Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 7-7)

Tafsir: Ǧawāhir at-tafsīr: Anwār min bayān al-tanzīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

تمكن الضلال من نفوس الكافرين : حال هؤلاء الذين كفروا تدعو إلى الاستغراب وتبعث الحيرة في نفوس السامعين ، ما بالهم لا يؤمنون ، وقد توفرت دواعي الايمان ، فهو سبب سلامة الدنيا وسعادة العقبى ، وقد برزت معالمه ووضحت مسالكه ، وتبرأ من كل أسباب الشك ودواعي اللبس ، ليس فيه ما لا تستسيغه العقول المبصرة وتميل إليه الطبائع السليمة ، فإذا طرق مسامع الناس ما تقدم في الآية السابقة من استواء الانذار وعدمه عليهم ، حاروا من ذلك ولم يدركوا السبب الذي أدى بهم إلى هذه الحالة ، حيث استولى الضلال على عقولهم وهيمن العناد على نفوسهم ، فلذلك عقبت تلك الآية بهذه ليكون ما فيها كالتعليل لما تقدم ، فهي مع تقريرها لسابقتها كاشفة عن علة ما فيها ، ولا ينافي ذلك ما قيل إن جملة ختم الله على قلوبهم استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون . ومن ناحية أخرى هي مقابلة لجملة { أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } ، فتلك مشعرة بتمكن المؤمنين من الهدى والثناء عليهم بارتقائهم في درجاته ، وهذه مشعرة بتمكن الضلال من نفوس الكافرين وإحاطته بها حتى لم يعد للحق سبيل إليها ، كما أنها مشعرة بذمهم على انحطاطهم في دركات الضلال . والختم والكتم أخوان ، كما قال الزمخشري ، لأن تقاربهما اللفظي يشعر بالتقائهما في المعنى ، وحقيقته في المحسوسات كالختم على الاناء بمعنى سده ، والختم على الكتاب بوضع علامة - مرسومة في خاتم - عليه ليمنع ذلك من فتحه . واختُلِف في المراد بالختم هنا : فذهبت طائفة من مفسري السلف إلى أن الخَتم واقع حقيقة على القلوب ، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن الأعمش ، قال : أرانا مجاهد بيده فقال كانوا يرون أن القلب في مثل هذا - يعني الكف - فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه - وقال بإصبعه الخنصر هكذا - فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى ، فإذا أذنب ضم - وقال بإصبع أخرى - هكذا حتى ضَمَّ أصابعه كلها ، قال : ثم يطبع عليه بطابع . قال مجاهد : وكانوا يرون أن ذلك الرَّيْن . واختار هذا القول ابن جرير والقرطبي ، وعضداه بما رواه الترمذي - وصححه - والنسائي وابن ماجة وابن جرير نفسه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المذنب إذا أذنب ذنبا كان نَكتَة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى يُغلف قلبه وذلك الران الذي قال الله جل ثناؤه : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] " . ووجه الاستدلال بالحديث أنه يفيد أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلفتها ، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع ، فلا يكون للايمان إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص . وعضده القرطبي أيضا بما رواه مسلم عن حذيفة - رضي الله عنه - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا " أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن ، وعلموا من السنة " ، ثم حدثنا عن رفع الأمانة ، قال : " ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْتِ ، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْلِ كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه مُنْتَبِرا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلا أمينا ، حتى يقال للرجل ما أجلده ما أظرفه ما أعقله ، وما في قلبه مثال حبة من خردل من إيمان ، ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيَّكُم بايعت لئن كان مسلما ليردنه علي دينه ، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه ، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا " . وعضده كذلك بحديث حذيفة عند البخاري ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أُشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مُرْبادِّ كالكوز مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه … " " الحديث " . وذهب أكثر مفسري الخلف إلى أن ذلك من باب المجاز ، فإن عدم وعي القلوب للحق ونبوَّها عن قبوله جعلها كأنها مختوم عليها بسداد يحول بينها وبين وصول الحق إليها ، ويقال مثال ذلك في ختم الأسماع ، ومثله في تغشية الأبصار ، وإيضاح ذلك ، أن يصور رفض عقولهم لما أنزل الله من هدى - بسبب كفرهم بالله الذي ملأ تفكيرهم وسيطر على نفوسهم ومج أسماعهم لأصوات الحق - في صورة الاستيثاق بالختم ، ويصور إعراضهم عن النظر في آيات الله الدالة على وحدانيته ، في صورة تغشية الأبصار بغشاوة حائلة بينها وبين الإِبصار ، فيكون المجاز استعاريا ويصح أن يكون من باب المجاز التمثيلي ، بأن تشبه هيئة منتزعة من تصميمهم على الكفر ، وإعراضهم عن داعي الحق الصادع بقواطع البراهين ، بهيئة الختم المنتزعة من فعله وفاعله ، وهو الخاتم ، والواقع عليه الفعل ، وهو المختوم عليه ، وتشبه حالة أبصارهم في عدم تأمل دلائل وحدانية الله وصدق رسوله بهيئة الغشاوة ، ويجوز أيضا أن يكون من باب المجاز الارسالي ، فإن لازم الختم والغشاوة عدم العقل والحس ، فيراد هذا اللازم بذكر ملزومه وأنكر أصحاب هذا القول على أصحاب القول الأول ووصفوهم بالظاهرية ، وقد ظهر لي بعد إمعان النظر في القولين أن الثاني هو الراجح ، فإن اقتران القلوب بالأسماع ، واشتراكهما في الختم ، وذكر غشاوة الأبصار من بعد ، قرائن كافية لصرف لفظ الختم عن حقيقته إلى مجازه ، فإن الأسماع يتعذر أن يكون ختمها حقيقيا ، فإذا حمل ختم القلوب على الحقيقة ، كان ذلك من باب حمل اللفظ على حقيقته ومجازه في إطلاق واحد ، وذلك ما لا يصح ، على أن ختم الأسماع لو كان حقيقيا ما وصل إلى مسامعهم صوت ، وكذلك يتعذر حمل الغشاوة التي في الإبصار على معناها الحقيقي ، إذ لا غشاوة حسية تشاهد ، ولو أن عليها غشاوة حسية لامتنع عليها الابصار رأسا ، وذلك لا ينافي أن تتأثر القلوب تأثرا محسوسا بمعصية الله ، كما يقيده ظاهر حديث أبي هريرة ، وحديثي حذيفة - رضي الله عنهما - على انني أميل إلى أن المراد من هذه الأحاديث تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم ، ما يعرو القلوب بسبب المعصية من الانقباض عن الحق ، واستثقاله والانبساط للباطل ، والارتياح له ، في صورة الأمر المحسوس تيسيرا للأفهام ، وتقريبا للأذهان ، كما هو شأنه صلى الله عليه وسلم في غالب كلامه . والغشاوة ما يغشى العين من موانع الابصار ، كما قال الشاعر : @ صحبتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها @@ وأصلها بمعنى الغطاء ، وإنما قصرت الغشاوة على الأبصار ، وألحقت الأسماع بالقلوب في الختم ليتفق ما في هذه الآية مع ما في قوله تعالى : { وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] ، ولأن الغشاوة أنسب بالأبصار ، والختم بالقلوب والأسماع ، لأن الختم من شأنه أن يكون على المستور المكنون ، وهكذا موضع حس السمع ، وموضع إدراك العقل ، أما حاسة البصر فهي منكشفة ظاهرة ، فلذلك كانت الغشاوة هي المناسبة لها . هذا ، وما أصاب هؤلاء من الختم على قلوبهم ، وعلى أسماعهم ، وغشاوة أبصارهم ، ليس إلا نتيجة إصرارهم على الكفر ، وإخلادهم إلى الضلال ، كما يدل عليه قوله سبحانه : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [ المنافقون : 3 ] . وهذا لأن الاسترسال في العصيان ، والاستسلام لمطالب الشيطان ، يؤديان إلى الهبوط في دركات المعاصي ، وحضيض الضلال ، حتى يحرم صاحب ذلك من عناية الله التي تفك عنه أغلال الغواية ، وتخلصه من حبائل الهوى . ومهما يكن المراد بالختم في الآية ، فإن إسناده إلى الله حقيقي ، لأن القلوب كسائر مخلوقاته واقعة في قبضته ، يصرفها كما يشاء ، وما الهداية إلا محض فضل منه ، كما أن الخذلان ليس هو إلا عدلا منه سبحانه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . الافراط والتفريط في نسبة الأفعال : وبهذا تعلم أن معصية العبد لربه لها صلة بقدرة الله وإرادته ، فهو سبحانه الخالق لها عندما تتجه إرادة العبد إلى اكتسابها ، ومثل ذلك يقال في طاعته ، وهذه مسألة اضطربت فيها الأفهام ، وكثر فيها الجدل منذ القرن الأول الهجري ، وقد ضلت فيها طائفتان ؛ طائفة تطاولت على الله عز وجل ، فادعت اشتراكها معه في الايجاد ، ويُمثّل هذه الطائفة المعتزلة ، أصحاب واصل بن عطاء ، الذين نفوا تعلق قدرة الله وإرادته بأفعال العبد ، وزعموا أن العبد يستقل استقلالا تاما بخلق أفعاله . وطائفة ما قدرت الله حق قدره ، إذ نسبت إليه معاصي العباد ، وزعمت أن العبد ليست له إرادة فيما يفعل ، وإنما هو مصرف في ذلك تصريفا إجباريا كالخيط في الهواء الذي تحركه الرياح ، ويمثل هذه الطائفة الجبرية ، أصحاب جهم ابن صفوان ، وإذا كانت الطائفة الأولى فرّطت في نسبة القدر والمقدور إلى الله حتى سلبته تعالى الارادة والقدرة في أفعال العباد ، فإن هذه الطائفة أفرطت في نسبة ما يصدر من العبد إليه عز وجل ، حتى زعمت أنه يجبر العباد على المعاصي التي يرتكبونها ثم يعاقبهم عليها ، وليس قولهم هذا إلا صريحا في نسبة الظلم إليه تعالى ، والقضية مزلة للأقدام ، ومزلقة للأفهام ، فيجب على من رام الهدى والسلامة أن يتبصر فيها ، ولا ينسب إلى الله ما هو برريء منه ، ولا يسلبه ما هو حقيق به ، والقول الفصل الذي هدى الله إليه أهل البصائر فاعتقدوه دينا ، هو أن الفعل تتعلق به قدرتان وإرادتان ؛ قدرة العبد وإرادته ، وهما متعلقتان بكسبه ولا تستقلان بإيجاده ، وقدرة الله وإرادته وهما اللتان تهيئان أسباب الكسب للعبد ، وتخلقان له الفعل عندما يريد اكتسابه ، سواء كان حقا أو باطلا ، من غير إكراه للعبد عليه ، وبهذا ندرك أن الله لا يعصى مكرها ، ولا يؤاخذ العباد بما لم يجعل لهم محيصا عنه ، ولا مخلصا منه ، وبهذا يجمع بين الآيات التي قد يحسبها الغبي متناقضة بسبب قلة تدبره وسوء فهمه ، فكل ما دل على نسبة أفعال العباد إلى الله ، فهو يعني به خلق هذه الأفعال ، وكل ما دل على إسناده إلى العباد فيقصد به الكسب دون الخلق ، وثواب الله وعقابه متعلقهما كسب العباد ، كما قال عز من قائل : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [ البقرة : 286 ] ، وقد علم الله تعالى في الأزل ما سيختاره كل أحد من أعمال الخير والشر ، فكان قدره تعالى في ذلك بحسب ما سبق من علمه ، وقد أمر سبحانه بالخير ، ونهى عن الشر ، وأثنى على من عمل خيرا ، وذم من عمل سوءا ، وذلك لأنه سبحانه وهب الجميع القدرة على الأمرين ، فكان الثناء والذم على اختيار الناس بأنفسهم ، ولا شك أنها مسألة دقيقة ، ولذلك كان جل الذين بحثوها لم يرووا ببحثهم غليلا ، ولم يشفوا علة ، بل كثيرا ما أدت بحوثهم إلى التعقيد ، وقد تردد بعض العلماء بين المذهبين ، مذهب الجبر ومذهب القدر ، ولم يستقر رأيه على أحدهما ، ومن هؤلاء الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب ، فبعد أن أتى بأدلة الطائفتين صرح أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله ، وعلو كبريائه ، وإنما وقع نظر فريق منهم على العظمة ، ونظر فريق آخر إلى الحكمة ، وروي مثل هذا القول عن أبي القاسم الأنصاري ، ولم ير الفخر القطع بما تفيده الأدلة السمعية في المسألة بناء على أصله أن الدلالة السمعية لا تتجاوز الظن إلى القطع ، ولم ير كذلك القطع بمفاد الأدلة العقلية ، نظرا إلى ما توهمه من التعارض بينها ، والأدلة إذا تعارضت تساقطت . وبما أن المعتزلة ومن حذا حذوهم يفرون من نسبة إيجاد أفعال العباد إلى الله ، هاموا في مثل هذه الآية وسلكوا طرائق قددا في تأويلها ، كما ترى ذلك في الكشاف وغيره مما دبّجته أقلامهم ، فقالوا تارة إن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله حتى صارت المعصية مألوفة لهم ، كانوا كأنما طبعوا عليها ، فأشبهت حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه ، فلذلك أضيف إلى الله تعالى ما حلّ بهم ، لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ، وتارة قالوا إن الشيطان هو الخاتم في الحقيقة ، أو الكافر نفسه ، وإنما إسناد ذلك إلى الله لأن إقدار الشيطان والكافر منه عز وجل ، وقالوا تارة أخرى إنه لما اتفق أن يكون كفرهم عند ورود دلائل الله عليهم ، كان ورود هذه الدلائل كالسبب لما حصل منهم من الكفر ، فلذلك أسند إليه تعالى الختم المذكور ، وذلك على غرار قوله سبحانه : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، ومرة قالوا إن القوم لما بلغوا من الكفر مبلغا لا يمكن معه إيمانهم إلا بالقسر والالجاء من الله ، ولما لم يفعل ذلك بهم ناسب ذلك إسناد الختم إليه عز وجل ، إلى غير ذلك من التأويلات المتشابهة في التكلف والهروب من الحقيقة ، ولعمري لو أنصفوا لرأوا الحق جليا ، ولما أدى بهم اللجاج إلى الهروب من الواضح إلى المشكل ، ومن الحقيقة إلى الوهم ، ومن الصواب إلى الخطأ ، ولسنا نشك في كونهم أرادوا تنزيه الله تعالى من نسبة المعاصي إليه ، ولكنهم وقعوا فيما هو أعظم منها ، وهو نسبة العجز إليه سبحانه ، إذ لو كانت المعصية الصادرة من العبد وقعت على كره منه تعالى ، لما كان لذلك تفسير ، إلا أنه تعالى يحدث في ملكه ما ليس من مقدوره ضده ، وبالجملة فإن علينا أن نتقيد في ذلك بدلائل النص ، وأن لا نطلق لأنفسنا عنان الفكر الشارد الذي كثيرا ما يهوي بصاحبه في مهاوي الأوهام ، وللعقل البشري حدود مرسومة ، لو حاول تجاوزها تردى في المخاطر والعياذ بالله ، وهذه المسألة ترتبط بقاعدتين اعتزاليتين ؛ أولاهما : تحكيم العقل ، فإن المعتزلة يبنون معتقداتهم وسائر آرائهم على العقل ، ويرون الشرع لا يكون إلا مؤكدا للعقل أو مبينا له ، وإذا تصادما وجب الاستمساك بالعقل لأنه الأصل . ثانيتهما : وجوب مراعاة الأصلحية والصلاحية على الله ، ومن تأمل هذه الأصول الثلاثة التي هي أمهات الاعتزال ، رآها لا ينفك بعضها عن بعض ، فالقول بنفي خلق الأفعال عن الله فيه التفات إلى كل واحد من الأصلين الآخرين ، فهو من