Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 29, Ayat: 69-69)
Tafsir: Rūḥ al-maʿānī: fī tafsīr al-Qurʿān al-ʿaẓīm wa-s-sabʿ al-maṯānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا } في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصاً ففيه مضاف مقدر ، وقيل : لا حاجة إلى التقدير بحمل الكلام على المبالغة بجعل ذات الله سبحانه مستقراً للمجاهدة وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا ، والمراد نزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقاً لسلوكها فإن الجهاد هداية أو مرتب عليها ، وقد قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وفي الحديث " من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم " ومن الناس من أول { جَـٰهَدُواْ } بأرادوا الجهاد وأبقى { لَنَهْدِيَنَّهُمْ } على ظاهره ، وقال السدي : المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة ، وقيل : المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة ، وما ذكر أولاً أولى ، والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله : { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] . / { وَإِنَّ ٱللَّهَ } المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك ، وقال العلامة الطيبـي : إن قوله تعالى : { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } قد طابق قوله سبحانه : { جَـٰهَدُواْ } لفظاً ومعنى ، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية ، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين ، ثم إن جملة قوله عز وجل : { إِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلى باسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جل وعلا تجلى له الرب عز اسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجلياً تاماً . ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة إلى فريدة قلادتها { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] لامحة إلى واسطة عقدها { يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَٱعْبُدُونِ } [ العنكبوت : 56 ] وهي في نفسها جامعة فاذة اهـ . و { ءالَ } في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا ، ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور ، ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولاً أولياً برهانياً . وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر { ٱلْمُحْسِنِينَ } بالموحدين وفيه تأييد ما للاحتمال الثاني والله تعالى أعلم . ومن باب الإشارة في الآيات : { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ } [ العنكبوت : 2 ] الآية قال ابن عطاء : ظن الخلق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن ، وهذا كما قال العارف ابن الفارض قدس سره : @ وتعذيبكم عذب لدي وجَوْرُكم علي بما يقضي الهوى لكم عدل @@ وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يِقُولُ ءامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَا أُوذِىَ فِى ٱللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 10 ] إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ العنكبوت : 17 ] قال ابن عطاء : أي اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة ، وقال سهل : اطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام { وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّى } [ العنكبوت : 26 ] أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عز وجل ، وقال ابن عطاء : أي راجع إلى ربـي من جميع مالي وعلي ، والرجوع إليه عز وجل بالانفصال عما دونه سبحانه ، ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] سئل الجنيد قدس سره عن هذه الآية فقال : كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر { مَثَلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ ٱلْبُيُوتِ لَبَيْتُ ٱلْعَنكَبُوتِ } [ العنكبوت : 41 ] أشار سبحانه وتعالى إلى من اعتمد على غير الله عز وجل في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه ، قال ابن عطاء : من اعتمد شيئاً سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه ، ومن اتخذ سواه عز وجل ظهيراً قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته . { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا أصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شؤونه سبحانه لأنهم علماء المنهج ، وذكر أن العالم على الحقيقة من / يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر ، وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني { إِنَّ ٱلصَّلاَةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [ العنكبوت : 45 ] ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر ، هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي انكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جل وعلا عن رؤية الأعمال والأعواض ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] قال ابن عطاء : أي ذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال ، وأيضاً ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب { بَلْ هُوَ ءايَـٰتٌ بَيّنَـٰتٌ فِى صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } [ العنكبوت : 49 ] فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات ، قال الصادق على آبائه وعليه السلام : لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون { يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَٱعْبُدُونِ } [ العنكبوت : 56 ] قال سهل : إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين ، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة ، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية ، وإليه الإشارة بما أخرجه الطبراني والقضاعي ، والشيرازي في « الألقاب » ، والخطيب وابن النجار والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر " { وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } [ العنكبوت : 60 ] فلا يمنعنكم عنه فقد الزاد أو العجز عن حمله { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } قال ابن عطاء : أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا ، والمجاهدة كما قال : الافتقار إلى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه ، وقال بعضهم : أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف ، وقيل : أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا ، ومن عرف الله تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء ، كان عبد الله بن المبارك يقول : من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله عليه وسلم .