظهر ، فتكون إجابة أولئك الذين مردوا على النفاق وغرقوا فيه إلى الأذقان ما حُكي عنهم هنا وهناك ، والمراد بالناس الذين جمعوا صفات الانسانية الكاملة ، فلذلك اعتُبرت محصورة فيهم ، وكأن من عداهم ليس من الانسانية في شيء ، وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن المراد بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه من المهاجرين والأنصار ، الذين رسخت أقدامهم في الإِيمان ، وانشرحت صدورهم باليقين ، وعليه عول كثير من المفسرين ، وقيل : المراد بهم من آمن من أهل الكتاب ، كعبدالله بن سلام - رضي الله عنه - ، وهو مبني على ما سبق ذكره من أن الخطاب لمنافقي اليهود ، وقيل : المراد بهم الناس الذين يعتقدون فيهم كمال الانسانية ورقي الأفكار وإشراق العقول ، كإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين الذين يفخرون بالانتماء إليهم . النفاق يُزيِّن الباطل ويقبِّح الحق : وعلى أي حال فإن هذا الوصف يصور لنا ما يصل إليه النفاق بأهله من تزيين الباطل وتمجيد ذويه ، وتقبيح الحق وتسفيه أتباعه ، وإعراضهم عن الناصح واستخفافهم بنصيحته ، ولا عجب فإن الحق من دلائل صدقه استهانة المبطلين به ، وإن من علامات كمال الفضيلة في الانسان ، واتصافه بأرقى الصفات الانسانية ؛ استخفاف سفهاء الأحلام به ، ورميهم إياه بالمذام والنقائص ، كما قال المتنبي : @ وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل @@ وليس ما نشاهده ونسمعه في هذا العصر من سخرية المفسدين بالمصلحين واستخفافهم بحلومهم ، ونبزهم بالألقاب الشائنة ، ولمزهم بالعبارات الجارحة ، إلا امتداد لأحوال قديمة دأب عليها أولو الفساد ، فكانت من علاماتهم التي بها يعرفون . ومجيء هذه النصيحة بعد ما قبلَها لما في تلك من الحض على توقي الفساد ، وما في هذه من الدعوة إلى التلبس بضده ، وهو معنى ما قيل " التخلي قبل التحلي " فالنفس لا تتأهل لأن تكون وعاء للخير حتى تتطهر من أدران الشر ، ولا يمكنها أن تتحلى بالفضائل المحمودة حتى تتخلى عن الرذائل المذمومة ، وكيف يقرّ الإِيمان في نفس لوّثها الفساد ، وألفت الشقاق والنفاق ؟ اللهم إلا أن يتغير مسلكها ، وتتبدل عاداتها ، فتكون كأنما أنشئت نشأة جديدة بعيدة عن تلك الطباع التي كانت عليها ، والمفاسد التي أحاطت بها . ويرى ابن عاشور في تفسيره أن ذكر الناس هنا جار على سنن كلام العرب عندما يريدون إغراء المخاطب بشيء ، وحضه على المسارعة إليه ، فإنهم يستخدمون كلمة الناس وسيلة لتنبيه المخاطب بأن من عداه من هذا الجنس قد سبقوه إلى هذا الفعل ، فجدير به أن لا يتوانى في اللحاق بهم ، ومثل ذلك استخدامهم لها إذا ما قصدوا التسلية إو الإِئتساء كما في قول النهمي : @ وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارم @@ ويرى صاحب المنار أن الشرط والجزاء مفروضان هنا وفيما تقدم فرضا لأجل كشف ما ينطوون عليه ، وإحضار حقيقة أمرهم في صورة المحسوس جريا على أساليب الكلام المألوفة عند العرب إذا أريد تنبيه الأذهان وتوجيهها إلى الاحاطة بمعاني الكلام ، ولأجل ذلك استخدم العلماء الباحثون هذا الأسلوب عندما يرومون الكشف عن