Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-6)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ الحربُ أَوزارها } . لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله { حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق } . وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض } الأنفال 67 الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ ، وتقدم في سورة الأنفال . والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم . والمقصود تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله ، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين . وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله { حتى تضع الحرب أوزارها } . و إذ ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله { فضَرْب الرقاب } . واللقاء في قوله { فإذا لقِيتم الذين كفروا } المقابلة ، وهو إطلاق شهير للقاء ، يقال يوم اللقاء ، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب ، ويقال إن لقيت فلاناً لقيت منه أسداً ، وقال النابغة @ تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر @@ فليس المعنى إذا لقيتم الكافرين في الطريق ، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل { لقيتم } . والمعنى فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم ، فآسروا منهم أسرى . وضرب الرقاب كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام ، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض . والضرب هنا بمعنى القطع بالسيف ، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهاً لوجه . والمعنى فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف ، أو طعن الرّماح ، أو رشق النبال ، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان . والذين كفروا هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر ، نحو الكافرين ، والكفار ، والذين كفروا ، هو الشرك . و { حتى } ابتدائية . ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع . والإثخان الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة ، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها . وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل ، وكلا المعنيين في هذه الآية ، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد . وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ ، أي أبقوا الأسرى ، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر . وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله { حتى يُثخن في الأرض } . وانتصب { ضرب الرقاب } على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فِعله ثم أضيف إلى مفعوله ، والتقدير فاضربوا الرقاب ضرباً ، فلما حذف الفعل اختصاراً قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية . والشَدّ قوة الربط ، وقوة الإمساك . والوثاق بفتح الواو الشيء الذي يوثق به ، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به . وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير . والمعنى فاقتلوهم ، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم . وتعريف { الرقاب } و { الوثاق } يجوز أن يكون للعهد الذهني ، ويجوز أن يكون عوضاً عن المضاف إليه ، أي فضربَ رقابِهم وشُدُّوا وثاقهم . والمنُّ الإنعام . والمراد به إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل ، والفداء بكسر الفاء ممدوداً تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو . وقدم المن على الفداء ترجيحاً له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه . وانتصب { منّا } و { فداء } على المفعولية المطلقة بدلاً من عامليهما ، والتقدير إما تمّنون وإما تُفدون . وقوله { بعْدُ } أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء . وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن . وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا رأي جمهور أيمة الفقه وأهل النظر . فقوله { الذين كفروا } عام في كل كافر ، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار . وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده ، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون ، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة . ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } التوبة 5 . ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } في سورة الأنفال 67 . واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي ، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر ، وعطاءُ ، وسعيدُ بن جبير أن هذه الآية غير منسوخة ، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء ، وأمير الجيش مخيّر في ذلك . ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو مُنهية لحكم قوله تعالى { ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } إلى قوله { لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم } في سورة الأنفال 67 ، 68 . وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة ، وأوقات المحاربة ، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء ، ولم يذكر معهما القتل . وقد ثبت في « الصحيح » ثبوتاً مستفيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية ، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد ابن معاذ ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة ، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر . وأيضاً لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق ، وهو الأصل في الأسرى ، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملاً لترك القتل ، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع . وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك أنَّ المنّ من العتق . وقال الحسن وعطاء التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير ، فقتل الأسير يكون محظوراً . وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء . وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } التوبة 5 . وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج ، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين . وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف . والغاية المستفادة من { حتى } في قوله { حتى تضع الحرب أوزارها } للتعليل لا للتقييد ، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال . والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم ، فلا مفهوم لهذه الغاية ، فالتعليل متصل بقوله { فضرب الرقاب } وما بينهما اعتراض . والتقدير فضرب الرقاب ، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة ، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء . والأوزار الأثقال ، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله ، وهذا من مبتكرات القرآن . وأخذ منه عبد ربه السُلمى ، أو سُليم الحنفي قوله @ فألقت عصاها واستقرّ بها النوَى كما قرّ عينا بالإياب المسافر @@ فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره . { ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ ببعض } . أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفاً { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } محمد 3 للنكتة التي تقدمت هنالك ، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف . وتقدير المحذوف الأمر ذلك ، والمشار إليه ما تقدم من قوله { فضرب الرقاب } إلى هنا ، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس . والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و { لو يشاء الله لانتصر منهم } في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله { فضَرْبَ الرقاب } ، أي أمرتم بضرب رقابهم ، والحال أن الله لو شاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم ، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض . وتعدية انتصر بحرف من مع أن حقه أن يعدّى بحرف على لتضمينه معنى انتقم . والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعدَ الاستدراك . والبَلْوْ حقيقته الاختبار والتجربة ، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار ، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس . { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله { فضرب الرقاب } إلى قوله { وإما فداء } ، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم . وجملة { والذين قاتلوا في سبيل الله } الخ عطف على جملة { فإذا لَقِيتُمُ الذين كفروا فضرب الرقاب } الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله . وذكر { الذين قاتلوا في سبيل الله } إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال فلن يُضل الله أعمالكم ، وهكذا بأسلوب الخطاب ، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر ، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته ، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر . فجملة { فلن يضل أعمالهم } خبر عن الموصول ، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيراً ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء ، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل { قاتلوا } منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط . وجملة { سيهديهم } وما عطف عليها بيان لجملة { فلن يضل أعمالهم } . وتقدم الكلام آنفاً على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال . ومعنى { عَرَّفها لهم } أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها ، فالجملة حال من الجنة ، أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها ، وذلك من تعجيل الفرح بها . وقيل { عرفها } جعل فيها عرْفاً ، أي ريحاً طيباً ، والتطييب من تمام حسن الضيافة . وقرأ الجمهور { قاتلوا } بصيغة المفاعلة ، فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم . وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم { قُتِلوا } بالبناء للنائب ، فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة .