Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 18-18)
Tafsir: Ǧawāhir at-tafsīr: Anwār min bayān al-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اختُلف في هذه الآية هل هي من ضمن التمثيل ، أو هي خارجة عنه ويعود ما فيها من الوصف إلى المقصودين بالتمثيل وهم المنافقون ؟ وعلى الأول فوجه علاقتها بالمثل أن مستوقدي النار لافتقارهم إلى الضوء تشتد حسرتهم ، وتتضاعف مصيبتهم ، إذا ما أتى عليها عاصف من الريح فأطفأها بعد إشراق ضوئها ، وبُدُوِّ منفعتها ، كيف وقد فاتهم ما يأملون مما هم في أمسِّ الحاجة إليه من الانتفاع بها ؛ مع ضياع جهدهم الجهيد في إيقادها ، فإذا ولي ذلك إلمام حادث فظيع ذهب بسمعهم ونطقهم ، وإبصارهم ، كان ذلك أنكى لهم ، وأبلغ في حيرتهم ، إذ لا أمل لهم يبقى في الاهتداء بصوت يُسمع ، ولا بشبح يُرى ، ولا بسؤال يجاب ، فلا مناص لهم عن الاستسلام للأمر الواقع حيث لا داعي ولا مجيب . وهذا شأن الذين ضُرب فيهم المثل ، فهم بعد أن طفئت نار هدايتهم لم تَعُدْ لهم وسيلة إلى الخير بعد ما قطعوا جميع الوسائل باستحبابهم العمى على الهدى ، فطبع الله على قلوبهم ، وطمس حواسهم ومشاعرهم . وعلى الثاني فإن في الآية عوْدا إلى المشبه بعد التشبيه بتجلية بعض صفاته لا عن طريق التمثيل ، ويؤيد هذا الرأي الأخير أنَ ذكر الاستيقاد يدل على إبصار المستوقد ، فإذا ما وُصف بعد بالعمى وسائر العاهات المذكورة ، كان في هذا الوصف منافاة لما تقدم من قبل . حواس المنافقين فقدت منافعها : وإنما وُصفوا بما وصفوا به من الصّمَم والبَكَم والعمى - مع اكتمال حواسهم - لأجل فقدانهم منافعها ، فأسماعهم لا تصغي إلى الحق ، وإن أصغت إليه لم تعقله لعدم تقبُّلها إياه ، وألسنتهم لا تتحدث به ولا تدعو إليه ، وأبصارهم لا تتوصل إليه ؛ لأنها معرضة عنه ، فهم لا يختلفون عمن فقد هذه الحواس رأسا . واختُلف في هذه الطريقة ؛ هل هي من باب الاستعارة أو الحقيقة ؟ فذهب الزمخشري وأكثر علماء التفسير من المتقدمين والمتأخرين ؛ إلى أن ذلك من باب التشبيه البليغ ، وهو ضرب من الحقيقة ؛ لأن الاستعارة لا تكون إلا مع طي ذكر المشبه - وهو المستعار له - بحيث يكون تركيب الكلام صالحا لأن يُراد به المنقول عنه والمنقول إليه لولا القرينة المعينة للمراد ، والمشبه هنا في حكم المذكور لأجل بناء الكلام على تقديره ، وتعقّب ذلك السيد الجرجاني في حواشيه على الكشاف بما معناه : أنه لم يقصد هنا تشبيه ذوات بذوات ، وإنما قصد تشبيه صفات بصفات ، والصفات المشبهة مطوية ، فلا مانع من عد ذلك من باب الاستعارة التصريحية التبعية ، ورُدّ عليه بأن تشبيه الصفات بالصفات يتعدّى إلى تشبيه الذوات بالذوات ، فلذلك كان هذا الاستعمال معدودا من التشبيه البليغ الذي تُحذف منه آلة التشبيه مع جواز ذكرها ، إذ لا مانع من أن يقال هم كالصم البكم العمي ، وإنما في التشبيه البليغ من الفائدة ما لا يوجد فيما لو ذكرت آلة التشبيه ، فإن المراد هنا الإِيغال في وصفهم بفقدان منافع حواسهم ؛ حتى اعتبروا كأن ذواتهم ذوات صم بكم عمي . وأجاز الألوسي أن يكون الضمير المنوي المسند إليه يرمز إلى ذوات هؤلاء مع استحضار ما سبق من أوصافهم ، ككونهم لا يشعرون ولا يعلمون ، فيكون ذلك دليلا على المراد بصممهم وبكمهم وعماهم ، ولا يخرج عن دائرة التشبيه البليغ . والذي يتبادر لي