Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 11, Ayat: 45-47)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح - عليه السّلام - هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداءً دَعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا ، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلاّ للّذين يركبون السّفينة ، ولأنّ نوحاً - عليه السّلام - لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة ، ويدلّ لذلك قوله تعالى { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } كما سيأتي . ويجوز أن يكون دعاء نوح - عليه السّلام - هذا وقع قبل غرق النّاس ، أي نادى ربّه أن ينجي ابنه من الغرق . ويجوز أن يكون بعد غرق من غرقوا ، أي نادى ربّه أن يغفر لابنه وأن لا يعامله معاملة الكافرين في الآخرة . والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل ودعا نوح ربّه ، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالباً ، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافاً إلى نوح - عليه السلام - تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهيُ عتاب . وجملة { فقال ربّ إنّ ابني من أهلي } بيان للنّداء ، ومقتضى الظّاهر أنْ لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى { إذْ نادى ربّه نداءً خفيّاً قال ربّ إنّي وهن العظم مني } مريم 3 ، 4 ، وخولف ذلك هنا . ووجّه في « الكشاف » اقترانه بالفاء بأنّ فعل { نادى } مستعمل في إرادة النداء ، أي مثل فعل قمتم في قوله تعالى { يا أيهَا الّذينَ آمنوا إذَا قمْتم إلى الصّلاة فَاغْسلوا وجوهكم } المائدة 6 الآية ، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل { نادى } مستعار لمعنى إرادة النداء ، أي أراد نداءَ ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء ، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لِما علم من قوله تعالى { إلا من سبق عليه القول } هود 40 فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه ، ولذلك قدم الاعتذار بقوله { إنّ ابني من أهلي } . فقوله { إن ابني من أهلي } خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالاً لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه . وتأكيد الخبر بـ { إنّ } للاهتمام به . وكذلك جملة { وإنّ وعدك الحق } خبر مستعمل في لازم الفائدة . وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق . والمراد بالوعد ما في قوله تعالى { إلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } المؤمنون 27 إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة . وهذا الموصول متعيّن لكونه صادقاً على ابنه إذ ليس غيره من أهله طَلب منه ركوب السفينة وأبى ، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم ، أي كافر ، وأنه مغرق ، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر . فالمعنى أن نوحاً - عليه السّلام - لا يجهل أنّ ابنه كافر ، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر ، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به ، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى ، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه . وقرينة ذلك كله قوله { وأنت أحكم الحاكمين } المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه ، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه ، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال . وقد كان نوح - عليه السّلام - غيرَ منهيّ عن ذلك ، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين ، " فكان حال نوح - عليه السّلام - كحال النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب « لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك » " قَبل أن ينزل قوله تعالى { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يسْتغَفروا للمشركين } التوبة 113 الآية . والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره ، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنّه يقول أسألك أم أترك ، كقول أميّة بن أبي الصلت @ أأذكر حَاجتي أم قد كفاني حَياؤك أن شيمتك الحياء @@ ومعنى { أحكم الحاكمين } أشدهم حكْماً . واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل ، فيفيد أن حكمه لا يجورُ وأنّه لا يبطله أحد . ومعنى قوله تعالى { إنّه ليس من أهلك } نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالاً لقول نوح - عليه السّلام - { إن ابني من أهلي } ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال . قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن @ إذا حاولت في أسد فجوراً فإني لست منك ولست منّي @@ وقال تعالى { ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قومٌ يفرقون } التوبة 56 . وتأكيد الخبر لتحقيقه لِغرابته . وجملة { إنّه عَمل غير صالح } تعليل لمضمون جملة { إنه ليس من أهلك } فـإنّ فيه لمجرد الاهتمام . و { عَمَلٌ } في قراءة الجمهور - بفتح الميم وتنوين اللام - مصدر أخبر به للمبالغة وبرفع { غيرُ } على أنه صفة عمل . وقرأه الكسائي ، ويعقوب { عَمِلَ } - بكسر الميم - بصيغة الماضي وبنصب { غيرَ } على المفعولية لفعل عمل . ومعنى العمل غير الصالح الكفر ، وأطلق على الكفر عمل لأنه عمل القلب ، ولأنّه يظهر أثره في عمل صاحبه كامتناع ابن نوح من الركوب الدال على تكذيبه بوعيد الطوفان . وتفرع على ذلك نهيه أن يَسأل ما ليس له به علم نهيَ عتاب ، لأنّه لما قيل له { إنّه ليس من أهلك } بسبب تعليله بأنه عمل غير صالح ، سقط ما مهد به لإجابة سؤاله ، فكان حقيقاً بأن لا يسأله وأن يتدبّر ما أرَاد أن يسأله من الله . وقرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر « فلا تسألنّي » - بتشديد النون - وهي نون التوكيد الخفيفة ونون الوقاية أدغمتا . وأثبتَ ياء المتكلم من عدا ابنَ كثير من هؤلاء . أما ابن كثير فقرأ « فلا تسألنّ » - بنون مشددة مفتوحة - . وقرأه أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف « فلا تسألْنِ » - بسكون اللام وكسر النون مخففة - على أنّه غير مؤكد بنون التوكيد ومعدى إلى ياء المتكلم . وأكثرهم حذف الياء في حالة الوصل ، وأثبتها في الوصل ورش عن نافع وأبو عمرو . ثم إن كان نوح - عليه السّلام - لم يسبق له وحي من الله بأن الله لا يغفر للمشركين في الآخرة كان نهيه عن أن يسأل ما ليس له به علم ، نهيَ تنزيه لأمثاله لأن درجة النبوءة تقتضي أن لا يقدم على سؤال ربه سؤْلاً لا يعلم إجابته . وهذا كقوله تعالى { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } سبأ 23 وقوله { لا يتكلمون إلا من أذن له الرّحمٰن وقال صواباً } النبإ 38 ، وإن كان قد أوحي إليه بذلك من قبل ، كما دل عليه قوله { وإنّ وعدكَ الحقُ } ، وكان سؤاله المغفرة لابنه طلباً تخصيصَه من العموم . وكان نهيه نهيَ لَوم وعتاب حيث لم يتبيّن من ربه جواز ذلك . وكان قوله { ما ليس لك به علم } محتملاً لظاهره ، ومحتملاً لأن يكون كناية عن العلم بضده ، أي فلا تسألني ما علمت أنه لا يقع . ثم إن كان قول نوح - عليه السّلام - { إنّ ابني من أهلي } إلى آخره تعريضاً بالمسؤول كان النّهي في قوله { فلا تسألنّي ما ليس لك به علم } نهياً عن الإلحاح أو العود إلى سؤاله وإن كان قول نوح - عليه السّلام - مجرد تمهيد للسؤال لاختبار حال إقبال الله على سؤاله كان قوله تعالى { فلا تسألنّي } نهياً عن الإفضاء بالسؤال الذي مَهّد له بكلامه . والمقصود من النهي تنزيهه عن تَعريض سؤاله للردّ . وعلى كل الوجوه فقوله { إني أعظك أن تكون من الجاهلية } موعظة على ترك التثبّت قبل الإقدام . والجهل فيه ضد العلم ، وهو المناسب لمقابلته بقوله { ما ليس لك به علم } . فأجاب نوح - عليه السّلام - كلام ربّه بما يدل على التنصّل ممّا سأل فاستعاذ أن يسأل ما ليس له به علم ، فإن كان نوح - عليه السّلام - أراد بكلامه الأول التعريض بالسؤال فهو أمر قد وقع فالاستعاذة تتعلق بتبعة ذلك أو بالعود إلى مثله في المستقبل وإن كان إنّما أراد التمهيد للسؤال فالاستعاذة ظاهرة ، أي الانكفاف عن الإفضاء بالسؤال . وقوله { وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } طلب المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنّه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلاً للرحمة . وقد سلك المفسرون في تفسيرهم هذه الآيات مسلك كون سؤال نوح - عليه السّلام - سؤالاً لإنجاء ابنه من الغرق فاعترضتهم سبل وَعْرة متنائية ، ولقوا عناء في الاتصال بينها ، والآية بمعزل عنها ، ولعلنا سلكنا الجادة في تفسيرها .