Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 55-56)

Tafsir: Ǧawāhir at-tafsīr: Anwār min bayān al-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه حلقة في سلسلة عنادهم المتطاول ، وضرب من ضروب إخلادهم إلى الأباطيل في مواجهة الحق البيّن ، والحقيقة الناصعة ، فإنهم لم يكتفوا بما شاهدوه رأى العين من معجزات موسى الباهرة ، وحججه القاهرة ، التي يطمئن إليها كل ذي لب ، ويهتدي بها كل من كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد ، حتى جاهروا بهذا المطلب الذي لا يصدر إلا ممِن لم يقدروا الله حق قدره ، ولم يصفوه بما هو هل أهل من صفات الجلال والكبرياء ، وفي طي تذكيرهم بهذه الجريمة النكراء تذكير بنعمة أخرى من نعم الله المتلاحقة عليهم ، وهي تداركهم باللطف بعدما حاق بهم العقاب الأليم اللائق بسوء ما ارتكبوه ، ومحط هذا الامتنان قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم } . وتعدية نؤمن باللام لتضمنه معنى نقر ، والمراد بعدم إيمانهم له عدم إيمانهم بما أنزل عليه من الكتاب ، أو بأنه رسول من الله ، أو بأن الله كلمه تكليما . والجهرة هنا بمعنى العلانية كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وأخرج عن الربيع وقتادة أنه بمعنى العيان ، والمؤدى واحد ، وإنما أوثرت كلمة " جهرة " على غيرها مما يؤدي مؤداها لتلاؤمها مع ما سبقها ولحقها في النظم ، بجانب ما توحيه من وصف التعنت الذي كانوا عليه ، وأصلها بمعنى الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة . وانتصابها على المصدرية التأكيدية ، فهي تجتث توهم أن تكون الرؤية المطلوبة منامية أو قلبية ، وهذا أولى من دعوى أن النصب على الحالية بمعنى جاهرين بالرؤية ، أو تقدير محذوف ، أي ذوي جهرة . واختلف في أصحاب هذه المقالة ؛ فقيل : هم السبعون الذين اختارهم لميقات ربه ، وقيل كانوا عشرة آلاف من بني اسرائيل ، والأول أصح لقوله تعالى : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } [ الأعراف : 155 ] . واختلف في هذا الميقات ؛ قيل : إنه الميقات الذي كان بعد تنجيتهم من فرعون وآله الذي وعد الله موسى أن ينزل عليه الكتاب فيه ، وقيل : هو ميقات آخر واعد الله فيه موسى ليجيئه بسبعين رجلا من بني إسرائيل يعتذرون إليه مما وقعوا فيه من عبادة العجل ، ومهما يكن فإن الظاهر أن هؤلاء كانوا من أفضل بني إسرائيل حسب ظاهر حالهم ، فلذلك اختيروا لما اختيروا له من الشهادة لموسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه ، أو للوفود على الله للاعتذار إليه ، ومع ذلك قالوا ما قالوا من كلمة الكفر إذ علقوا إيمانهم لموسى على ما يستحيل على الله ، وحسبكم ذلك دليلا على شر طباعهم وتعفن أفكارهم وبعد ضلالهم ، بأن المراد بنظرهم نظرهم إلى أحوالهم ، وما بقى في أجسامهم من أثر ولكن الحق تعالى لم يمهلهم في هذه المرة ، بل صب عليهم سوط عذابه ، وأذاقهم وبال ما ارتكبوه ، إذ أخذتهم الصاعقة وهم ينظرون . وقد قال جماعة من أهل التفسير وغيرهم إن الذي أطمعهم في رؤية الله سماعهم كلامه ، فقاسوا الرؤية على السماع ، وأكثر المفسرين على أن السماع كان خاصا بموسى وحده ، وهو الذي يؤذن به قوله تعالى : { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] ، وكأني بأصحاب القول الأول يستدلون لقولهم بما جاء في سفر التثنية من التوراة مما يقتضي ثبوت السماع لهم ، وقد علمتم أن نصوص التوراة لم تعد مما يعول عليه في اثبات شيء أو نفيه لما خالطها من تحريف المحرفين وأضاليل الدجالين ، فغشيها من اللبس ما غشيها . والصاعقة هي صوت مرجف ، وقيل : نار محرقة ، وقيل : صوت مع نار ، وقيل : هي الموت ، وقيل : صوت جند الله لم يطيقوا سماعة ، والصحيح الأول لقوله تعالى : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ } [ الأعراف : 155 ] . وأخذها إياهم استيلاؤها عليهم وإحاطتها بهم . وجملة { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } حالية ، وهي دالة على أن الصاعقة نزلت بهم وقد كانوا واعين بهولها محسين بشدتها حتى أهلكتهم ، ولا داعي إلى التأويلات البعيدة التي حاولها المفسرون لتبيان مفهوم هذه الجملة ، كقول القرطبي بأن المراد بنظرهم تقابلهم في حال الموت كما تقول العرب دور آل فلان تراءى ، أي يقابل بعضها بعضا ؛ وقول غيره الصعق بعد البعث ؛ وقول الآخرين بأنهم كانوا ينظر بعضهم إلى بعض عندما بعثهم الله بالإِحياء مرة أخرى ، فإن في ذلك من التكلف ما لا يخفى على متأمل . وفي التأويلين الأخيرين خروج بجملة { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } عن الحالية ، لأن نظرهم إلى آثار الصاعقة وإلى سريان الحياة في أجسادهم غير مقترن بنزول الصاعقة بهم ، كيف وقد قيل إنهم ماتوا يوما وليلة ، وقيل : يومين ؟ وهذا كله مبني على أنها كانت ميتة حقيقية ، وهو الذي يؤيده قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البقرة : 56 ] . وعليه فيكون هؤلاء من الذين ماتوا وأحيوا بعد الموت في الدار الدنيا { كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } [ البقرة : 259 ] ، وكالذين أخبر الله عنهم بقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } [ البقرة : 243 ] ، ويدخل ذلك في مقدورات الله الخارجة عن السنن المعهودة ، وبهذا تعلمون أنه لا داعي إلى السؤال والجواب اللذين أوردهما الإِمام ابن عاشور في قوله : " فإن قلت ان الموت يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق ؟ قلت الموت هو وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية ، فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة إلا في يوم إعادة الخلق ، وهو المعني بقوله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [ الدخان : 56 ] ، واذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك الحالة ، لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزال الموانع العارضة ، وقد صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت ، ويعالجون القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته ، والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد ، وقد يطول زمن هذا الموت في العادة ساعات قليلة ، ولكن هذا الحادث كان خارق عادة ، فيمكن أن يكون موتهم قد طال يوما وليلة كما روي في بعض الأخبار ، ويمكن دون ذلك " . ولعل العلامة ابن عاشور لم يستحضر عندما كتب الذي كتبه هنا آيتي 243 ، 259 من هذه السورة اللتين سبق ذكرهما ، وأن من معجزات عيسى إحياء الموتى ، كما نُص عليه في سورتي آل عمران والمائدة . وذهبت طائفة إلى أن ميتتهم هذه لم تكن ميتة حقيقية ، بل كانت ميتة همود وسكون ، ثم أُرسلوا ، وذلك على حد قوله تعالى : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] . وذكر هذه القصة وارد مورد الإِمتنان عليهم كسائر هذه القصص المتتابعة مع ما فيها من النداء عليهم بسفاهة الأحلام ، وضلال العقول ، وفساد الفطرة ، ومحط الامتنان قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .