Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 156-158)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عُطف { وبكفرهم } مرّة ثانية على قوله { فبما نقضهم } النساء 155 ولم يُستغن عنه بقوله { وكفرِهم بآيات الله } النساء 155 وأعيد مع ذلك حرف الجرّ الذي يغني عنه حرفُ العطف قصداً للتأكيد ، واعتبر العطف لأجل بُعْد ما بيّن اللفظين ، ولأنَّه في مقام التهويل لأمر الكفر ، فالمتكلّم يذكره ويُعيده يتثبّت ويُرى أنّه لا ريبة في إناطة الحكم به ، ونظير هذا التكرير قول لبيد @ فتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظلالُه كدُخان مُشْعَلَة يُشَبُّ ضِرامُها مَشْمُولة غُلِثَتْ بنابت عرفج كَدُخَان نار سَاطِع أسْنَامُها @@ فأعاد التشبيه بقوله كدُخان نَار ليحقّق معنى التشبيه الأوّل . وفي « الكشاف » « تكرّر الكفر منهم لأنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد ـــ صلوات الله عليهم ـــ فعطف بعض كفرهم على بعض » ، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفاً للذي قبله باعتبار عطف قوله { وقولهم على مريم بهتاناً } . ونظيره قول عويف القوافي @ اللؤم أكرمُ من وَبْر ووالدِه واللؤمُ أكرم من وَبْرٍ وما ولدا @@ إذْ عطف قوله واللؤم أكرم من وبر باعتبار أنّ الثاني قد عطف عليه قولُه وما ولدا . والبهتان مصدر بَهَتَه إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقّبه ولا يجد له جوابا ، والذي يتعمّد ذلك بَهُوت ، وجمعه بُهُت وبُهْت . وقد زيّن اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم ـــ عليها السلام ـــ . أمّا قولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم ، فَمحلّ المؤاخذة عليهم منه هو أنّهم قصدوا أن يعدّوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبيّن في سبيل نصر الدين . والمسيح كان لَقباً لعيسى ـــ عليه السلام ـــ لقَّبه به اليهود تهكّماً عليه لأنّ معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى المَلِك ، كما تقدّم في قوله تعالى { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } في سورة آل عمران 45 ، وهو لقب قصدوا منه التهكّم ، فصار لقباً له بينهم . وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيماً له . ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمّد اسم مذمَّم ، قالت امرأة أبي لهب مذمَّماً عصينا ، وأمره أبينا . فقال النبي ألا تعجبون كيف يصرف الله عنّي شتم قريش ولعنهم ، يشتمون ويلعنون مذمّماً وأنا محمد . وقوله { رسول الله } إن كان من الحكاية فالمقصود منه الثناء عليه والإيمان إلى أنّ الذين يتبجّحون بقتله أحرياء بما رتّب لهم على قولهم ذلك ، فيكون نصبُ { رسول الله } على المدح ، وإن كان من المحكي فوصفهم إيّاه مقصود منه التهكّم ، كقول المشركين للنبيء صلى الله عليه وسلم { يَا أيّها الذي نُزّل عَلَيْهِ الذكر إنَّكَ لمجْنون } الحجر 6 وقول أهل مدين لشعيب { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنَّك لأنْتَ الحليمُ الرشيد } هود 87 فيكون نصب « رسول الله » على النعت للمسيح . وقوله { وما قتلوه } الخ الظاهر أنّ الواو فيه للحال ، أي قولهم ذلك في حال أنّهم ما قتلوه ، وليس خبراً عن نفي القتل لأنَّه لو كان خبراً لاقتضى الحال تأكيده بمؤكّدات قويَّة ، ولكنَّه لمّا كان حالاً من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم ، على أنّه يجوز كونه خبراً معطوفاً على الجمل المخبر بها عنهم ، ويكون تجريده من المؤكّدات إمَّا لاعتبار أنّ المخاطب به هم المؤمنون ، وإمَّا لاعتبار هذا الخبر غنيّاً عن التأكيد ، فيكون ترك التأكيد تخريجاً على خلاف مقتضى الظاهر ، وإمّا لكونه لم يُتلقّ إلاّ من الله العالم بخفيّات الأمور فكان أعظم من أن يؤكّد . وعطف { وما صلبوه } لأنّ الصلب قد يكون دون القتل ، فقد كانوا ربما صلبوا الجاني تعذيباً له ثم عفوا عنه ، وقال تعالى { إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله … أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا } المائدة 33 . والمشهور في الاستعمال أنّ الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرّك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم ، وكذلك كانوا يزعمون أنّ عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه . وجملة { ولكن شبَّه لهم } استدراك ، والمستدرك هو ما أفاده { وما قتلوه } من كون هذا القول لا شبهة فيه . وأنَّه اختلاق محض ، فبيّن بالاستدراك أنّ أصل ظنّهم أنّهم قتلوه أنّهم توهّموا أنّهم قتلوه ، وهي شبهة أوهمت اليهود أنّهم قتلوا المسيح ، وهي ما رَأوه ظاهراً من وقوع قتل وصلْب على ذات يعتقدونها ذات المسيح ، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفيَّة معنى الشبه . وقوله { شبّه لهم } يحتمل أن يكون معناه أنّ اليهود الَّذِين زعموا قتْلَهم المسيحَ في زمانهم قد شُبّه لهم مُشبَّه بالمسيح فقتلوه ، وَنجَّى الله المسيح من إهانة القتل ، فيكون قوله { شبِّه } فعلاً مبْنيّاً للمجهول ، مشتقّاً من الشبه ، وهو المماثلة في الصورة . وحذف المفعول الذي حقّه أن يكون نائب فاعل شبّه للدلالة فعل شبّه عليه فالتقدير شبِّه مشبَّه فيكون « لهم » نائباً عن الفاعل . وضمير لهم على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم } وهم يهود زمانه ، أي وقعت لهم المشابهة ، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول حصل لي ظنّ بكذا . والاستدراك بيِّن على هذا الاحتمال . ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبّه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح ، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق ، فيكون من باب قول العرب خُيِّل إليك ، واختُلِط على فلان . وليس ثمّة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق ، واللام على هذا لام الأجل أي لُبس الخبرُ كذبُه بالصدق لأجْلهم ، أي لتضليلهم ، أي أنّ كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحَنَق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم . أو تكون اللام بمعنى ـــ على ـــ للاستعلاء المجازي ، كقوله تعالى { وإن أسأتم فلها } الإسراء 7 . ونكتة العدول عن حرف ـــ على ـــ تضمين فعل شُبّه معنى صُنع ، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامّتهم . وفي الأخبار أنّ يهوذا الاسخريوطي أحد أصحاب المسيح ، وكان قد ضلّ ونافق ، هو الذي وشى بعيسى ـــ عليه السلام ـــ وهُو الذي ألْقَى الله عليه شبهَ عيسى ، وأنَّه الذي صُلب ، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين ، وهذا يلائم الاحتمال الأول . ويقال إنّ بيلاطس ، وَاليَ فلسطين ، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وَصَلبه فأجاب بأنّه لا عِلم له بشيء من هذه القضية ، فتأيّد بذلك اضطراب النّاس في وقوع قتله وصلبه ، ولم يقع ، وإنَّما اختلق اليهود خبره ، وهذا يلائم الاحتمال الثاني . والّذي يجب اعتقاده بنصّ القرآن أنّ المسيح لم يُقتل ، ولا صُلب ، وأنّ الله رَفَعَه إليه ونجّاه من طالبيه ، وأمَّا ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل . وقد تقدّم الكلام في رفعه في قوله تعالى { إنّي متوفّيك ورافعك إلَيّ } في سورة آل عمران 55 وقوله { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } يدلّ على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح . والخلافُ فيه موجود بين المسيحيين فجمهورهم يقولون قتلته اليهود ، وبعضهم يقول لم يقتله اليهود ، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبّه لهم بالمسيح ، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي ـــ الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتاباً محرّفاً ـــ فالمعنى أنّ معظم النّصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه ، بل يخالج أنفسهم الشكّ ، ويتظاهرون باليقين ، وما هو باليقين ، فما لهم به من علم قاطع إلاّ اتّباع الظنّ . فالمراد بالظنّ هنا معنى الشكّ ، وقد أطلق الظنّ على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب ، وفي القرآن { إنّ بعض الظنّ إثم } الحجرات 12 ، وفي الحديث الصحيح " إيَّاكم والظنّ فإنّ الظنّ أكْذَبُ الحديث " فالاستثناء في قوله { إلاّ اتّباع الظنّ } مُنقطع ، كقول النابغة @ حَلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا عِلْمَ إلاّ حُسنَ ظنّ بصَاحب @@ يجوزُ أن يكون معطوفاً على قوله { وما قتلوه وما صلبوه } ويجُوز أن يعطف على قوله { مالهم به من علم } . واليقين العلم الجازم الذي لا يحتمل الشكّ ، فهو اسمُ مصدر ، والمصدر اليَقَن بِالتحريك ، يقال يَقِن كفرح يَيْقَن يَقَنا ، وهو مصدر قليل الاستعمال ، ويقال أيقن يُوقن إيقاناً ، وهو الشائع . وقوله { يقيناً } يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكِّد لمضمون جملة قبله لأنّ مضمون { وما قتلوه يقينا } بعد قوله { وقولهم إنّا قتلنا المسيح } إلى قوله { وما قتلوه وما صلبوه ولكنّ شبّه لهم } يدلّ على أنّ انتفاء قتلهم إيّاه أمر متيقّن ، فصحّ أن يكون يقيناً مؤكّداً لهذا المضمون . ويصحّ أن يكون في موضع الحال من الواو في { قتلوه } ، أي ما قتلوه متيقّنين قتْلَه ، ويكون النفي منصبّاً على القيد والمقيّد معاً ، بقرينة قوله قبله { ومَا قتلوه وما صلبوه } ، أي هم في زعمهم قتْله ليسوا بمُوقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حينَ إمساك من أمسكوه ، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته . وضمير النصب في { قتلوه } عائد إلى عيسى ابن مريم ـــ عليه السلام ـــ . ويجوز أن يكون القتل مستعملاً مجازاً في التمكّن من الشيء والتغلّب عليه كقولهم قَتَلَ الخمرَ إذا مزجها حتّى أزال قُوّتَها ، وقولهم قَتَل أرضاً عالِمُها ، ومن شعر « الحماسة » في بَاب الهجاء @ يَروعك من سعدِ ابن عمرو جُسومها وتزهَد فيها حين تقتلُهَا خُبْراً @@ وقول الشاعر @ كذلِكَ تخبر عنهَا العالمات بها وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يَقَنا @@ وقول الآخر @ قتلتني الأيام حين قتلتها خبُرا فأبْصِرْ قَاتلاً مقتولاً @@ وضمير النصب في { قتلوه } عائد إلى العلم من قوله تعالى { ما لهم به من علم } ، فيكون { يقيناً } على هذا تمييزاً لنسبة قتلوه . ولذلك كلّه أعقب بالإبطال بقوله { بل رفعه الله إليه } أي فلم يظفروا به . والرفع إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات ، وإلى إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف ، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى . وقد تقدّم الكلام على معنى هذا الرفع ، وعلى الاختلاف في أنّ عيسى ـــ عليه السّلام ـــ بقي حيّاً أوْ أماته الله ، عند قوله تعالى { إنّي متوفّيك ورافِعك إليّ } في سورة آل عمران 55 . والتذييل بقوله وكان الله عزيزاً حكيماً ظاهر الموقع لأنّه لمّا عزّ فقد حقّ لعزّه أن يُعِزّ أولياءَه ، ولمّا كان حكيماً فقد أتقن صُنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين ، وتبصرة للمؤمنين ، وعقوبة ليهوذا الخائن .