Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 91-91)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

استئناف لبيان حال الكافرين الذين ماتوا على كفرهم ، نشأ عن حكم فريق من الكفار تكرّر منهم الكفر حتى رسخ فيهم وصار لهم ديدَناً . وإن كان المراد في الآية السابقة من الذين ازدادوا كفراً الذين ماتوا على الكفر ، كانت هذه الآية كالتوكيد اللفظي للأولى أعيدت ليبنى عليها قوله { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } . وأياً مّا كان فالمراد بالموصول هنا العموم مثل المعرّف بلام الاستغراق . والفاء في قوله { فلن يقبل } مؤذنة بمعاملة الموصول معاملة اسم الشرط ليدل على أنّ الصلة هي علة عدم قبول التوبة ، ولذلك لم يقترن خبر الموصول بالفاء في الجملة التي قبلها { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } آل عمران 90 لأنّهم إذا فعلوا ذلك ولم يموتوا كافرين قبلت توبتهم ، بخلاف الذين يموتون على الكفر فسبب عدم قبول التوبة منهم مصرّح به ، وعليه فجملة فلن يقبل من أحدهم إلى آخرها في موضع خبر إن وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الإخبار بأنه لن يقبل من أحدهم فدية ويجوز أن تكون جملة { فلن يقبل من أحدهم } إلى آخرها معترضة بين اسم إنّ وخبرها مقترنة بالفاء كالتي في قوله تعالى { ذلكم فذوقوه وأنّ للكافرين عذاب النار } الأنفال 14 وتكون جملة { أولئك لهم عذاب أليم } خبر إنّ . ومعنى { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } لن يقبل منهم بشيء يفتدون به في الآخرة لظهور أن ليس المراد نفي قبول الافتداء في الدنيا ضرورة أنهم وصفوا بأنهم ماتُوا وهم كفار . والمِلْء - بكسر الميم - ما يملأ وعاءً ، ومِلء الأرض في كلامهم كناية عن الكثرة المتعذّرة ، لأنّ الأرض لا يملؤها شيء من الموجودات المقدّرة ، وهذا كقولهم عدد رمال الدهناء ، وعدد الحصى ، ومُيز هذا المقدار بذَهباً لعزة الذهب وتنافس الناس في اقتنائه وقبول حاجة من بذله قال الحريري @ وقارنتْ نَجْحَ المساعي خَطْرتُه @@ وقوله { ولو افتدى به } جملة في موقع الحال ، والواو واو الحال ، أي لا يقبل منهم ولو في حال فرض الافتداء به ، وحرف لو للشرط وحذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، ومثل هذا الاستعمال شائع في كلام العرب ، ولكثرته قال كثير من النحاة إنّ لو وإن الشرطيتين في مثله مجرّدتان عن معنى الشرط لا يقصد بهما إلاّ المبالغة ، ولَقبوهُما بالوصليتين أي أنّهما لِمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد . وتردّدوا أيضاً في إعراب الجملة الواقعة هذَا الموقع ، وفي الواو المقترنة بها ، والمحققون على أنّها واو الحال وإليه مَال الزمخشري ، وابنُ جنّي ، والمرزوقي . ومن النحاة من جعل الواو عاطفة على شرط محذوف هو ضدّ الشرط المذكور كقوله تعالى { كونوا قوّامين بالقسط شهداء للَّه ولو على أنفسكم } النساء 135 . ومن النحاة من جعل الواو للاستئناف ، ذكره الرضي رادّاً عليه ، وليس حقيقاً بالردّ فإنّ للاستئناف البياني موقعاً مع هذه الواو . هذا وإنّ مواقع هذه الواو تؤذن بأنّ الشرط الذي بعدها شرط مفروضٌ هو غاية ما يتوقّع معه انتفاء الحكم الذي قبلها ، فيذكره المتكلم لقصد تحقق الحكم في سائر الأحوال كقول عمرو بن معد يكرب @ لَيْسَ الجمالُ بمِئْزَرٍ فاعْلَمْ وإنْ رُدِّيتَ بُرْدا @@ ولذلك جرت عادة النحاة أن يقدّروا قبلها شرطاً هو نقيض الشرط الذي بعدها فيقولون في مثل قوله