Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 112-113)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
جملة { إذ قال الحواريّون } يجوز أن تكون من تمام الكلام الذي يكلّم الله به عيسى يومَ يجمع الرسل ، فيكون { إذ } ظرفا متعلّقاً بفعل { قالوا آمنّا } المائدة 111 فيكون ممّا يذكر الله به عيسى يوم يجمع الرسل ، فحكي على حسب حصوله في الدنيا وليس ذلك بمقتض أنّ سؤالهم المائدة حصل في أول أوقات إيمانهم بل في وقت آخر { قالوا آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون } المائدة 111 فإنّ قولهم { آمنّا } قد يتكرّر منهم بمناسبات ، كما يكون عند سماعهم تكذيب اليهود عيسى ، أو عندما يشاهدون آيات على يد عيسى ، أو يقولونه لإعادة استحضار الإيمان شأن الصدّيقيين الذين يحاسبون أنفسهم ويصقلون إيمانهم فيقولون في كلّ معاودة . آمنّا واشهد بأنّنا مسلمون . وأمّا ما قرّر به « الكشاف » ومتابعوه فلا يحسن تفسير الكلام به . ويجوز أن يكون جملة { إذ قال الحواريّون } ابتدائية بتقدير اذكر ، على أسلوب قوله تعالى { إذْ قال موسى لأهله إنّي آنست ناراً } في سورة النمل 7 ، فيكون الكلام تخلّصاً إلى ذكر قصّة المائدة لمناسبة حكاية ما دار بين عيسى وبين الحواريّين في قوله تعالى { وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي وبرسولي } المائدة 111 وابتدأوا خطابهم عيسى بندائه باسمه للدلالة على أنّ ما سيقولونه أمر فيه اقتراح وكلفة له ، وكذلك شأن من يخاطب من يتجشّم منه كلفة أن يطيل خطابه طلباً لإقبال سمعه إليه ليكون أوعى للمقصود . وجرى قوله تعالى { هل يستطيع ربّك } على طريقة عربية في العرض والدعاء ، يقولون للمستطيع لأمر هل تستطيع كذا ، على معنى تطلّب العذر له إن لم يجبك إلى مطلوبك وأنّ السائل لا يحبّ أن يكلّف المسؤول ما يشقّ عليه ، وذلك كناية فلم يبق منظوراً فيه إلى صريح المعنى المقتضي أنّه يشكّ في استطاعة المسؤول ، وإنّما يقول ذلك الأدنى للأعلى منه ، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول ، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته . ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني « أنّ رجلاً قال لعبد الله بن زيد أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ » . فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك . فليس قول الحواريّين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلاّ لفظاً من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال ، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص . وليس شكّاً في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس . فإنّ النفوس بالمحسوس آنس ، كما لم يكن سؤال إبراهيم بقوله { ربّ أرني كيف تحيي الموتى } البقرة 260 شكّاً في الحال . وعلى هذا المعنى جرى تفسير المحققين مثل ابن عطية ، والواحدي ، والبغوي خلافاً لما في « الكشاف » . وقرأ الجمهور { يستطيع } بياء الغيبة ورفع { ربُّك } . وقرأه الكسائي { هل تَستطيع ربَّك } ـــ بتاء المخاطب ونصب الباء الموحّدة ـــ من قوله { ربّك } على أنّ { ربّك } مفعول به ، فيكون المعنى هل تسأل لنا ربّك ، فعبّر بالاستطاعة عن طلب الطاعة ، أي إجابة السؤال . وقيل هي على حذف مضاف