مخدرات المسائل وحل عويصات المشكلات ، فإنهم كثيرا ما يقولون إن قيل كذا أجبنا بكذا ؛ وبناء على رأيه هذا فلا داعي إلى البحث عن الداعي إلى الايمان ، هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو المؤمنون أو جماعة من المنافقين أنفسهم ، بحسب ما تقدم ، وهو رأي وجيه ، وقد ألمحت إليه وعزوته إلى بعض المفسرين في آخر تفسير الآيتين السابقتين . ويرى جمهور المفسرين أن مرادهم بقولهم في الرد على داعي الايمان { أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } التبرؤ مما دعوا إليه من الحق على أبلغ وجه ، فقد اعتبروا ذلك من شأن السفهاء الذين طاشت حلومهم وزاغت أفكارهم ، وذلك ما لا يتفق مع ما يرون عليه أنفسهم من رجاحة العقل ، واتقاد الذهن ، ونفاذ البصيرة ، وينطوي - مع ذلك - جوابهم على قصد التعريض بالمؤمنين بأن السفه هو الذي قادهم إلى الايمان ، والتخلي عما كانوا عليه من العقائد والعبادات ، ولا يبعد أن يقصدوا التعريض بالسابقين الأولين من المهاجرين ، فإن جلهم كانوا من المستضعفين ، كصهيب وبلال ، ومن عادة المتكبرين في الأرض احتقار طبقة الضعفاء ووصفهم إياهم بالسفه ، ولمزهم بقبيح الكلام ، كما أن من شأنهم تهجين الدخول في مداخلهم والشموخ عن التأسي بهم في مواردهم ومصادرهم . ولا يرد على ذلك كون ضعفهم تحول إلى قوة بعد الهجرة وقيام الدولة الاسلامية التي أظلت الجميع بظلها الوارف ، وآوتهم في حصنها الحصين ، وتآزر المؤمنون على القيام بواجباتها بحيث صاروا كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد يشتكي كل عضو منه إذا ما تألم عضو واحد ، ونعم في حماها المستضعفون كغيرهم بالمنعة والاطمئنان ، ذلك لأن اللامزين بهذا الوصف إنما كانوا يعيرونهم بما كانوا عليه من قبل من الذلة والضعف والفقر . ويُحتمل أن يريدوا بالسفهاء المهاجرين والأنصار جميعا لاعتبارهم ما أتوه سفها يربأون بأنفسهم عنه ، فالمهاجرون خرجوا من ديارهم وقد تركوا وراءهم الموطن والأولاد والأموال بعدما تقطعت الصلات بينهم وبين عشائرهم الأدنين ، وحلت محلها العداوات والإِحن بسبب اعتناق هذا الدين والقيام بالدعوة إليه ، والأنصار آووا المهاجرين في بلادهم وأشركوهم في أموالهم وآثروهم على أنفسهم وعيالهم وكِلا الأمرين في نظر المنافقين سفه وضلال ، لأنهم ينظرون إلى الأمور بالمنظار المادي ، ومن شأن الناس أن يعدوا المال قوام الحياة ، وأن يعتبروا الأهل والعشيرة معقل العز ، كما أن من شأنهم أن يضيقوا ذرعا بالمهاجرين إليهم إذا ما شاركوهم في معايشهم ، وضايقوهم في مساكنهم ، فلا غرو إذا نظر المنافقون إلى طائفتي المهاجرين والأنصار نظر الاستخفاف والازدراء ، ونسبوهم إلى السفه ، وحكموا عليهم بالضلال . وبناء على ما تقدم رأى أكثر المفسرين أنه لا يتأتى صدور هذا القول منهم إلا فيما بينهم ، أو أنهم كانوا يقولونه في سرائرهم من غير أن يبوحوا به ؛ وإلى الاحتمال الأول ذهب الواحدي حيث قال : إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين ، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بذلك عنهم . وهذا لأنهم لو كانوا يعلنون تسفيه الحق وتضليل المحقين