Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 91-91)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما أمر الله المؤمنين بملاك المصالح ونهاهم عن ملاك المفاسد بما أومأ إليه قوله { يعظكم لعلكم تذكرون } سورة النحل 90 . فكان ذلك مناسبة حسنة لهذا الانتقال الذي هو من أغراض تفنّن القرآن ، وأوضح لهم أنهم قد صاروا إلى كمال وخير بذلك الكتاب المبيّن لكل شيء . لا جرم ذكرهم الوفاء بالعهد الذي عاهدوا الله عليه عندما أسلموا ، وهو ما بايعوا عليه النبي مما فيه أن لا يعصوه في معروف . وقد كان النبي يأخذ البيعة على كل من أسلم من وقت ابتداء الإسلام في مكّة . وتكررت البيعة قبيل الهجرة وبعدها على أمور أخرى ، مثل النّصرة التي بايع عليها الأنصار ليلة العقبة ، ومثل بيعة الحديبية . والخطاب للمسلمين في الحفاظ على عهدهم بحفظ الشريعة ، وإضافة العهد إلى الله لأنهم عاهدوا النبي على الإسلام الذي دعاهم الله إليه ، فهم قد عاهدوا الله كما قال { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } سورة الفتح 10 ، وقال { من المؤمنين رجال صَدقوا ما عاهدوا الله عليه } سورة الأحزاب 23 . والمقصود تحذير الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام من أن ينقضوا عهد الله . و { إذا } لمجرّد الظرفية ، لأنّ المخاطبين قد عاهدوا الله على الإيمان والطاعة ، فالإتيان باسم الزمان لتأكيد الوفاء . فالمعنى أن من عاهد وجب عليه الوفاء بالعهد . والقرينة على ذلك قوله { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } سورة النحل 91 والعهد الحلف . وتقدّم في قوله تعالى { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } . وكذلك النقض تقدم في تلك الآية ، ونقض الأيمان إبطال ما كانت لأجله . فالنقض إبطال المحْلوف عليه لا إبطال القسم ، فجُعِل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله { ولا تنقضوا الأيمان } تهويلاً وتغليظاً للنّقض لأنه نقض لحرمة اليمين . و { بعد توكيدها } زيادة في التحذير ، وليس قيْداً للنّهي بالبعدية ، إذ المقصود أيمان معلومة وهي أيمان العهد والبيعة ، وليست فيها بعدية . و { بعد } هنا بمعنى مع ، إذ البعدية والمعيّة أثرهما واحد هنا ، وهو حصول توثيق الأيمان وتوكيدها ، كقول الشميذر الحارثي @ بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما دفنتم بصحراء الغُمَيْر القوافيا @@ أي لا تذكروا أنّكم شعراء وأن لكم شعراً ، أو لا تنطقوا بشعر مع وجود أسباب الإمساك عنه في وقعة صحراء الغُمير ، وقوله تعالى { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } سورة الحجرات 11 ، وقوله الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه . والتّوكيد التوثيق وتكرير الفتل ، وليس هو توكيد اللفظ كما توهّمه بعضهم فهو ضدّ النقض . وإضافته إلى ضمير { الأيمان } ليس من إضافة المصدر إلى فاعله ولا إلى مفعوله إذ لم يقصد بالمصدر التجدّد بل الاسم ، فهي الإضافة الأصلية على معنى اللام ، أي التوكيد الثابت لها المختصّ بها . والمعنى بعد ما فيها من التوكيد ، وبيّنه قوله { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } . والمعنى ولا تنقضوا الأيمان بعد حلفها . وليس في الآية إشعار بأن من اليمين ما لا حرج في نقضه ، وهو ما سمّوه يمين اللّغو ، وذلك انزلاق عن مهيع النظم القرآني . ويؤيّد ما فسرناه قوله { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } الواقع موقع الحال من ضمير { لا تنقضوا } ، أي لا تنقضوا الأيمان في حال جعلكم الله كفيلاً على أنفسكم إذا أقسمتم باسمه ، فإن مدلول القسم أنه إشهاد الله بصدق ما يقوله المقسم فيأتي باسم الله كالإتيان بذات الشاهد . ولذلك سُمّيَ الحلف شهادة في مواضع كثيرة ، كقوله { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } سورة النور 6 . والمعنى أن هذه الحالة أظهر في استحقاق النّهي عنها . والكفيل الشاهد والضامن والرقيب على الشيء المراعى لتحقيق الغرض منه . والمعنى أن القسم باسم الله إشهاد لله وكفالة به . وقد كانوا عند العهد يحلفون ويشهدون الكفلاء بالتنفيذ ، قال الحارث بن حلّزة @ واذكروا حلف ذي المجاز وما قُ دّم فيه العهود والكفلاء @@ و { عليكم } متعلّق بــــ { جعلتم } لا بــــ { كفيلاً } أي أقمتموه على أنفسكم مقام الكفيل ، أي فهو الكفيل والمكفول له من باب قولهم أنت الخصم والحكم ، وقوله تعالى { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه } سورة التوبة 118 . وجملة { إن الله يعلم ما تفعلون } معترضة . وهي خبر مراد منه التحذير من التساهل في التمسّك بالإيمان والإسلام لتذكيرهم أن الله يطّلع على ما يفعلونه ، فالتوكيد بــــ { إن } للاهتمام بالخبر . وكذلك التأكيد ببناء الجملة بالمسند الفعلي دون أن يقال إن الله عليم ، ولا قد يعلم الله . واختير الفعل المضارع في { يعلم } وفي { تفعلون } لدلالته على التجدّد ، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه . والمقصود من هذه الجمل كلها من قوله { وأوفوا بعهد الله } إلى هنا تأكيد الوصاية بحفظ عهد الأيمان . وعدم الارتداد إلى الكفر ، وسدّ مداخل فتنة المشركين إلى نفوس المسلمين ، إذ يصدّونهم عن سبيل الإسلام بفنون الصدّ ، كقولهم { نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين } سورة سبأ 35 ، كما أشار إليه قوله تعالى { وكذلك فتنّا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } وقد تقدم ذلك في سورة الأنعام 53 . ولم يذكر المفسّرون سبباً لنزول هذه الآية ، وليست بحاجة إلى سبب . وذكروا في الآية الآتية وهي قوله { من كفر بالله من بعد إيمانه } سورة النحل 106 أن آية { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } إلى آخرها نزلت في الذين رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان لما فتنهم المشركون كما سيأتي ، فجعلوا بين الآيتين اتصالاً . قال في « الكشاف » كأن قوماً ممن أسلم بمكة زَيّنَ لهم الشيطان لجزعهم ما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ، ولِمَا كانوا يَعِدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبّتهم الله ا هــــ . يريد أن لهجة التحذير في هذا الكلام إلى قوله { إنما يبلوكم الله به } سورة النحل 92 تنبىء عن حالة من الوسوسة داخلت قلوب بعض حديثي الإسلام فنبّأهم الله بها وحذّرهم منها فسلموا .