Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 9-9)
Tafsir: Ǧawāhir at-tafsīr: Anwār min bayān al-tanzīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جملة يخادعون مبدلة من جملة يقول آمنا بالله … الخ ، لأنهم ما قصدوا بهذا القول إلا الخداع ، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا أو حالا من فاعل يقول . ويخادعون من خادع الدال على الاشتراك في الخدع ، وهو أن يوهم أحد غيره بقوله أو فعله عكس ما يريده به من المكروه ، من خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يريد الخروج من الجهة التي أدخل الحارش فيها يده ، ثم يخرج من جهة أخرى لئلا يرقبه الحارش فيصطاده . والاشتراك هنا شكل من وجهين : أولهما : أنه إذا أمكن للمنافقين أن يخدعوا المؤمنين بإظهارهم جميل القول وحسن المعاملة وإعلانهم الايمان ، فلا يمكنهم بحال أن يخدعوا قيوم السماوات والأرض ، العليم بما تنطوي عليه حنايا الضمائر ، وما تكتنفه أعماق النفوس . ثانيهما : إذا كان الخدع من ديدن المنافقين فليس هو من شأن المؤمنين ، لأنه صفة مذمومة ، اللهم إلا ما استثنى من خدع العدو في الحرب لأجل إحراز النصر . وقد يحمد من المؤمن التغاضي والصفح اللذان قد يتوهم أنهما ناشئان عن البله ، كما جاء في الحديث " المؤمن غر كريم " وهو معنى قول الفرزدق : @ استمطروا من قريش كل منخدع إن الكريم إذا خادعته انخدعا @@ وقول ذي الرمة : @ تلك الفتاة التي علقتها عرضا إن الحليم وذا الاسلام يختلب @@ فلا عجب إن كانوا مخدوعين بظواهر أعمال المنافقين ؛ لأن من شأنهم إحسان الظن وغض الطرف عن الهفوات ، مع توقد فطنهم ونفاذ بصائرهم ، غير أنه لا يحمد بحال أن يكون شأنهم شأن المنافقين في إظهار غير ما يبطنون وإعلان خلاف ما يسرون . وإذا كان صدور الخدع من المؤمنين ممتنعا فأحرى أن يمتنع من عالم الغيب والشهادة الذي هو على كل شيء قدير . ومن الظاهر بداهة أن الخداع لا يكون إلا لضعف الخادع وقوة المخدوع ، وإذا كان هذا في البشر فكيف يمكن صدور مثله ممن لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأجيب عن الأول بوجوه : أولها : أن الخداع قد يصدر من أحد لغيره فيصادف غير مقصوده ، كمن يخدع عامل الحاكم أو وكيله فينبه بأن صنيعه هذا يتجه إلى الحاكم ، وهكذا شأن المنافقين ، فهم قصدوا بخداعهم المؤمنين الذين صُنِعوا على عين الله وأحيطوا بكلاءته وشُمِلوا برعايته ، فنبه أولئك المنافقون المخادعون بأن خداعهم للمؤمنين هو في حقيقته خداع لله سبحانه ، إذ هو الكفيل بنصر عباده ودفع المكاره والأذى عنهم . ثانيها : أن صورة صنيعهم مع الله سبحانه صورة صنيع المخادع ، فهم يظهرون الايمان ويبطنون خلافه ، ويدعون الانخراط في سلك المؤمنين وهم أكثر ما يكونون بعدا عنهم وكيدا لهم ، على أنه لا يبعد أن يكون هذا التعبير بالنظر إلى معتقداتهم الفاسدة ونواياهم السيئة في حق الله تعالى ، فإن كثيرا منهم كانوا من اليهود ، واليهود لا يتورعون عن مثل هذا الاعتقاد ، كيف وهم الذين حكى الله عنهم قولهم : { إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] وقولهم : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [ المائدة : 64 ] . وما بأيديهم من نسخ التوراة المحرفة شاهد على أنهم أضل الناس اعتقادا في الله ، وأبعدهم عن أن يقدروه حق قدره ، تعالى الله عما يقولون وعما يعتقدون علوا كبيرا ، ومن كانت هذه عقيدته فليس ببعيد أن يعتقد أنه يخدع الله سبحانه فضلا عن اعتقاده مخادعة المؤمنين . ثالثها : أن المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر اسم الله عز وجل بدلا من اسمه تشريفا له وإعلاء لقدره وإعلاما أنه محفوف بعصمة الله ومحاط بعنايته ، فلا يخلص إليه شيء من كيد الكائدين ، وذلك كما أخبر تعالى أن مبايعته صلى الله عليه وسلم هي مبايعة لله وذلك في قوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ } [ الفتح : 10 ] . وهذا الوجه مع ما فيه من التنويه بقدره صلى الله عليه وسلم غير خال من الضعف ، فإن إطلاق اسم الله مع قصد رسوله لا يصح إلا بقرينة كما في آية المبايعة . وأجيب عن الثاني بوجوه أيضا : أولها : أن وزن فاعل لا يستلزم المشاركة دائما ، فقد يأتي خاليا من معناها ، نحو عالج المريض ، وناهز الاحتلام ، فإن الفعل فيها جميعا صادر من جهة واحدة ، فلا يبعد أن يأتي خادع بمعنى خدع ، وكثيرا ما يكون ذلك لقصد المبالغة ، ومن المعلوم أن المنافقين كانوا يجهدون أنفسهم في خدع المؤمنين وابتكار الحيل والأساليب المؤدية لهذا الغرض ، فكان فعلهم كأنما يصدر من أكثر من جهة ، وتؤيد هذا التأويل قراءة يخدعون الله وهو إنما يدفع هذا الاشكال دون الذي قبله . ثانيها : أن المؤمنين أمروا من قبل الله بالاغضاء عن بوادر المنافقين وفلتات ألسنتهم وهفوات أفعالهم وكبوات تصرفاتهم التي يستشف من ورائها النفاق ، كما أمروا أن يعاملوهم معاملة أنفسهم ، فكان ذلك مما يجرئهم على الاسترسال في غيهم والانهماك في فسادهم ، متخيلين أنهم قد أحرزوا أنفسهم من الخطر ووقوها المخاوف بهذا الصنيع ، فكان هذا الأمر منه تعالى شبيها بخدعهم ، لأن من ورائه ما ينتظرهم من العقاب الأليم والعذاب العظيم ، فجاز أن يستعار لهذه المعاملة اسم الخداع ، ولما كان صدور ذلك من المؤمنين بإذن منه تعالى ، صح إسناد ذلك إليه وإليهم ، ونحوه في إسناد الخدع إلى الله في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] . ثالثها : حمل هذا التعبير على الاستعارة التمثيلية ، تشبيها لما يحصل - من إملاء الله لهم والابقاء عليهم ومعاملة المؤمنين إياهم معاملة أنفسهم في إجراء أحكام الاسلام عليهم - بفعل من يخدع غيره بمختلف الأساليب في المعاملة ، كما تشبه بذلك أيضا حالتهم في معاملتهم للمؤمنين ولدين الله ، ثم بيّن سبحانه ما يؤول إليه خداعهم بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } ، حيث نفى سبحانه أن تكون مغبة هذا الخداع واقعة إلا عليهم ، لأنهم الذين يجنون ثمرتها المرة ، ويكابدون غصصها المؤلمة ، وقد يتبادر للسامع أو القارئ وجود تناقض بين ما في صدر الكلام وعجزه ، حيث أثبت تعالى أولا أنهم يخادعون الله والذين آمنوا ، ثم نفى ما أثبته ضمن قوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم } . والجواب أن المنفي غير المثبت ، فما عبر عنه بالخداع أولا هو تلك الأقوال والأعمال التي كانوا يبدونها مع انطوائهم على نقائضها ، ثم أطلق اسم الخداع على لازم معاملتهم ، وهو الضر الماحق والعاقبة الوخيمة ، وذلك واقع بهم دون غيرهم كما علمت ، وهذا من باب المجاز على المجاز ، لأن المخادعة استعيرت أولا لما استعيرت له من معاملتهم للمؤمنين ودين الله ، ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم ذلك المعنى الذي استعيرت له . وهذه الجملة حال من فاعل { يخادعون } في الجملة التي قبلها ، وفيها قراءتان مشهورتان : الأولى : { وما يخدعون } وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ، من السبعة ، كما قرأ بها أبو جعفر ويعقوب ، من سائر العشرة . والثانية : { وما يخادعون } بزيادة ألف المفاعلة ، وبها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ، من السبعة ، وخلف من بقية العشرة . وثم قراءات أخرى من الشواذ غير المعوّل عليها ، ولا إشكال في القراءة الأولى ، وإنما الاشكال في الثانية لاقتضائها في المشاركة التي لا تصدر إلا عن جهتين فصاعدا ، مع أن الجهة هنا متحدة ويندرئ الاشكال باعتبار أن من يقدم على جريرة من الجرائر لا بد له أن تتفاعل في نفسه خواطر متضادة منها ما ينشأ عن بصيرة العقل ووحي الضمير ، ومنها ما ينشأ عن رعونة العواطف واضطراب الهواجس ، فيتولد ما يشبه العداوة بين الجانبين ، ويظل المرء في تردد بين إقدام وإحجام ، حسب إصغائه تارة إلى صوت العقل ، وأخرى إلى داعي الهوى . ومن ثم جاءت هذه القراءة هنا مصورة لعداوة تنجم بين هؤلاء المنافقين ونفوسهم الداعية إلى الخير بطبيعة الفطرة ، وصورت ما يصدر منهم من شغلها بالأماني واقتيادها إلى الشر بالمخادعة ، وفي كلام العرب ما ينحو هذا المنحى في التعبير ، كقول عمرو بن معد يكرب : @ فجاشت علي النفس أول مرة فردت على مكروهها فاستقرت @@ وقول عروة بن أذينة : @ وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها @@ وربما جعلوا هذه النوازع المتباينة نفسين مختلفين في شخص واحد ، كقول بعض الأعراب : @ لم تدر ما ( لا ) ولست قائلها عمرك ما عشت آخر الأبد ولم تؤامر نفسيك ممتريا فيها وفي أختها ولم تكد @@ وقول الآخر : @ يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة أيستوبع الذوبان أم لا يطورها @@ وقول غيره : @ وكنت كذات الضنى لم تدر إذ بغت تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني ؟ @@ ويحتمل أن يكون خادع هنا بمعنى خدع مع قصد المبالغة كما تقدم في تفسير صدر الآية ، وبناء على ذلك يكون معنى القراءتين واحدا . وانتقد ابن جرير قراءة { وما يخادعون } فعدها غير صحيحة ، وقد بنى هذا الانتقاد على أن فَعَلَ هو الذي يكشف عاقبة المفاعلة دون فَاعَلَ ، كما يقال قاتل فلان فلانا ، وما قتل إلا نفسه ، إذا كانت عاقبة المقاتلة رجعت عليه دون صاحبه ، وعزز ذلك بأن مخادعتهم لله وللمؤمنين مثبتة في صدر الآية ، فإذا حصرت المخادعة بعد في أنفسهم انتفى ما كان