أمام المؤمنين لكانوا مجاهرين بالكفر وعُدوا من الكفرة الصرحاء لا من المنافقين المتكتمين ، فإن النفاق يقتضي أن يطوي صاحبه سريرته عن الناس ويبدي لهم خلافها . وضعّف أبو السعود في تفسيره رأي الجمهور ؛ نظرا إلى أن الذي تقتضيه جزالة عبارات التنزيل أن يكون صدور هذا الجواب بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم ، لأن السياق يدل على حوار بين طائفتي الايمان والنفاق ، وتدافع بين كتلتي الوفاق والشقاق ، واختار أن قولهم هذا - وإن صدر عنهم بحضور الناصحين - لا يقتضي كونهم مجاهرين وإنما هو أسلوب من أساليب الخداع ، وفن من فنون النفاق وارد مورد قولهم { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } [ النساء : 46 ] ، من احتمال الأمرين بحسب تقدير المعمول إذ يمكن أن يحمل على الدعاء بالخير إن قُدر غير مُسمع مكروها ، وبعكسه إن قدر غير مسمع خيرا ، وكانوا يلقون هذا الكلام على النبي صلى الله عليه وسلم استخفافا وسخرية ، فقد كانوا يوهمونه قصد الدعاء بالخير وهم يبطنون ضده ، فنزل القرآن هاتكا سترهم كاشفا سرهم ، حتى لا يتطاولوا على حضرة صاحب الرسالة بعبارات الهزء والسخرية . وجعلُ أبي السعود ما في هذه الآية نظير ما في تلك يعني أنهم كانوا يواجهون نصحاءهم بمثل هذا الجواب استنكارا منهم لدعوتهم إلى الإِيمان كما آمن الناس ، زاعمين أنهم على ذروة الإِيمان ، فإذا لم يكن إيمانهم كإيمان الناس الذين بهم الإِعتداد ، وفيهم الأسوة ، فهل إيمانهم كإيمان السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بهم ولا بعقائدهم ، وهكذا يوهمون النصحاء الدعاة إلى الإيمان مع انطواء جوابهم على مغزى آخر من مغازي الكلام ، وهو لمز المؤمنين بالسفه والطيش ، وإلى ذلك كانوا يهدفون . وقد مر بكم في تفسير الآيتين السالفتين بيان احتمال أن تكون هذه الفلتات من المنافقين بمحضر وحدان المؤمنين دون جماعاتهم بحيث يمكنهم التخلص منهم ، ومما يترتب على رفائعهم - لو كشفوا أمرهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين - بالمعاذير التي ينتحلونها والأيمان التي يكررونها ، وبهذا ينحل كل ما تصوروه من إشكال في هذا التقاول ، ويُستغنى عما جاء به أبو السعود زاعما أنه الحق الذي لا محيد عنه ، وبحسبكم ما ذكرته ثَمَّ - من شواهد الآيات الدالة على أن المنافقين كانوا يجهدون في اختلاق المعاذير وانتحال الأكاذيب وإغلاظ الأيمان لأجل درء التهم عنهم وتخلصهم مما ينسبه إليهم المطلعون على أمرهم من المؤمنين - دليلا على صحة كون هذا التقاول بينهم وبين المؤمنين . هذا وقد عزا الألوسي ما ذكره أبو السعود إلى الشهاب الخفاجي ، وذكر أنه ادّعى أن ذلك من بنات أفكاره ، ورد عليه الألوسي بأن قولهم { أنؤمن } إنكار للفعل في الحال ، وقولهم { كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ } بصيغة الماضي صريح في نسبة السفاهة إلى المؤمنين بسبب الإِيمان ، فلا تورية في خطابهم ، ولم ير الألوسي مانعا أن يصدر عن أحد المتحاورين في الخلاء ما هو حري أن يكون في مقام التحاور بينهما . وإذا تأملتم ما حررته لكم هنا وفيما تقدم كنتم في غنى عن جميع هذه