وإنْ رُدّيت بُردا - إنْ لم تُرَدَّ بُردا بل وإن رُدِّيتَ بردا - وكذا قول النابغة @ سأكْعَمُ كَلبي أَن يَريبَك نبحُه ولو كنْتُ أرْعى مُسْحلانِ فَحَامِرا @@ ولأجل ذلك ، ورد إشكال على هذه الآية لأنّ ما بعد { ولو } فيها هو عين ما قبلها ، إذ الافتداء هو عين بَذل مِلْءِ الأرض ذهباً ، فلا يستقيم تقدير إن لم يفتد به بل ولَو افتدى به ، ولذلك احتاج المفسرون إلى تأويلات في هذه الآية فقال الزجّاج المعنى لن يقبل من أحدهم مِلء الأرض ذهباً ينفقه في الدنيا ولو افتدى به في الآخرة ، أي لا يفديهم شيء من العذاب ، وهذا الوجه بعيد ، إذ لا يقدر أنّ في الآخرة افتداء حتى يبالغ عليه ، وقال قوم الواو زائدة ، وقال في « الكشاف » هو محمول على المعنى كأنه قيل فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى مِلء الأرض ذهباً ، يريد أنّ كلمة بمِلء الأرض في قوة كلمة فدية واختُصر بعد ذلك بالضمير ، قال ويجوز أن يقدر كلمة مثل قبل الضمير المجرور أي ولو افتدى بمثله أي ولو زاد ضعفَه كقوله { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } الزمر 47 . وعندي أنّ موقع هذا الشرط في الآية جارٍ على استعمال غفل أهل العربية عن ذكره وهو أن يقع الشرط استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال ، محقّق أو مقدّر ، يتوهمه المتكلم من المخاطَب فيريد تقريره ، فلا يقتضي أنّ شرطها هو غاية للحكم المذكور قبله ، بل قد يكون كذلك ، وقد يكون السؤال مجرّد استغراب من الحكم فيقع بإعادة ما تضمّنه الحكم تثبيتاً على المتكلم على حدّ قولهم « ادْرِ ما تقول » فيجيب المتكلم بإعادة السوال تقريراً له وإيذاناً بأنه تكلم عن بينة ، نعم إنّ الغالب أن يكون السؤال عن الغاية وذلك كقول رؤبة ، وهو من شواهد هذا @ قالت بناتُ العَمِّ يا سلمَى وإنْ كَان فَقيراً مُعْدِمَا قالتْ وإنْ @@ وقد يحذف السؤال ويبقى الجواب كقول كعب بن زهير @ لا تأخُذَنِّي بأقوال الوُشاة ولم أذْنِبْ وإنْ كَثُرَتْ فيّ الأقاويل @@ وقد يذكر السؤال ولا يذكر الجواب كقوله تعالى { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أوَ لَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } الزمر 43 فلو ذكر الجواب من قبل المشركين لأجابوا بتقرير ذلك . فقوله { ولو افتدى به } جواب سؤالِ متعجِّبٍ من الحكم وهو قوله { فلن يقبل من أحدهم } فكأنه قال ولو افتدى به فأجيب بتقرير ذلك على حدّ بيت كعب . فمفاد هذا الشرط حينئذ مجرّد التأكيد . ويجوز أن يكون الشرط عطفاً على محذوف دلّ عليه افتدى أي لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً يجعله رَهينة . ولو بذلُه فدية ، لأنّ من عادة العرب أن المطلوب بحق قد يعطي فيه رَهناً إلى أن يقع الصلح أو العفو ، وكذلك في الديون ، وكانوا إذا تعاهدوا على صلح أعطت القبائل رَهائن منهم كما قال الحارث @ واذْكروا حِلْف ذي المَجاز وما قُدِّ م فيه العُهُودُ والكُفَلاء @@ ووقع في حديث أبي رافع اليهودي أنّ مُحمد بن مَسلمة قال لأبي رافع « نرهنك السلاح واللاّمة » . وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } فذلكة للمراد من قوله { إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم } آل عمران 90 الآيتين . وقوله { وما لهم من ناصرين } تكميل لنفي أحوال الغَناء عنهم وذلك أنّ المأخوذ بشيء قد يعطي فدية من مال ، وقد يكفُله من يوثق بكفالتهم ، أو يشفع له من هو مسموع الكلمة ، وكلٌّ من الكفيل والشفيع ناصر .