تقديره هل تستطيع سؤال ربّك ، فأقيم المضاف إليه مُقام المضاف في إعرابه . وفي رواية الطبري عن عائشة قالت كان الحواريّون أعلم بالله عزّ وجل من أن يقولوا هل يستطيع ربّك ، ولكن قالوا هل تستطيع ربّك . وعن معاذ بن جبل أقرأنا النبي { هل تستطيع ربّك } . واسم { مائدة } هو الخوان الموضوع عليه طعام ، فهو اسم لمعنى مركّب يدلّ على طعاممٍ وما يوضع عليه . والخِوان ـــ بكسر الخاء وضمّها ـــ تخت من خشب له قوائم مجعول ليوضع عليه الطعام للأكل ، اتّفقوا على أنّه معرّب . قال الجواليقي هو أعجمي . وفي حديث قتادة عن أنس قال ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان قطّ ، ولا في سُكُرُّجَة ، قال قتادة قلت لأنس فعلاَم كنتم تأكلون قال على السُّفَر ، وقيل المائدة اسم الطعام ، وإن لم يكن في وعاء ولا على خِوان . وجزم بذلك بعض المحقّقين من أهل اللغة ، ولعلّه مجاز مرسل بعلاقة المحلّ . وذكر القرطبي أنّه لم تكن للعرب موائد إنّما كانت لهم السفرة . وما ورد في الحديث من قول ابن عباس في الضبّ لو كان حراماً ما أُكل على مائدة رسول الله ، إنّما يعني به الطعام الموضوع على سفرة . واسم السفرة غلب إطلاقه على وعاء من أديم مستدير له معاليق ليرفع بها إذا أريد السفر به . وسمّيت سفرة لأنّها يتّخذها المسافر . وإنّما سأل الحواريّون كون المائدة منزّلة من السماء لأنّهم رغبوا أن تكون خارقة للعادة فلا تكون ممّا صنع في العالم الأرضي فتعيّن أن تكون من عالم علوي . وقول عيسى حين أجابهم { اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين } أمر بملازمة التقوى وعدم تزلزل الإيمان ، ولذلك جاء بِــ { إن } المفيدة للشكّ في الإيمان ليعلم الداعي إلى ذلك السؤال خشية أن يكون نشأ لهم عن شكّ في صدق رسولهم ، فسألوا معجزة يعلمون بها صدقه بعد أن آمنوا به ، وهو قريب من قوله تعالى لإبراهيم المحكي في قوله { قال أو لم تؤمن } ، أي ألم تكن غنيّاً عن طلب الدليل المحسوس . فالمراد بالتقوى في كلام عيسى ما يشمل الإيمان وفروعه . وقيل نهاهم عن طلب المعجزات ، أي إن كنتم مؤمنين فقد حصل إيمانكم فما الحاجة إلى المعجزة . فأجابوه عن ذلك بأنّهم ما أرادوا ذلك لضعف في إيمانهم إنّما أرادوا التيمّن بأكل طعام نزل من عند الله إكراماً لهم ، ولذلك زادوا { منها } ولم يقتصروا على { أن نأكل } إذ ليس غرضهم من الأكل دفع الجوع بل الغرض التشرّف بأكل من شيء نازل من السماء . وهذا مثل أكل أبي بكر من الطعام الذي أكَل منه ضيفه في بيته حين انتظروه بالعشاء إلى أن ذهب جزء من الليل ، وحضر أبو بكر وغضب من تركهم الطعام ، فلمّا أخذوا يطعمون جعل الطعام يربو فقال أبو بكر لزوجه ما هذا يا أختَ بني فِراس . وحمل من الغد بعض ذلك الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه . ولذلك قال الحواريّون { وتطمئنّ قلوبنا } أي بمشاهدة هذه المعجزة فإنّ الدليل الحسي أظهر في النفس ، { ونعلم أن قد صدقتنا } ، أي نعلم علم ضرورة لا علم استدلال فيحصل لهم العلمان ، { ونكون عليها من الشاهدين } ، أي من الشاهدين على رؤية هذه المعجزة فنبلّغها من لم يشهدها . فهذه أربع فوائد لسؤال إنزال المائدة ، كلّها درجات من الفضل الذي يرغب فيه أمثالهم . وتقديم الجارّ والمجرور في قوله { عليها من الشاهدين } للرعاية على الفاصلة .