مثبتا ، وهو تناقض لا يحوم حول ساحة القرآن . وقد علمت أن هذه القراءة هي قراءة ثلاثة من السبعة المشهورين ، وقراءة كل واحد من القرّاء السبعة معدودة في المتواتر الذي لا يصح إنكاره أو رفضه ، فرد أية قراءة من السبع عثرة لا تقال ، وقد تكرر وقوع ابن جرير في هذه الورطة على إمامته في التفسير ، كما سنبين ذلك إن شاء الله كلا في موضعه . وكما اتفق الجمهور على تواتر قراءتي " ملك ومالك " اتفقوا على تواتر قراءتي " يخدعون ويخادعون " ، ذلك لأن الاختلاف فيهما عائد إلى جوهر القراءة ، وهو مما يعد من المتواتر عندهم ، وإنما اختلفوا فيما كان من قبيل الأداء ، كالامالة والمد والترقيق والتفخيم والغنّة ، فقيل بتواتره في السبع ، وقيل بعدمه . وبما ذكرته من توجيه هذه القراءة يندفع الاشكال الذي زعمه ابن جرير ، وما ذكره من لزوم نفي ما أثبت عليها ، مدفوع بأن جهتي الاثبات والنفي مختلفتان ، وبذلك يندفع المحذور ، ونحوه ما في قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] ، ففي صدر الآية نفي الرمي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي وسطها إثباته ، وفي آخرها إسناده إلى الله تعالى ، فلو أخذ بظاهر اللفظ لقيل بالتناقض ، غير أن الرمي المنفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثبت لله هو غير الذي أثبت للرسول ، والقرآن نزل بلسان العرب الذي يستعمل الكلمات في حقيقتها تارة وفي مجازها أخرى ، والقرائن هي الكفيلة ببيان المراد . وذكر أبو حيان في البحر أن بعضهم ادعى بأن في عبارة هذه الآية قلبا ، وأن الأصل وما يخادعهم إلا أنفسهم ، لأن الانسان لا يخدع نفسه ، بل هي التي تخدعه وتسول له وتأمره بالسوء ، وأورد أشياء مما قلبته العرب ، وذكر أبو حيان أن للنحويين مذهبين في القلب : أحدهما : جوازه في النثر والشعر اتساعا واتكالا على فهم المعنى . ثانيهما : عدم جوازه إلا في الشعر في حالة الاضطرار . قال : وهذا الذي صححه أصحابنا ثم أتبع ذلك بأن هذا المدعي للقلب نظر إلى قوله تعالى : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } [ يوسف : 18 ] . وقولهم : منتك نفسك ، فتخيل أن الممني والمسوِّل غير الممنَّى والمسوَّل له ، ثم عكر عليه بأن الأمر ليس كما تخيل ، فالفاعل هنا هو المفعول كما يقال أحبَّ زيد نفسه وعظم نفسه ، فلا يتصور تباين بين الفاعل والمفعول إلا من حيث اللفظ مع وحدة المدلول ، وإذا صح المعنى دون القلب فلا داعي إليه ، مع أن الصحيح عدم جوازه إلا في الشعر ، فما أجدر كتاب الله عز وجل أن ينزه عنه . والنفس : حقيقة الشيء وذاته ، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] ، وقوله : { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 12 ] ، وقوله : { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 30 ] . هذا هو المعنى اللغوي للنفس ، أما ما عدا ذلك من المعاني فهو من اصطلاح الحكماء الذي لا داعي إليه في فهم مقاصد القرآن . وجملة { وما يشعرون } إما مستأنفة وإما معطوفة على جملة { وما يخدعون } ، والشعور : يطلق على العلم بدقائق الأشياء