Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 79-80)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجْلهم من نظام العوالم العليا والسفلى ، وبما منحهم من الإِيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى ، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإِبل لمنافعهم الجمّة خاصّة وعامّة ، فالجملة استئناف سادس . والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره . والأنعام الإِبل والغنم والمعز والبقر . والمراد هنا الإِبلُ خاصة لقوله { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيهَا حَاجَةً } وقوله { وَعَلَيْهَا وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ } وكانت الإِبل غالب مكاسبهم . والجَعْل الوضع والتمكين والتهيئة ، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان تقريب نفوسهم من التوحيد لأن شأن أهل المروءة الاستحياء من المنعم . وأدمج في الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله { وَيُرِيكُم آياتِهِ } غافر 81 أي في ذلك كله . واللام في { لكم } لام التعليل ، أي لأجلكم وهو امتنان مُجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإِبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكّروها وعدُّوها . ثم فصّل ذلك الإِجمال بعضَ التفصيل بذكر المهمّ من النعم التي في الإِبل بقوله { لِتَرْكَبُوا منهَا } إلى { تحملون } . فاللام في { لِتَرْكَبُوا منهَا } لام كي وهي متعلقة بــــ { جعل } أي لركوبكم . و مِنْ في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه من أي بعضاً منها ، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل . ويتعلق حرف مِن بــــ { تركبوا } ، وتعلُّقُ مِن التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن مِن في مثله اسمٌ بمعنى بعضٍ ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا باللَّه } في سورة البقرة 8 . وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تَعب الرِّجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله { وَلِتَبلُغُوا عَليهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم } . وجملة { وَمِنْها تَأكُلُونَ } في موضع الحال من { الأنعام } ، أو عطف على المعنى من جملةِ { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا } لأنها في قوة أن يقال تركبونَ منها ، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في { جَعَلَ لَكُمُ الأنْعٰمَ } ، وعلى الاعتبارين فهي في حيّز ما دخلت عليه لاَم كي فمعناها ولتأكلوا منها . وجملة { ولكم فيها منٰفِع } عطف على جملة { وَمِنْهَا تَأكُلُونَ } ، والمعنى أيضاً على اعتبار التعليل كأنه قيل ولتجتنوا منافعها المجعولة لكم وإنما غيّر أسلوب التعليل تفنناً في الكلام وتنشيطاً للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكراراتٍ كثيرة . والمنافع جمع منفعة ، وهي مَفْعلة من النفع ، وهي الشيء الذي ينتفع به ، أي يستصلح به . فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } مثل الانتفاع بأوبارها وألبانها وأثمانها وأعواضِها في الديَات والمهور ، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها قباباً وغيرَها وبالجلوس عليها ، وكذلك الانتفاع بجَمال مرآها في العيون في المسرح والمراح ، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله { لِتَركبوا مِنهَا } ، فذكر المنافع بعد { لِتَركبوا منها } تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى { ولي فيها مآرب أخرى } طه 18 بعد قوله { هي عصاي أتوكأ عليها } طه 18 ، فذُكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيله في الشيوع وهو الأكل منها ، ثم عاد إلى عموم المنافع ، ثم خص من المنافع الأسفار ، فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام . ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف في دون مِن لأن في للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يُعدّ كالشيء المحوي في الأنعام ، كقول سَبْرَةَ بن عَمْرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في ديةِ قريبٍ @ نحابي بها أكفاءَنا ونُهينُها وَنَشْرَب في أثمانها ونُقامر @@ وأنبأ فعل { لِتَبْلغوا } أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها . والحاجة النية والعزيمة . والصدور أطلق على العقول اتباعاً للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول . وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله { ولِتَبلُغُوا عَلَيها حَاجَةً في صُدُورِكُم } فقال { وَعَلَيهَا وَعَلَى الفُلْكِ تُحمَلُونَ } ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام ، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله { وعَلَى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ } . وأما قوله { وعليها } فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريراً للمنّة ، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإِبل كقوله تعالى { وتحمل أثقالكم } النحل 7 فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليباً . ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركَّب الله في الإِنسان من التدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال ، كما تقدم في سورة البقرة 164 عند قوله تعالى { والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } الآيات ، وبيّنا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضاً قال النابغة يصف الفرات @ يظل من خوفه الملاح معتصماً بالخيزرانة بعد الأيْن والنجَد @@ والجمع بين السفر بالإِبل والسفر بالفلك جمع لطيف ، فإن الإِبل سفائن البر ، وقديماً سموها بذلك ، قاله الزمخشري في تفسير سورة المؤمنين . وإنما قال { وَعلَى الفُلْكِ } ولم يقل وفي الفلك ، كما قال { فإذا ركبوا في الفلك } العنكبوت 65 لمزاوجة والمشاكلة مع { وعليها } . وإنما أعيد حرف على في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر { وعليها } كالتوطئة لها فجاءت على مثالها . وتقديم المجرورات في قوله { وَمِنْهَا تأكُلُون } وقوله { وَعَلَيها وعَلَى الفُلْكِ } لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق . وتقديم { لكم } على { الأنعام } مع أن المفعول أشد اتصالاً بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعَم عليهم . وأما تقديم المجرورين في قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَنٰفِعُ } فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله { الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعٰمَ } .