Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 169-172)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله { ولا تحسبن } عطف على { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت } آل عمران 168 ، فلمّا أمر الله نبيئه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العِنان لهم في ظنّهم أنّ الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سُدًى ، فقيل لهم إنّ الموت لا مفرّ منه على كل حال ، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلّة أهليتهم ، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة ، فقال { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } وهو إبطال لما تلهّف منه المنافقون على إضاعة قتلاهم . والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم تعليماً له ، وليُعلِّم المسلمين ، ويجوز أن يكون جارياً على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معيّن . والحسبان الظنّ فهو نهي عن أن يظنّ أنّهم أموات وبالأحرى يكون نهياً عن الجزم بأنَّهم أموات . وقرأ الجمهور الذين قُتِلوا ـــ بتخفيف التاء ـــ وقرأه ابن عامر ـــ بتشديد التاء ـــ أي قُتِّلوا قتلاً كثيراً . وقوله { بل أحياء } للإضراب عن قوله { ولا تحسبن الذين قتلوا } فلذلك كان ما بعدها جملة غير مفرد ، لأنّها أضربت عن حكم الجملة ولم تُضرب عن مفردٍ من الجملة ، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر ، فالتقدير بل هم أحياء ، ولذلك قرأه السبعة ـــ بالرفع ـــ ، وقرىء ـــ بالنصب ـــ على أنّ الجملة فعلية ، والمعنى بل أحسبتم أحياء ، وأنكرها أبو علي الفارسي . وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتاً ظاهراً بقوله { قتلوا } ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فعلِمنا أنّهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم أحياء الأرواح ، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح ، غير مضمحلّة ، بل هي حياة بمعنى تحقّق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارّة لأنفسهم ، ومسرّتهم بإخوانهم ، ولذلك كان قوله { عند ربهم } دليلاً على أنّ حياتهم حياة خاصّة بهم ، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم ، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق ، ونبضات القلب ، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس ، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائماً لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنّة . فإن علّقنا { عند ربهم } بقوله أحياء كما هو الظاهر ، فالأمر ظاهر ، وإن علقناه بقوله { يرزقون } فكذلك ، لأنّ هذه الحياة لمّا كان الرزق الناشىء عنها كائناً عند الله ، كانت حياة غير مادّية ولا دنيويَّة ، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق . وقولُه { فرحين } حال من ضمير { يرزقون } . والاستبشار حصول البشارة ، فالسين والتاء فيه كما هما في قوله تعالى { واستغنى اللَّه } التغابن 6 وقد جمع اللَّهُ لهم بين المسرّة بأنفسهم والمسرّة بمن بقي من إخوانهم ، لأنّ في بقائهم نكاية لأعدائهم ، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنّون هلاك أعدائهم ، لأنّ في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين . فالمراد { بالذين لم يلحقوا بهم } رفقاؤهم الذين كانوا يجاهدون معهم ، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة . و { من خلفهم } تمثيل بمعنى من بعدهم ، والتقدير ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة مِن رفاقهم بأَمْنِهم وانتفاءِ ما يُحْزنهم . وقوله { ألا خوف عليهم } بدل اشتمال ، ولا عاملة عمل ليس ومفيدة معناها ، ولم يُبن اسم لا على الفتح هنا لظهور أنّ المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح ، وهو كقول إحدى نساء حديث أمّ زرع " زوجي كلَيْلِ تِهَامَة ، لا حرٌّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سَآمَهْ " برفع الأسماء النكرات الثلاثة . وفي هذا دلالة على أنّ أرواح هؤلاء الشهداء مُنحت الكشفَ على ما يسرّها من أحوال الذين يهمّهم شأنهم في الدنيا . وأنّ هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله ، وقد يكون خاصّاً الأحوال السارّة لأنّها لذّة لها . وقد يكون عامّاً لِجميع الأحوال لأنّ لذّة الأرواح تحصل بالمعرفة ، على أنّ الإمام الرازي حَصَر اللذّة الحقيقية في المعارف . وهي لذّة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء ، ولو كانت سيئة . وفي الآية بشارة لأصحاب أُحُد بأنّهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم . وضمير { يستبشرون بنعمة من الله } يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالاً من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله ، ويحتمل أن يكون تكريراً لقوله { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا } والضمير لـ { الذين قُتِلوا في سبيل الله } ، وفائدة التكرير تحقيق معنى البشارة كقوله { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } القصص 63 فكرّر أغويناهم ، ولأنّ هذا استبشار منه عائد لأنفسهم ، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح ، والأولى عائدة لإخوانهم . والنعمة هي ما يكون به صلاح ، والفضل الزيادة في النعمة . وقوله { وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين } قرأه الجمهور ـــ بفتح همزة أنّ ـــ على أنه عطف على { نعمةٍ من الله وفضلٍ } ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأنْ جمع الله لهم المسرّة الجثمانية الجزئية والمسرّة العقليّة الكلية ، فإنّ إدراك الحقائق الكلية لذّة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية وشرف العلم بها ، وحصول المسرّة للنفس من انكشافها لها وإدراكها ، أي استبشروا بأنّ عَلِموا حقيقة كليّة وسرّاً جليلاً من أسرار العِلم بصفات الله وكمالاته ، التي تعمّ آثارها ، أهل الكمال كلَّهم ، فتشمل الذين أدركوها وغيرهم ، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة { وأن الله لا يضيع أجرالمؤمنين } إذ لم يحصل بزيادته زيادةُ نعمة وفضل للمستبشرين مِن جنس النعمة والفضل الأولين ، بل حصلت نعمة وفضل آخران . وقرأه الكسائي ـــ بكسر همزة إنّ ـــ على أنه عطف على جملة { يستبشرون } في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء . ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام ، فتكون الواو للاستئناف . وجملة { الذين استجابوا لله والرسول } صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره { للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم } وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أُحُد من الأرجاف بأنّ المشركين ، بعد أن بلغوا الرّوحاء ، خطر لهم أنْ لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم . وقد مرّ ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى { يأيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم } آل عمران 149 . وقد تقدّم القول في القرح عند قوله { إن يمسسكم قرح } آل عمران 140 . والظاهر أنَّه هنا للقرح المجازي ، ولذلك لم يجمع فيقال القروح .