Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 236-237)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استئناف تشريع لبيان حكم ما يترتب على الطلاق من دفع المهر ، كله أو بعضه ، وسقوطه وحكم المتعة مع إفادة إباحة الطلاق قبل المسيس . فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، ومناسبة موقعها لا تخفى ، فإنه لما جرى الكلام في الآيات السابقة على الطلاق الذي تجب فيه العدة ، وهو طلاق المدخول بهن ، عرج هنا على الطلاق الواقع قبل الدخول ، وهو الذي في قوله تعالى يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن الآية ، في سورة الأحزاب 49 ، وذكر مع ذلك هنا تنصيف المهر والعفو عنه . وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } البقرة 158 . ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في « الكشاف » تفسير الجناح بالتبعة فقال { لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب المهر } ثم قال والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله { وإن طلقتموهن } إلى قوله { فنصف ما فرضتم } فقوله { فنصف ما فرضتم } إثبات للجناح المنفي ثمة » وقال ابن عطية وقال قوم لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب « الكشاف » مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في « الأساس » هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازاً ، فإنما تأوله من تأوله تفسيراً لمعنى الكلام كله لا لكلمة { جناح } وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر . والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي « تفسير ابن عطية » عن مكي بن أبي طالب « لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس » وقريب منه في الطيبي عن الراغب ـــ أي في « تفسيره » ـــ . فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء . قال ابن عطية وغيره إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرماً ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر . والنساء الأزواج ، والتعريف فيه تعريف الجنس ، فهو في سياق النفي للعموم ، أي لا جناح في تطليقكم الأزواج ، وما ظرفية مصدرية ، والمسيس هنا كناية عن قربان المرأة . وأو في قوله { أو تفرضوا لهن فريضة } عاطفة على { تمسوهن } المنفي ، وأو إذا وقعت في سياق النفي تفيد مفاد واو العطف فتدل على انتفاء المعطوف والمعطوق عليه معاً ، ولا تفيد المفاد الذي تفيده في الإثبات ، وهو كون الحكم لأحد المتعاطفين ، نبه على ذلك الشيخ ابن الحاجب في « أماليه » وصرح به التفتازاني في « شرح الكشاف » ، وقال الطيبي إنه يؤخذ من كلام الراغب ، وهو التحقيق لأن مفاد « أو » في الإثبات نظير مفاد النكرة وهو الفرد المبهم ، فإذا دخل النفي استلزم نفي الأمرين جميعاً ، ولهذا كان المراد في قوله تعالى { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } الإنسان 24 النهي عن طاعة كليهما ، لا عن طاعة أحدهما دون الآخر ، وعلى هذا انبنت المسألة الأصولية وهي هل وقع في اللغة ما يدل على تحريم واحد لا بعينه ، بناء على أن ذلك لا يكون إلا بحرف أو ، وأن أو إذا وقعت في سياق النهي كانت كالتي تقع في سياق النفي . وجعل صاحب « الكشاف » أو في قوله { أو تفرضوا لهن فريضة } بمعنى إلا أو حتى ، وهي التي ينتصب المضارع بعدها بأن واجبة الإضمار ، بناء على إمكانه هنا وعلى أنه أبعد عن الخفاء في دلالة أو العاطفة في سياق النفي ، على انتفاء كلا المتعاطفين إذ قد يتوهم أنها لنفي أحدهما كشأنها في الإثبات ، وبناء على أنه أنسب بقوله تعالى بعد ذلك { وأن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة } حيث اقتصر في التفصيل على أحد الأمرين وهو الطلاق قبل المسيس مع فرض الصداق ، ولم يذكر حكم الطلاق قبل المسيس أو بعده ، وقبل فرض الصداق ، فدل بذلك على أن الصورة لم تدخل في التقسيم السابق ، وذلك أنسب بأن تكون للاستثناء أو الغاية ، لا للعطف ، ولا يتوهم أن صاحب الكشاف أهمل تقدير العطف لعدم استقامته ، بل لأن غيره هنا أوضح وأنسب ، يعني والمراد قد ظهر من الآية ظهوراً لا يدع لتوهم قصد نفي أحد الأمرين خطوراً بالأذهان ، ولهذا استدركه البيضاوي فجوز تقديرها عاطفة في هذه الآية . وقد أفادت الآية حكماً بمنطوقها وهو أن المطلقة قبل البناء إذا لم يسم لها مهر لا تستحق شيئاً من المال ، وهذا مجمع عليه فيما حكاه ابن العربي ، وحكى القرطبي عن حماد بن سليمان أن لها نصف صداق أمثالها ، والجمهور على خلافه وأن ليس لها إلا المتعة ، ثم اختلفوا في وجوبها كما سيأتي . وهذا الحكم دلنا على أن الشريعة قد اعتبرت النكاح عقداً لازماً بالقول ، واعتبرت المهر الذي هو من متمماته غير لازم بمجرد صيغة النكاح ، بل يلزم بواحد من أمرين إما بصيغة تخصه ، وهي تعيين مقداره بالقول ، وهي المعبر عنها في الفقه بنكاح التسمية ، وإما بالفعل وهو الشروع في اجتناء المنفعة المقصودة ابتداء من النكاح وهي المسيس ، فالمهر إذن من توابع العقود التي لا تثبت بمجرد ثبوت متبوعها ، بل تحتاج إلى موجب آخر كالحوز في عقود التبرعات ، وفيه نظر ، والنفس لقول حماد بن سليمان أميل . والآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب . النوع الثاني معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع . ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل ، بقوله { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } الروم 21 . وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه @ تلك عِرساي تنطقان على عمـــ ـــد إلى اليوم قولَ زور وهَتْر سَالَتَانِي الطلاق أَن رأَتامَا لي قليلاً قد جئتماني بنُكْر @@ وقال عبيد بن الأبرصْ @ تلكَ عِرسي غضبى تريد زيالي أَلبَيْن تريد أم لِدَلال إن يكن طِبُّككِ الفراقَ فلا أحـــ ـــفِلُ أن تعطفي صُدور الجِمال @@ وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه . فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد وهو الزوج ، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف . وقرأ الجمهور ما لم تمسوهن ـــ بفتح المثناة الفوقية ـــ مضارع مس المجرد ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف ، تماسوهن ـــ بضم المثناة الفوقية وبألف بعد الميم مضارع ماس لأن كلا الزوجين يمس الآخر . وقوله { ومتعوهن على الموسع قدره } الآية عطف على قوله { لا جناح عليكم } عطف التشريع على التشريع ، على أن الاتحاد بالإنشائية والخبرية غير شرط عند المحققين ، والضمير عائد إلى النساء المعمول للفعل المقيد بالظرف وهو { ما لم تَمسوهن أو تفرضوا } ، كما هو الظاهر ، أي متعوا المطلقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، ولا أحسب أحداً يجعل معاد الضمير على غير ما ذكرنا ، وأما ما يوجد من الخلاف بين العلماء في حكم المتعة للمطلقة المدخول بها ، فذلك لأدلة أخرى غير هذه الآية . والأمر في قوله { ومتعوهن } ظاهره الوجوب وهو قول علي وابن عمر والحسن والزهريّ وابن جبير وقتادة والضحاك وإسحاق بن راهويه ، وقاله أبو حنيفة والشافعي وأحمد لأن أصل الصِّيغة للوجوب مع قرينة قوله تعالى { حقا على المحسنين } وقوله بعد ذلك ، في الآية الآتية { حقا على المتقين } لأن كلمة { حقا } تؤكد الوجوب ، والمراد بالمحسنين عند هؤلاء المؤمنون ، فالمحسن بمعنى المحسن إلى نفسه بإبعادها عن الكفر ، وهؤلاء جعلوا المتعة للمطلقة غير المدخول بها وغير المسمى لها مهر واجبة ، وهو الأرجح لئلا يكون عقد نكاحها خلياً عن عوض المهر . وجعل جماعة الأمر هنا للندب لقوله بعدُ { حقا على المحسنين } فإنه قرينة على صرف الأمر إلى أحد ما يقتضِيه ، وهو ندب خاص مؤكد للندب العام في معنى الإحسان ، وهو قول مالك وشُريح ، فجعلها حقاً على المحسنين ، ولو كانت واجبة لجعلها حقاً على جميع الناس ، ومفهوم جعلها حقاً على المحسنين أنها ليست حقاً على جميع الناس ، وكذلك قوله { المتقين } في الآية الآتية ، لأن المتقي هو كثير الامتثال ، على أننا لو حملنا المتقين على كل مؤمن لكان بين الآيتين تعارض المفهوم والعموم ، فإن المفهوم الخاص يخصص العموم . وفي « تفسير الأبّي » عن ابن عرفة « قال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك المتعة واجبة يقضى بها إذ لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا من المتقين إلا رجل سوء ، ثم ذكر ابن عرفة عن ابن عبد السلام عن ابن حبيب أنه قال بتقديم العموم على المفهوم عند التعارض ، وأنه الأصح عند الأصوليين ، قلت فيه نظر ، فإن القائل بالمفهوم لا بد أن يخصص بخصوصه عموم العام إذا تعارضا ، على أن لمذهببِ مالك أن المتعة عطية ومؤاساة ، والمؤاساة في مرتبة التحسيني ، فلا تبلغ مبلغ الوجوب ، ولأنها مال بذل في غير عوض ، فيرجع إلى التبرعات ، والتبرعات مندوبة لا واجبة ، وقرينة ذلك قوله تعالى { حقا على المحسنين } فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق ، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة ، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح ، إلا أن يقال إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين ، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة ، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندبَ المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمَّى لها مهراً ، قال فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصَرها على ذلك ، رفقاً بالمطلق ، أي فلا تندب لها ندب خاصاً ، بأمر القرآن . وقد قال مالك بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها ، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف . وقوله { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش ، والقدر ــــ بسكون الدال وبفتحها ــــ ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال . وقوله { فنصف ما فرضتم } مبتدأ محذوف الخبر إيجازاً لظهور المعنى ، أي فنصف ما فرضتم لهن بدليل قوله { وقد فرضتم لهن } لا يحسن فيها إلا هذا الوجه . والاقتصار على قوله { فنصف ما فرضتم } يدل على أنها حينئذ لا متعة لها . وقوله { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف ، وتسمية هذا الإسقاط عفواً ظاهرة ، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها ، أو بما أوحشها ، فهو حق وجب لغرم ضر ، فإسقاطه عفو لا محالة ، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح . وأل في النكاح للجنس ، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج ، وإن كان كلاهما سمي عقداً ، فهو غير النساء لا محالة لقوله { الذي بيده عقدة النكاح } فهو ذَكر ، وهو غير المطلق أيضاً ، لأنه لو كان المطلق ، لقال أو تعفو بالخطاب ، لأن قبله { وإن طلقتموهن } ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر . وقيل جيء بالموصول تحريضاً على عفو المطلق ، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق ، فكان جديراً بأن يعفو عن إمساك النصف ، ويترك لها جميع صداقها ، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى ، لقال أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح ، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها إذ لا ينعقد نكاحها إلا به ، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته ، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر ، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان ، إذ لا يحتمل غير ذلك ، وإن كان المراد مطلق الولي ، فكونه بيده عقدة النكاح ، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره ، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة ، والاتصاف بالصلة مجاز ، وهذا قول مالك إذ جعل في « الموطأ » الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته ، وهو قول الشافعي في القديم ، فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة والمولىَّ عليها ، ونسب ما يقرب من هذا القول إلى جماعة من السلف ، منهم ابن عباس وعلقمة والحسن وقتادة ، وقيل الذي بيده عقدة النكاح هو المطلق لأن بيده عقد نفسه وهو القبول ، ونسب هذا إلى علي وشريح وطاووس ومجاهد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد ، ومعنى { بيده عقدة النكاح } أن بيده التصرف فيها بالإبقاء ، والفسخ بالطلاق ، ومعنى عفوه تكميله الصداق ، أي إعطاؤه كاملاً . وهذا قول بعيد من وجهين أحدهما أن فعل المطلق حينئذ لا يسمى عفواً بل تكميلاً وسماحة لأن معناه أن يدفع الصداق كاملاً ، قال في « الكشاف » « وتسمية الزيادة على الحق عفواً فيه نظر » إلا أن يقال كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج ، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق ، فإذا ترك ذلك فقد عفا ، أو سماه عفوا على طريق المشاكلة . الثاني أن دفع المطلق المهر كاملاً للمطلقة إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص ، بخلاف عفو المرأة أو وليها ، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركناً من العقد لا يصح إسقاط شيء منه . وقوله { وأن تعفوا أقرب للتقوى } تذييل أي العفو من حيث هو ، ولذلك حذف المفعول ، والخطاب لجميع الأمة ، وجيء بجمع المذكر للتغليب ، وليس خطاباً للمطلقين ، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه ، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق ، لأنه عبر عنه بعد بقوله { وأن تعفوا } وهو ظاهر في المذكر ، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله { أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير } النساء 128 . ومعنى كون العفو أقرب للتقوى أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته ، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته ، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد ، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع ، والوازع شرعي وطبيعي ، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة ، فتكون التقوى أقرب إليه ، لكثرة أسبابها فيه . وقوله { ولا تنسوا الفضل بينكم } تذييل ثان ، معطوف على التذييل الذي قبله ، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي ، وفي الطباع السليمة حب الفضل . فأُمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه ، فيضمحل منهم ، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى ، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب ، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة . والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى { فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا } السجدة 14 وهو كثير في القرآن ، وفي كلمة { بينكم ، } إشارة إلى هذا العفو ، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض . وقوله { إن الله بما تعملون بصير } تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى ، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه ، ونظيره قوله { فإنك بأعيننا } السطور 48 .