Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 131-133)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

جملة { ولله ما في السماوات وما في الأرض } معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنّة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله { وإن تحسنوا وتتقّوا } النساء 128 وقوله { وإن تصلحوا وتتّقوا } النساء 129 وبين جملة { ولقد وصينا } الآية . فهذه الجملة تضمّنت تذييلات لتلك الجمل السابقة ، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } الخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله . والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها وهي جملة { يغن الله كُلاَ من سعته } النساء 130 أنّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كلّ أحد من سعته . وهذا تمجيد لله تعالى ، وتذكير بأنّه ربّ العالمين ، وكناية عن عظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى . وجملة { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } عطف على جملة { إن الله لا يغفر أن يشرك به } النساء 116 . وجُعل الأمر بالتقوى وصيةً لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير ، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنّها يقصد منها وعي السامع ، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله . والتقوى تجمع الخيرات ، لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، ولذلك قالوا ما تكرّر لفظ في القرآن ما تكرّر لفظ التقوى ، يعنون غير الأعلام ، كاسم الجلالة . وفي الحديث عن العرباض بن سارية وَعَظَنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله كأنَّهَا موعظة مُوَدّعٍ فأوْصِنا ، قال " أوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ والسمع والطاعة " فذكْرُ التقوى في { أن اتّقوا الله } الخ تفسير لجملة { وصيّنا } ، فأنْ فيه تفسيرية . والإخبارْ بأنّ الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلْهاب همم المسلمين للتهمّم بتقوى الله لئلاّ تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب ، فإنّ للائتساء أثراً بالغاً في النفوس ، كما قال تعالى { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } البقرة 183 ، والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى ، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدّد . والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة { وإن تكفروا فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض } . وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس ، ولكنّها لصلاح أنفسهم ، كما قال { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر } الزمر 7 . فقوله { فإنّ لله ما في السماوات وما في الأرض } كناية عن عدم التضرّر بعصيَان من يعصونه ، ولذلك جعلها جواباً للشرط ، إذ التقدير فإنّه غنيّ عنكم . وتأيّد ذلك القصد بتذييلها بقوله { وكان الله غنياً حميداً } أي غنيّاً عن طاعتكم ، محموداً لذاته ، سواء حمده الحامدون وأطاعوه ، أم كفروا وعصوه . وقد ظهر بهذا أنّ جملة { وإن تكفروا } معطوفة على جملة { أن اتّقوا الله } فهي من تمام الوصية ، أي من مقول القول المعبّر عنه بــــ { وصيّنا } ، فيحسن الوقف على قوله { حميداً } . وأمّا جملة { ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفَى بالله وكيلاً } فهي عطف على جملة { ولقد وصيّنا } ، أتى بها تميهداً لقوله { إن يشأ يذهبكم } فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكّن من التصرّف بالإيجاد والإعدام ، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله { وكيلاً } . فقد تكرّرت جملة { ولله ما في السماوات وما في الأرض } هنا ثلاث مرّات متتاليات متّحدة لفظاً ومعنى أصلياً ، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها ، وسبقتها جملة نظيرتهنّ وهي ما تقدّم من قوله { ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكلّ شيء محيطاً } النساء 126 . فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق . فأمّا الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } النساء 116 ، ولقوله { ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } النساء 116 ، والتذييلِ لهما ، والاحتراس لجملة { واتّخذ الله إبراهيم خليلاً } النساء 125 ، كما ذكرناه آنفاً . وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة { يغني الله كلاَّ من سعته } . وأما الثالثة التي تليها فهي علّة للجواب المحذوف ، وهو جواب قوله { وإن تكفروا } فالتقدير وإن تكفروا فإنّ الله غنيّ عن تقواكم وإيمانكم فإنّ له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيّاً حميداً . وأمّا الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدّر معطوف على جواب الشرط تقديره وإن تكفروا بالله وبرسوله فإنّ الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلاً . وجملة { إن يشأ يذهبكم } واقعة موقع التفريع عن قوله { غنيّاً حميداً } . والخطاب بقوله { أيها الناس } للناس كلّهم الذين يسمعون الخطاب تنبيهاً لهم بهذا النداء . ومعنى { يَأت بآخرين } يُوجد ناساً آخرين يكونون خيراً منكم في تلقيّ الدين . وقد علم من مقابلة قوله { أيها الناس } بقوله { آخرين } أنّ المعنى بناس آخرين غير كافرين ، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخرَ أو أخرى ، بعد ذكرِ مقابِل للموصوف ، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضاً من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلّم جنساً في كلامه ، بالتصريح أو التقدير . وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك ، واحتفل بهذه المسألة الحريري في « درّة الغوّاص » . وحاصلها أنّ الأخفش الصغير ، والحريري ، والرضيّ ، وابن يسعون ، والصقلي ، وأبا حيان ، ذهبوا إلى اشتراط اتّحاد جنس الموصوف بكلمة آخرَ وما تصرّف منها مع جنس ما عطف هو عليه ، فلا يجوز عندهم أن تقول ركبت فرساً وحماراً آخر ، ومثّلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى { أيّاماً معدودات } البقرة 184 ثم قال { فعدّة من أيّام أخَر } البقرة 185 وبقوله { أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى } النجم 19 ، 20 فوصف مناة بالأخرى لأنّها من جنس اللات والعزّى في أنّها صنم ، قالوا ومِثل كلمة آخر في هذا كلمات سائر ، وبقية ، وبعض ، فلا تقول أكرمت رجلاً وتركت سائر النساء . ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتّى في الإفراد وضدّه . قاله ابن يسعون والصقلي ، وردّه ابن هشام في « التذكرة » محتجّاً بقول ربيعة بن مكدم @ ولقد شفعتهما بآخر ثالث وأبى الفرار لي الغداة تكرمي @@ وبقول أبي حيّة النميري @ وكنتُ أمشي على رجلين معتدلاً فصرت أمشي على أخرى من الشَّجَر @@ وقال قوم بلزوم الاتّحاد في التذكير وضدّه ، واختاره ابن جنّي ، وخالفهم المبّرد ، واحتجّ المبرّد بقول عنترة @ والخيلُ تقتحم الغبارَ عَوابسا من بين شَيْظَمةٍ وآخرَ شَيْظم @@ وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتّحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه ، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى ويأت بخلق آخرين غير الإنس . واتّفقوا على أنّه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدّمه ذكرُ مقابل له أصلاً ، فلا تقول جاءني آخَر ، من غير أن تتكلّم بشيء قبلُ ، لأنّ معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف . وأمّا قول كُثير @ صلّى على عَزّةَ الرحمانُ وابنتِها لُبْنَى وصلّى على جارَاتها الأُخَر @@ فمحمول على أنّه جعل ابنتها جارة ، أو أنّه أراد صلى على حبائبي عزّة وابنتها وجاراتها حبائبي الأُخَر . وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولم يأت عليه بشاهد . قال أبو الحسن وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل . نحو رأيت فرساً وحماراً آخر بتأويل أنّه دابّة ، وقول امرىء القيس @ إذا قلت هذا صاحبي ورضيتُه وقَرّتْ به العينان بُدِّلْتُ آخرا @@ قلت وقد يجعل بيت كثير من هذا ، ويكون الاعتماد على القرينة . وقد عدّ في هذا القبيل قول العرب « تربت يمين الآخِر » ، وفي الحديث قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم « إنّ الآخر وقع على أهله في رمضان » كناية عن نفسه ، وكأنّه من قبيل التجريد . أي جرّد من نفسه شخصاً تنزيهاً لنفسه من أن يتحدّث عنها بما ذكره . وفي حديث الأسلمي في « الموطأ » أنّه قال لأبي بكر " إنّ الآخر قد زنى " وبعض أهل الحديث يضبطونه ــــ بالقصر وكسر الخاء ــــ ، . وصوّبه المحقّقون . وفي الآية إشارة إلى أنّ الله سيخلف من المشركين قوماً آخرين مؤمنين ، فإنّ الله أهلك بعضَ المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية ، ولم يشأ إهلاك جميعهم . وفي الحديث لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده .