Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 86-86)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

عطف على جملة { من يشفع شفاعة حسنة } النساء 85 باعتبار ما قُصد من الجملة المعطوفة عليها ، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيّئة ، وذلك يتضمّن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة ورَدّ الشفاعة السيّئة . وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يَدخل على المستشفَع إليه بالسلام استئناساً له لقبول الشفاعة ، فالمناسبة في هذا العطف هي أنّ الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه ، وأنّ صفة تلقّي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة ، وأنّ أول بَوادر اللقاء هو السلام وردّه ، فعلّم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها ــــ وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم . وفي الحديث " مرّ رجل فقال رسول الله ماذا تقولون فيه ؟ قالوا هذا جدير إن شفع أن يشفَّع … " الحديث ــــ حتى إذا قبل المستشفَع إليه الشفاعة كان قد طيَّب خاطر الشفيع ، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة . وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب . وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها ، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها . وقد دلّ قوله { فحيُّوا بأحسن منها } على الأمر بردّ السلام ، ووجوب الردّ لأنّ أصل صغية الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر ، ولذلك اتّفق الفقهاء على وجوب ردّ السلام ، ثم اختلفوا إذا كان المسلَّم عليهم جماعة هل يجب الردّ على كلّ واحد منهم فقال مالك هو واجب على الجماعة وجوبَ الكفاية فإذا رَد واحد من الجماعة أجزأ عنهم ، وورد في ذلك حديث صحيح على أنّه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير ردّ الجميع غوغاء . وقال أبو حنيفة الردّ فرض على كلّ شخص من الجماعة بعينه . ولعلّ دليله في ذلك القياس . ودلّ قوله { وإذا حييتم بتحية } على أنّ ابتداء السلام شيء معروف بينهم ، ودليله قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } وسيأتي في سورة النور 27 . وأفاد قوله { بأحسن منها أو ردّوها } التخيير بين الحالين ، ويُعلم من تقديم قوله { بأحسنَ منها } أنّ ذلك أفضل . وحيَيَّ أصله في اللغة دَعَا له بالحياة ، ولعلّه من قبيل النحت من قول القائل حيّاك الله ، أي وهب لك طول الحياة . فيقال للملك حياك الله . ولذلك جاء في دعاء التشهَّد التحيَّات لِلّه أي هو مستحقّها لا ملوك الناس . وقال النابغة @ يُحَيَّوْنَ بالرّيْحَانِ يومَ السَّبَاسِبِ @@ أي يحيون مع تَقَديم الريحان في يوم عيد الشعانين ــــ وكانت التحيّة خاصّة بالملوك بدعاء حيّاك الله غالباً ، فلذلك أطلقوا التحية على المُلْك في قول زهير بن جَنَّات الكلبي @ ولَكُلّ ما نال الفتى قد نلتُه إلاّ التحيَّة @@ يريد أنّه بلغَ غاية المجد سوى الملك . وهو الذي عناه المعريّ بقوله @ تحيةُ كِسْرى في الثناء وتُبَّعِ لِرْبعِكِ لا أرضَى تَحِيَّةَ أرْبُعِ @@ وهذه الآية من آداب الإسلام علّم الله بها أن يَردّوا على المسلّم بأحسنَ من سلامه أو بما يماثله ، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء . وتكون التحيّة أحسن بزيادة المعنى ، فلذلك قالوا في قوله تعالى { فقالوا سلاماً قال سلام } الذاريات 25 إنّ تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عُبِّر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسِي الحدوث المؤذن به نصب المصدر ، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنّه من بديع الترجمة ، ولذلك جاء في تحيّة الإسلام السلام عليكم ، وفي ردّها وعليكم السلام لأنّ تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب . وقال بعض الناس إنّ الواو في ردّ السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المُسلِّم بلغ غاية التحية أن يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فإذا قال الرادّ « وعليكم السلام » الخ ، كان قد ردّها بأحسن منها بزيادة الواو ، وهذا وهم . ومعنى ردّوها ردّوا مثلها ، وهذا كقولهم عندي درهم ونصفه ، لظهور تعذّر ردّ ذات التحيّة ، وقوله تعالى { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها } النساء 176 فعاد ضمير « وهو » وهاء « يرثها » إلى اللفظين لا إلى الذاتين ، ودلّ الأمر على وجوب ردّ السلام ، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام ، فذلك ثابت بالسنّة للترغيب فيه . وقد ذكروا أنّ العرب كانوا لا يقدّمون اسم المسلَّم عليه المجرور بعَلى في ابتداء السلام إلاّ في الرثاء ، في مثل قول عبدة بن الطيب @ عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحّما @@ وفي قول الشمّاخ @ عليك سلام من أمير وباركت يد الله في ذاك الأديم الممّزق @@ يرثي عثمان بن عفّان أو عمَر بن الخطاب . روى أبو داوود أنّ جابر بن سليم سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليك السلام يا رسول الله ، فقال له " إنّ عليك السلامُ تحيةُ الموتى ، قل ، السلام عليك " والتذييل بقوله { إنّ الله كان على كلّ شيء حسيباً } لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة . والحسيب العليم وهو صفة مشبَّهة من حَسِب ــــ بكسر السين ــــ الذي هو من أفعَال القلب ، فحُوّل إلى فعُل ــــ بضمّ عينه ــــ لمَّا أريد به أنّ العلم وصف ذاتي له ، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد ، ثمّ ضمّن معنى المحصي فعدي إليه بعلى . ويجوز كونه من أمثلة المبالغة . قيل الحسيب هنا بمعنى المحاسب ، كالأكيل والشريب . فعلى كلامهم يكون التذييل وعداً بالجزاء على قدرِ فضل ردّ السلام ، أو بالجزاء السَّيّء على ترك الردّ من أصله ، وقد أكدّ وصف الله بحسيب بمؤكّدين حرف إنّ وفعل كَانَ الدالّ على أنّ ذلك وصف مقرّر أزلي .