الخفية ، ويرى بعض أهل اللسان أنه مأخوذ من إصابة الشَّعَرِ فإنه لدقته مما يستصعب ، وكذلك الشعور هو إصابة ما دق من المعاني ، والتفطن لما خفي من الأمور . وأصل الشعر العلم بهذه الدقائق ، ومنه قولهم : ليت شعري ، ثم نقل إلى الكلام الموزون المقفَّى لما في تركيبه من الدقة وما يحتويه من خفي المعاني ودقيق المقاصد التي لا يتفطن لها إلا أصحاب الاحساس المرهف ، ومن هنا قيل إن الشعور لا يستعمل إلا فيما دق من حسي وعقلي ، فلا يقال : شعرت بحلاوة العسل ، وبصوت الصاعقة ، وبألم كية النار ، وإنما يقال : شعرت بملوحة في الماء أو مرارة - إذا كانت قليلة - وبهينمة وراء الجدار ، وبحرارة في بدني . وهذا الوصف في المنافقين مشعر بتحجر عقولهم وخبوِّ فطنهم ، وهو - كما قيل - أبلغ في الذم من وصفهم بعدم الاحساس ، لأن الذم على أمر يمكن حصوله ألذع وأنكى من الذم بما يتحقق عدمه ، وإحساسهم أمر معلوم لهم وللناس ، فلا يغيظهم أن يوصفوا بعدمه ، بخلاف وصفهم بعدم الشعور المتضمن لمعنى البلادة . ومن حيث أن الشعور يتميز عن العلم باختصاصه بدقائق الأمور المحسوسة والمعقولة أوثر في التعبير هنا على العلم نظرا إلى أن مخادعتهم لأنفسهم مما لا يظهر إلا لذوي الفطن المتوقدة ، والمدارك المتفتحة ، والمنافقون بما ران على قلوبهم من النفاق واستحكم في عقولهم من الضلال ليسوا من الذين يراقبون الله عز وجل ، فهم إن وجد بينهم من يؤمن بوجود الله سبحانه فإيمانه سطحي لم يتغلغل في أعماق نفسه ، ولم يلامس شغاف قلبه ، فلذلك كانوا أبعد ما يكونون عن خشيته ومراقبته ، والتفكر فيما يرضيه وما يغضبه ، فكانت معاملتهم له معاملة الخب الخادع لمن يرجو أن تنطلي عليه حيلته ، ويؤثر فيه مكره ، وما كانوا يتفطنون أن عاقبة مكرهم ستعود عليهم بشر مما كانوا يتوقعون . سر مخادعة المنافقين : وفي تفسير المنار بحث نفيس للامام محمد عبده كشف فيه سر مخادعتهم بأسلوبه الأدبي الرفيع وتحليله المنطقي البديع ، ولما في هذا البحث من فوائد جمة رأيت إيراده برمته ، قال : هؤلاء المغرورون إذا عرض زاجر الدين بينهم وبين شهواتهم قام لهم من أنفسهم ما يسهل لهم أمره ، من أمل في الغفران أو تأويل إلى غير المراد ، أو تحريف إلى ما يخالف القصد من الخطاب وذلك بما رسخ في نفوسهم من ملكات السوء المغشاة بصور من العقائد الملونة ؛ بما قد يتجلى للأعين فيما يسمونه إيمانا وما هم في الحقيقة بمؤمنين ، وإنما هم خادعون مخدوعون ، ولكنهم لما عمي عليهم من أمر أنفسهم لا يشعرون لأن ذلك يمر في أنفسهم وهم عنه غافلون . وفرق ظاهر بين ما تستحضره النفس من المعلومات وتستعرضه عندما تسأل عنه ، وما هو راسخ فيها من تلك المعلومات بصيرورته ملكة في النفس متصرفة في الارادة باعثة لها على العمل ، فمن العلوم ما هو ثابت في النفس ممتزج بها على النحو الذي ذكرنا ، فيتبع امتزاجه هذا تمكن ملكات أخر تصدر عنها الأعمال ، وهو ما يعبر عنه بالأخلاق والصفات ، كالكرم والشجاعة ونحوهما ، فإنها إنما تنطبع في النفس تبعا للعلم الذي يلائمها ، وهو العلم الحقيقي الذي تصدر عنه الأعمال ، وربما يغفل الانسان عنه ولا يلاحظه عندما يعمل ، وفرق بين ملاحظة العلم واستحضاره ، وبين وجوده وتحققه في نفسه . ومن العلوم ما يلاحظ الانسان أنه عنده ، فهو صورة عند النفس تستحضره عند المناسبة ويغيب عنها عند عدمها ، لأنه لم يُشْرَبه القلب ، ولم يمتزج بالنفس فيصير صفة من صفاتها الراسخة التي لا تزايلها ، وهذا النوع من العلم يتعلق بما تعلق به النوع الأول كعلم الحلال والحرام الذي يحصله طلبة الفقه الاسلامي مثلا ، وكعلم مزايا الفضيلة ، ورزايا الرذيلة الذي يخزنه طلاب علوم الآداب والأخلاق ، والنظار في كتب الأوائل والأواخر لتعزير مادة العلم وتوسيع مجال القول وتوفير القدرة على حسن المنطق ونحو ذلك ، فهذا العلم كالأداة المنفصلة عن العامل ، يبقى في خزانة الخيال ، تستحضره النفس عندما تدفعها الشهوة إلى تزيين ظاهر المقال لا إلى تحسين باطن الحال ، ولن يكون لهذا الضرب من العلم أدنى أثر في عمل من أعمال صاحبه ، وتسميته علما لأنه يدخل في تعريفه العام ( صورة من الشيء حاضرة عند النفس ) وعند التدقيق لا ترتفع به منزلته إلى أن يندرج في معنى العلم الحقيقي ، فاستحضار هذا العلم كاستحضار الكتاب واللوح وإدراك ما فيه ، ثم الذهول عنه ونسيانه عند الاشتغال بشيء آخر . فهؤلاء الذين يخدعون أنفسهم ويخادعون الله تعالى عندهم علم حقيقي تنبعث عنه أعمالهم ، وإن كان باطلا في نفسه ، وهو تصديقهم بما في شهواتهم من المصلحة لذواتهم ، وهو الذي رجح عندهم اختيار ما فيه قضاؤها والانصباب إلى ما تدعو إليه ، وهو ما أنساهم ما كانوا خزنوا في أنفسهم من صور الاعتقادات الدينية ، فأبعدهم ذلك عن الاعتقاد الحقيقي الذي يعتد به ، وجعله رسما مخزونا في الخيال لا أثر له في الأفعال يدعونه بألسنتهم وتكذبه في دعواه أعمالهم وأحوالهم ، ولذلك نسبهم إلى الدعوى القولية ولم يقل فيهم ما قال في ذلك الفريق الأول { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . فإنه هناك ذكر إيمانهم وقفَّى عليه بذكر العمل الذي يشهد له ، ومن هنا يعلم ما الايمان الذي يعتد به القرآن ، وهو يظهر لمن يقرأ القرآن ليحاسب به نفسه ، ويزن إيمانه وأعماله بما حكم به على إيمان من قبله وأعمالهم ، لا لمن يقرأه على أنه قصة تاريخية مات من يحكي عنها واستثنى القارئ نفسه ممن حكم عليهم فيها ، فإن كان مات من كانوا سبب النزول فالقرآن حي لا يموت ، ينطبق حكمه ويحكم سلطانه على الناس في كل زمان ، فكل مؤمن بالله واليوم الآخر وهو يصدر في عمله عن شهواته ولا يمنعه إيمانه عن ركوب خطيئاته ، فاعتقاده إنما هو خيال لا يعدو عن لفظ في مقال ، ودعوى عند جدال ، فإذا ركن إلى هذا المعتقد فهو خادع لنفسه مخادع لربه ، يظن أن علام الغيوب لا ينظر إلى ما في القلوب . اهـ . وبإمكاننا أن نستوحي من هذا البحث أن الامام يرى ما في هذه الآيات شاملا للصنفين من المنافقين ، مَن كان نفاقه عقائديا ومن كان نفاقه عمليا ، ولعله يرد ذلك إلى أن النفاق العملي لا ينشأ إلا عن ضعف العقيدة وعدم تمكنها في النفس ، كتمكن عقيدة المؤمنين الذين كانت ظواهرهم شاهدة على سلامة بواطنهم وأعمالهم مصدقة لراسخ اعتقادهم .