أن نية المسند إليه لا تمنع من عد هذه الطريقة من باب الاستعارة ؛ فإن للمشتقات أحكاما تختلف عن أحكام الجوامد ، ألا ترى أن قول القائل : " أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " معدود في الاستعارة التمثيلية باتّفاق البلغاء ، مع ذكر الضمير المنصوب العائد إلى ذات المستعار له هذا الوصف ، ومثله قول القائل : " فلان يوقد النار " والقصد إثارة الفتنة والبغضاء ، فإن ذكر اسمه صريحا لا يمنع من عد هذا الأسلوب من باب الاستعارة ، وقد عدوا قول الشاعر : @ ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة في السماء @@ من أبلغ أنواع الاستعارة مع نية ضمير الموصوف . ولا أرى فارقا بين الفعل وسائر المشتقات ، وتشبيه الصفات بالصفات لا يتعدى إلى تشبيه الذوات بالذوات ، ففي هذه الآية مثلا لم يُرد التشبيه بذوات معينة متصفة بالصمم والبكم والعمى ، وإنما الملاحظ في التشبيه نفس هذه الأحوال ولو لم توجد في الخارج . وما تقدم من صفات هؤلاء المنافقين لا يصرف هذه الصورة عن حكم الاستعارة ، وإفهامها للمراد لا يعدو أن يكون من باب القرينة المشخصة للمراد من اللفظ ، وهو مما يفتقر إليه كل مجاز ، على أنهم اتفقوا بأن ذكر المشبه في غير جملة الاستعارة لا يؤثر شيئا على حكمها ، نحو قول الشاعر : @ قامت تظللني من الشمس نفس أعز عليّ من نفسي قامت تظللني ومن عجب شمس تظللني من الشمس @@ فقد اتفقوا على أن لفظة شمس في البيت الثاني استعارة ، مع أن المراد بها منصوص عليه في البيت الذي قبله ، وإذا كان هذا مع التقارب بين الحقيقة والاستعارة ، فكيف إذا كانت بينهما آيات متعددة ، وأقرب مما في البيتين قول الآخر : @ لا تعجبوا من بلى غلالته قد زرّ أزراره على القمر @@ والصمم هو عدم السمع ممن من شأنه أن يسمع ، ولفظه دال على السداد ، فإنهم يسمون السداد صمّاما لحيلولته دون دخول ما كان خارجه إلى داخله ، ومن هذا الباب قولهم " صخرة صماء " ، فإن تلاحم ذراتها مانع من وصول الهواء أو غيره إلى داخلها ، وبما أن العروق السمعية إذا أصيبت انسدت ، فلا يصلها الأثير المتموج الناقل للأصوات ، سميت هذه الاصابة بالصمم . والبكم هو عدم النطق ممن مِن شأنه أن ينطق ، وقيل عدم النطق والفهم ، وفُرّق بينه وبين الخَرس ؛ بأن البكم ما كان بالطبع ، والخرس ما كان بحدوث آفة ، وقيل الخرس عدم النطق ، والبكم عدم النطق والسمع . والعمى هو عدم البصر ممن مِن شأنه الإِبصار ، ولذلك لا توصف به الأشجار والأحجار ، فلا يقال شجرة عمياء ، ولا صخرة عمياء ، وهكذا فيما ماثلهما . ومَن إيف بما تقدم تعذر عليه الاهتداء ، واستحالت عليه النجاة ، فإن الحواس والنطق وسائل لتسيير الانسان نفسه وتبصيرها بخيرها وشرها ، فإذا ما فقدها وهو في صحراء قاحلة بحيث لا يجد من يأخذ بيده ، فإما أن يهلكه السَّغب والظمأ ، وإما أن تفترسه السباع الكاسرة ، وليس له عن ذلك مناص . وفصل الآية بقوله { لا يرجعون } دون غيره نحو { لا يهتدون } ؛ لأن من اهتدى بعد ضلالِه ، ورَشَد بعد غيه ، هو آئب إلى الفطرة التي نشز عنها . وقد حمل بعض المفسرين هذا الوصف الشنيع في الآية على طائفة من المنافقين علم الله عدم ارعوائها ، وهم الذين قال الله فيهم : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] ، وحملها آخرون على جميعهم حال إخلادهم إلى النفاق وعدم تأثرهم بالوعظ .