Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 123-127)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استئناف بياني ، لأنّ الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالاً عن جزاء ذلك . وضمير { قال } عائد إلى { ربه } طه 121 من قوله { وعصى آدم ربه } والخطاب لآدم وإبليس . والأمر في { اهبطا } أمر تكوين ، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض إلاّ بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى . و { جميعاً } يظهر أنه اسم لمعنى كل أفرادِ ما يوصف بجميع ، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل فريق ، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره ، قال تعالى { فكيدوني جميعاً } هود 55 ونصبه على الحال ، وهو هنا حال من ضمير { اهبطا } . وجملة { بعضكم لبعض عدوٌّ } حال ثانية من ضمير { اهْبِطَا } . فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها . والخطاب في قوله { بَعْضُكُم } خطاب لآدم وإبليس . وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما ، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان . تفريع جملة { فإمَّا يأتينَّكم مني هُدىً } على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباءٌ بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنّهم أُودِعوا في عالَم خليط خيره بشرّه ، وحقائقه بأوهامه ، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص ، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان مُعَدّاً له من أصل تركيبه . والخطاب في قوله { يَأتِيَنَّكُم } لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعاراً له بأنه سيكون منه جماعة ، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم ، فلا يكلفه الله باتباع الهدى ، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثاً ينزه عنه فعل الحكيم تعالى . وليس هذا مثلَ أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقَن بأنهم لا يؤمنون ، ولم يرد في السنّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين ، وأما الحديث الذي رواه الدارَقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجنّ ، قالوا وإياك يا رسول الله ؟ قال وإياي ولكن الله أعانني فأسْلَمَ " فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير ، والمراد بالقرين شيطان قرين ، والمراد بالهدى الإرشاد إلى الخير . وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي ، وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشريّة حتى قال كثير من علماء الإسلام إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور . وإنه لذلك لم يُعذر أهل الشرك في مُدد الفِتر التي لم تجىء فيها رسل للأمم . وهذه مسألة عظيمة وقد استوعبها علماء الكلام ، وحررناها في « رسالة النسب النبوي » . وقد تقدم تفسير نظير الجملتين الأوليْن في سورة البقرة . وأما قوله { فلا يضل } فمعناه أنه إذا اتبع الهُدى الوارد من الله على لسان رسله سَلِم من أن يعتريه شيء من ضلال ، وهذا مأخوذ من دلالة الفِعل في حيّز النفي على العموم كعموم النكرة في سياق النفي ، أي فلا يعتريه ضلال في الدنيا ، بخلاف من اتبع ما فيه هدى وارد من غير الله فإنه وإن استفاد هدى في بعض الأحوال لا يسلم من الوقوع في الضلال في أحْوال أخرى . وهذا حال متبعي الشرائع غير الإلهية وهي الشرائع الوضعية فإن واضعيها وإن أفرغوا جهودهم في تطلب الحق لا يسلمون من الوقوع في ضلالات بسبب غَفلات ، أو تعارض أدلة ، أو انفعال بعادات مستقرة ، أو مصانعة لرؤساء أو أمم رأوا أن من المصلحة طلبَ مرضاتهم . وهذا سقراط وهو سيّد حكماء اليونان قد كان يتذرع لإلقاء الأمر بالمعروف في أثينا بأن يفرغه في قوالب حكايات على ألسنة الحيوان ، ولم يسلم من الخنوع لمصانعة اللفيف فإنه مع كونه لا يرى تأليه آلهتهم لم يسلم من أن يأمر قبل موته بقربان ديك لعطارد ربّ الحكمة . وحالهم بخلاف حال الرسل الذين يتلقون الوحي من علاّم الغيوب الذي لا يضل ولا ينسى ، وأيدهم الله ، وعصمهم من مصانعة أهل الأهواء ، وكوّنهم تكويناً خاصاً مناسباً لما سبق في علمه من مراده منهم ، وثبت قلوبهم على تحمل اللأواء ، ولا يخافون في الله لومة لائم . وإن الذي ينظر في القوانين الوضعية نظرة حكيم يجدها مشتملة على مراعاة أوهام وعادات . والشقاء المنفي في قوله { ولا يشقى } هو شقاء الآخرة لأنه إذا سلم من الضلال في الدنيا سلم من الشقاء في الآخرة . ويدل لهذا مقابلة ضده في قوله { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } ، إذ رتب على الإعراض عن هدي الله اختلال حَاله في الدنيا والآخرة ، فالمعيشة مراد بها مدة المعيشة ، أي مدّة الحياة . والضنك مصدر ضَنُك ، من باب كَرُم ضناكة وضنكاً ، ولكونه مصدراً لم يتغيّر لفظه باختلاف موصوفه ، فوصف به هنا { معيشة } وهي مؤنث . والضنك الضيق ، يقال مكان ضنك ، أي ضيق . ويستعمل مجازاً في عسر الأمور في الحياة ، قال عنترة @ إن يلحقوا أكرُر وإن يستلحموا أشدد وإن نَزلوا بضَنْك أنْزِلِ @@ أي بمنزل ضنك ، أي فيه عسر على نازله . وهو هنا بمعنى عسر الحال من اضطراب البال وتبلبله . والمعنى أن مجامع همه ومطامح نظره تكون إلى التحيل في إيجاد الأسباب والوسائل لمطالبه ، فهو متهالك على الازدياد خائف على الانتقاص غير ملتفت إلى الكمالات ولا مأنوس بما يسعى إليه من الفضائل ، يجعله الله في تلك الحالة وهو لا يشعر ، وبعضهم يبدو للناس في حالة حسنة ورفاهية عيش ولكن نفسَه غير مطمئنة . وجعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلاً لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا ، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة . وذلك العمى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته ، فأعمى الأول مجاز وأعمى الثاني حقيقة . وجملة { قال رب لم حشرتني أعمى } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . وجملة { قال كذلك أتتك } الخ واقعة في طريق المحاورة فلذلك فصلت ولم تعطف . وفي هذه الآية دليل على أنّ الله أبلغ الإنسان من يوم نشأته التحذير من الضلال والشرك ، فكان ذلك مستقراً في الفطرة حتى قال كثير من علماء الإسلام بأن الإشراك بالله من الأمم التي يكون في الفتر بين الشرائع مستحق صاحبه العقاب ، وقال جماعة من أهل السنّة والمعتزلة قاطبة إنّ معرفة الله واجبة بالعقل ، ولا شك أنّ المقصود من ذكرها في القرآن تنبيه المخاطبين بالقرآن إلى الحذر من الإعراض عن ذكر الله ، وإنذار لهم بعاقبة مثل حالهم . والإشارة في { كذلك أتتك آياتنا } راجعة إلى العمى المضمن في قوله { لم حشرتني أعمى } ، أي مثل ذلك الحال التي تساءلت عن سببها كنت نسيت آياتنا حين أتتك ، وكنت تُعرض عن النظر في الآيات حين تُدعى إليه فكذلك الحال كان عقابك عليه جزاءً وفاقاً . وقد ظهر من نظم الآية أن فيها ثلاثة احتباكات ، وأن تقدير الأول ونحشره يوم القيامة أعمى ونَنْساه ، أي نُقصيه من رحمتنا . وتقدير الثاني والثالث قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وعميتَ عنها فكذلك اليوم تنسى وتُحْشَر أعمى . والنسيان في الموضعين مستعمل كناية أو استعارة في الحرمان من حظوظ الرحمة . وجملة { وكذلك نجزي من أسرف } الخ تذييل ، يجوز أن تكون من حكاية ما يخاطب الله به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها التوبيخ له والتنكيل ، فالواوُ عاطفةٌ الجملةَ على التي قبلها . ويجوز أن تكون تذييلاً للقصّة وليست من الخطاب المخاطب به من يحشر يوم القيامة أعمى قصد منها موعظة السامعين ليحذروا من أن يصيروا إلى مثل ذلك المصير . فالواو اعتراضية لأن التذييل اعتراض في آخر الكلام ، والواو الاعتراضية راجعة إلى الواو العاطفة إلاّ أنها عاطفة مجموع كلام على مجموع كلام آخر لا على بعض الكلام المعطوف عليه . والمعنى ومثل ذلك الجزاء نجزي من أسرف ، أي كفر ولم يؤمن بآيات ربّه . فالإسراف الاعتقاد الضال وعدم الإيمان بالآيات ومكابرتها وتكذيبهما . والمشار إليه بقوله { وكذلك } هو مضمون قوله { فإن له معيشة ضنكاً } ، أي وكذلك نجزي في الدنيا الذين أسرفوا ولم يؤمنوا بالآيات . وأعقبه بقوله { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } ، وهذا يجوز أن يكون تذييلاً للقصة وليس من حكاية خطاب الله للذي حشره يوم القيامة أعمى . فالمراد بعذاب الآخرة مقابل عذاب الدنيا المفاد من قوله { فإن له معيشة ضنكاً } الآية ، والواو اعتراضية . ويجوز أن تكون الجملة من حكاية خطاب الله للذي يحشره أعمى ، فالمراد بعذاب الآخرة العذاب الذي وقع فيه المخاطب ، أي أشد من عذاب الدنيا وأبقى منه لأنّه أطول مدة .