ناحية ناشئ عن كون العقل يستقبح أن يخلق الله للعبد ما يعذبه به ، وبما أن ذلك مستقبح عقلا فهو غير سائغ فعلا . ومن ناحية أخرى فإن ذلك يتنافى مع ما يتبادر من مصلحة العباد ، ويجب على الله - في زعمهم - أن لا يفعل إلا ما فيه مصلحتهم ، وسيأتي إن شاء الله بحث كل واحد من هذه الأصول بما فيه مقنع لمن وفقه الله للهدى . وبالجملة فإن إسناد الختم إلى الله حقيقي ولا داعي إلى تكلف الاجابات المتنوعة التي جاء بها الزمخشري ، إذ لا يصار إلى المجاز إلا مع تعذر الحقيقة ، والشواهد قائمة - بحمد الله - على أن الحقيقة هنا مقصودة . والمراد بالقلب هنا العقل ، فإن العرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية المعروفة في الجسم بهذا الاسم ، وتطلقه على العقل والادراك ، ومن هذا الاطلاق قوله عز وجل : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ ق : 37 ] . وهذا الاطلاق ناشئ عما بين العقل والقلب من الترابط ، فإن العقل وإن كان سلطانه في الدماغ أو هو نفسه في الدماغ ، كما يرى المتأخرون ، فإن للقلب تأثيرا عليه لأنه مصدر الانفعالات ، ومنبع العواطف ومحل الوجدان باتفاق الجميع ، ولكل ذلك تأثير على العقل ولا يبعد أن يكون للقلب أثر في تكوين الفكر في الدماغ . وسمي بهذا الاسم لما يطرأ عليه من التقلب ، وهو ما يشير إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " ، وما هو إلا كناية عن تصريف الله تعالى له بحكمته ولطفه . ومن ثم قال الشاعر : @ ما سمي القلب إلا من تقلبه فاحذر على القلب من قلب وتحويل @@ والسمع : مصدر سمع ، ويطلق على القوة المدركة للأصوات المودعة في الجارحة ، ويطلق على نفس الجارحة وهي الأذن . والبصر : هو القوة المدركة للصور ، ويطلق على الجارحة التي يحل فيها ، كما يطلق على الابصار فيكون اسم مصدر . واختلف في إفراد السمع مع جمع القلوب والأبصار ، فقيل : هو لأجل لمح أصله وهو المصدر ، فإن من شأن المصادر أن لا تثنى ولا تجمع ، ومن ثم جمع عندما أبدل لفظه بالأذن كما في قوله تعالى : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } [ البقرة : 19 ] ، وقوله : { وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } [ الأنعام : 25 ] ، أما القلوب فهي متعددة . والأبصار جمع بصر ، وهو اسم وليس بمصدر ، وقيل هو على تقدير محذوف نحو وعلى حواس سمعهم أو على جوارح سمعهم ، وهذا ضعيف ، فإن التقدير لا يصار إليه إلا مع الضرورة ، والمعنى هنا تام بدون مقدر . وقيل إن في إفراد السمع لطيفة من لطائف التعبير القرآني ، وهي جديرة بأن تعد من مزاياه التي لا يرقى إليها سائر الكلام ، فإن السمع مصدر من مصادر العلم والناس متساوون فيه ، فإن تلقي المعلومات السمعية لا يختلف فيه سامع عن سامع ، فهو بمثابة الينبوع الواحد المتدفق بما يعم جميع الواردين . أما القلوب فهي تتفاوت في استقبالها المعلومات بتفاوت استعدادها واشتغالها بما تتلقاه ، وبتفاوت ما يلمح لها من الأدلة والبراهين ، واختلاف ما يرد عليها من الأفكار ، قلة وكثرة ، وكذلك الأبصار متفاوتة في مشاهدة المبصرات التي توحي إلى النفس أنواعا من العلوم ، فلكل بصر حظه من النظر في آيات الله في الأنفس وفي الآفاق الشاهدة بوحدانيته ، واتصافه بكل كمال ذاتي والدالة على صدق رسله فيما يدعون إليه الناس ، ولذا كان الأنسب بالقلوب والأبصار الجمع ، وبالسمع الإِفراد ، وأجيز بأن يكون الإِفراد هنا لأمْنِ اللبس ، كما في قول الشاعر : @ كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خمص @@ وقول الآخر : @ كأنه وجه تركيين قد غضبا مستهدف لطعان غير تذبيب @@ وهو شائع في الشعر العربي ، ولكني لا أرى تخريج ما في القرآن عليه لسمو القرآن عن درجات الشعر . وإذا كان النثر البليغ يستعصي أحيانا تخريجه على ما يباح في الأشعار ، فما بالك بكلام الله تعالى الذي لا يعدل فيه عن لفظة إلى أخرى إلا وفي طي هذا العدول معنى بليغ يشار به إليه . وبعد أن بين سبحانه حال هؤلاء ، في الدار الدنيا بأنهم لا يهتدون سبيلا ولا يسمعون للحق قيلا ، لما على قلوبهم وسمعهم من الختم ، وعلى أبصارهم من الغشاوة ، أتبعه ببيان مآلهم في الدار الآخرة ، بما يوعدهم به من العذاب العظيم ، هذا إن قلنا إن العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة ، وهو المتبادر ، وأجاز بعض المفسرين أن يقصد به إما عذاب النار في الآخرة ، وإما عذاب القتل والسغب في الدنيا . والعذاب كالنكال لفظا ومعنى مأخوذ من أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ، كما يقال فيه نكل عنه . أو من قولهم عذب الرجل إذا ترك المأكل والنوم ، فهو عاذب وعذوب ، وبناء على ذلك فالتعذيب أصله حمل الانسان على أن يعذب أي يجوع ويسهر . وقيل : هو مأخوذ من العذب والعذوبة ، وعليه فمعنى التعذيب إزالة عذوبة حياة المعذب ، كما يقال مَرَّضْته أي أزلت مرضه ، وقَذَّيْته أي أزلت قذاه . وقيل : أصل التعذيب إكثار الضرب بعذبة السوط ، أي طرفه ، وبناء على ما تقدم فالعذاب رديف النكال ويراد بهما العقاب . وقيل : إن العذاب أعم منهما ، فهو يشمل ما يلم بالنفس أو الجسم من الألم سواء كان رادعا عن العصيان أم غير رادع . أما النكال والعقاب ، فلا يكادان يطلقان إلا على ما يردع . والعظيم قيل هو كالكبير ، وقيل فوقه لأنه يقابله الحقير ، ويقابل الكبير الصغير ، والحقير أدنى من الصغير ، فيلزم أن يكون العظيم أعلى من الكبير . واستشكل ذلك مع قوله تعالى في الحديث القدسي : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " حيث جعل تعالى الكبرياء في مقام الرداء والعظمة في مقام الازار ، مع أن الرداء أرفع من الازار ، ويترتب عليه كون الكبرياء أرفع من العظمة ، ويندرىء هذا الاشكال باعتبار أن المراد من هذا الحديث القدسي بيان اختصاص الله تعالى بالكبرياء والعظمة ، كاختصاص أحدنا بردائه وإزاره ، وليس المراد منه بيان التفاضل بين الصفتين ، ولو قلنا بالتفاضل لاعتبرنا ما كان في محل الازار أكثر اختصاصا لأن ملابسة الازار لصاحبه أكثر من ملابسة الرداء عادة ، ويغنيك هذا الجواب عما ساقه الألوسي من الأجوبة كقوله بأن ما ذكر خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى ، أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس ، أو أنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان إذا ما قيسوا إلى عارفيه بعنوان الكبرياء : فلقلة أولئك كانت إزارا ، ولكثرة هؤلاء كانت رداء ، ولا يخلو جواب مما ذكره من التكلف والتعسف الظاهرين ، ولا يستند شيء منها إلى دليل عقلي أو نقلي . والعظمة تكون حسية ، وذلك إذا وصفت بها الأجسام ، ومعنوية إذا وصفت بها الأسماء الدالة على المعاني . وتنكير عذاب للدلالة على أنه نوع غريب من أنواع جنسه ، وذهب بعضهم إلى أن التنكير للتعظيم ، وما وليه من وصفه بأنه عظيم إنما هو لتأكيد هذا التعظيم المستفاد من التنكير ، ورده الامام ابن عاشور بأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية والدلائل غير الوضعية يستغنى عنها مع وجود ما يدل على المراد وضعا .