التكلفات . وأصل السفه عند العرب الرقة والخفة ، ولذا يوصف به الثوب الرديء النسج ، ومن عادة الخفيف الاضطراب وعدم الاستقرار ، ولذا أطلقوا السفه على هذه الحالة كما قال ذو الرمة : @ مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مرّ الرياح النواسم @@ وأطلق على الطيش ، واضطراب الرأي ، وسوء التدبير لما يستلزم ذلك من خفة النفس وعدم استقرار أفكارها ، ولذلك وصف القرآن المبذرين للأموال بالسفه لفقدانهم الضبط ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ } [ النساء : 5 ] ، وقوله : { فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً } [ البقرة : 282 ] ، ويطلق السفه في الاسلام على تفويت المنفعة العاجلة أو الآجلة ، ومنه قوله سبحانه وتعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] . وقد انتصر الله سبحانه لعباده المؤمنين وحزبه المفلحين من أعدائهم المنافقين بأن سجل عليهم صفة السفه التي رموهم بها ووسمهم مع ذلك بالجهل ، وما أضل من حكم الله عليه بالسفه ، وما أحير من رماه تعالى بالجهل . وجاء الرد مصدرا بأداة الاستفتاح ومؤكدا بحرف التأكيد ، ومعرفا طرفاه - وهما المسند والمسند إليه مع توسيط ضمير الفصل بينهما - كل ذلك لتأكيد الدلالة على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين الذين وسموهم بها ، وقد جعل سفههم من الظهور بحيث لا يخفى على متأمل ، ولكن جهلهم بالأمور هو الذي حال بينهم وبين إدراكه ولذلك ذيلت الآية بقوله { وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } . وجاءت هذه الفاصلة مغايرة لما قبلها ، ففي تلك نُفي عنهم الشعور ، وفي هذه نُفي العلم اعتبارا لما وُصفوا به في المقامين ، فثم وصفوا بالفساد ، والفساد أمر محسوس يتجلى لكل من له نظر ؛ لما يترتب عليه من إهاجة الفتن وسفك الدماء وتقطيع الصلات وإثارة الأضغان وتأجيج الأحقاد ، وما من شيء من ذلك إلا وضرره معلوم ، وخطره محسوس ، فإيثار التلبس به لا يكون إلا ممن بلغت به البلادة وانطماس الفكر إلى فقدان الإِحساس ، وهنا وُصفوا بالسفه المنافي للعلم ، فاقتضى المقام أن يُنفى عنهم العلم ليتم الطباق بين ما أثبت لهم ونُفي عنهم . وأيضا فإنهم هنا مخاطبون بالإِيمان ، وأمر الإِيمان لا يتضح إلا لمن كان على علم به ؛ لأنه يقتضي فهم عاقبة المؤمنين وعاقبة أضدادهم الكفار ، كما أن للايمان مسالك ومبادئ وغايات ، قد تكون من الدقة بحيث تخفى على من لم ينور الله بصيرته بالعلم ، ويشرح صدره بالعرفان ، وهؤلاء المنافقون بسبب إخلادهم إلى العناد وإصرارهم على نهج المسالك الملتوية لم يكونوا على استعداد ذهني لادراك هذه الحقائق ، فكانوا أحرياء بأن يوصفوا في هذا الموقف بعدم العلم . هذا وقد علمتم مما أسلفته غير مرة أن هذه الصفات الدنية لا تنحصر في ذلك الفريق المحدود العدد من منافقي المدينة في عهد النبوة ، وإنما تنجرُّ إلى كل من كان على شاكلتهم في جميع العصور ، فالذين يسفهون الحق ، ويزينون الباطل ، ويحتقرون المحقين ، ويجلون المبطلين ، هم أحقاء بكل هذه الأوصاف من الفساد وفقدان الإِحساس والوعي ، وعدم المعرفة بحقائق الأمور وعواقبها .