Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 70-70)
Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله . وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وبأنّ ما قابلوا به دعوته ليس بدعاً منهم بل ذلك دأبهم جيلاً بعد جيل . وقد تقدّم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرّة . أُولاها في سورة البقرة 83 . والرسل الّذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرْميا وحزقيال وداوود وعيسى . فالمراد بالرّسل هنا الأنبياء من جاء منهم بشرع وكتاب ، مثل موسى وداوود وعيسى ، ومن جاء معزّزاً للشّرع مبيّنا له ، مثل يوشع وأشعيا وأرميا . وإطلاق الرّسول على النّبيء الّذي لم يجىء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدّم ، لأنّه لمَّا ذكر أنّهم قَتَلوا فريقاً من الرسل تعيَّن تأويل الرسل بالأنبياء فإنّهم ما قتلوا إلاّ أنبياء لا رسلاً . وقوله { كلّما جاءهم رسول بما لا تهوَى أنفسهم فريقاً كذّبوا } إلخ انتصب { كلّما } على الظرفيّة ، لأنّه دالّ على استغراق أزمنة مَجيء الرسل إليهم فيدلّ على استغراق الرسل تبعاً لاستغراق أزمنة مجيئهم ، إذْ استغراق أزمنة وجود شَيْء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء ، فما ظرفية مصدريّة دالّة على الزّمان . وانتصب كلَّ على النّيابة عن الزّمان لإضافته إلى اسم الزّمان المبهم ، وهو مَا الظرفية المصدرية . والتقدير في كلّ أوقات مجيء الرّسل إليهم كَذّبوا ويَقتلون . وانتصب { كلَّما } بالفعلين وهو { كَذّبوا } وَ { يَقْتلون } على التّنازع . وتقديم { كلّما } على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلّف ، لأنّهم يريدون بتقديمه الاهتمام به ، ليظهر أنّه هو محلّ الغرض المسوقة له جملتهُ ، فإنّ استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرّسل في جميع الأوقات دليل على أنّ التّكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلّفان ، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر ، وذلك أظهر في فظاعة حالهم ، وهي المقصود هنا . وبهذا التّقديم يُشرَبُ ظرف { كلّما } معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له ، كما تصير أسماء الشّرط متقدّمة على أفعالها وأجوبتها في نحو { أينما تكونوا يدرككم الموت } النساء 78 . إلاّ أنّ { كُلّما } لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعدّ في أسماء الشرط لأنّ كلّ بعيد عن معنى الشرطية . والحقّ أنّ إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النّحاة تسامح . وقد أطلقه صاحب « الكشاف » في هذه الآية ، لأنّه لم يجد لها سبباً لفظياً يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } في سورة البقرة 87 ، وفي قوله { أو كُلّما عاهدوا عهداً نبذة فريق منهم } 100 في تلك السورة ، فإنّ التّقديم فيهما تبع لوقوعهما متّصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك ، وإن كان قد سكت عليهما في الكشاف لظهور أمرهما في تينك الآيتين . فالأحسن أن تكون جملة { فريقاً كذّبوا } حالاً من ضمير { إليهم } لاقترانها بضمير موافِق لصاحب الحال ، ولأنّ المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم ، وذلك لا يحصل إلاّ باعتبار كون المرسَل إليهم هذه حالهم مع رسلهم . وليست جملة { فريقاً كذبوا } وما تقدّمها من متعلّقها استئنافاً ، إذ ليس المقصود الإخبار بأنّ الله أرسل إليهم رسلاً بل بمدلول هذا الحال . وبهذا يظهر لك أنّ التّقسيم في قوله { فريقاً كذّبوا وفريقاً يقتلون } ليس لرسول من قوله { كلّما جاءهم رسول } بل لــ { رُسلاً } ، لأنَّنا اعتبرنا قوله { كلّما جاءهم رسول } مقدّماً من تأخير . والتقدير وأرسلنا إليهم رسلاً كذّبوا منهم فريقاً وقتلوا فريقاً كُلّما جاءهم رسول من الرسل . وبهذا نستغني عن تكلّفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني . وقوله { بما لا تهوى أنفسهم } أي بما لا تحبّه . يقال هَوِي يهوَى بمعنى أحبّ ومَالت نفسه إلى ملابسة شيء . إنّ بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلاً والخسران آجلاً ، ولولا ذلك لتُرك النّاس وما يهوَوْن ، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النّفوس من هواها . ولمّا وصفت بنو إسرائيل بأنّهم يكذّبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنّه لم يَخْلُ رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما وهما التّكذيب والقتل . وذلك مستفاد من { كلّما جاءهم رسول } ، فلم يبق لقوله { بما لا تهوى أنفسهم } فائدة إلاّ الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنّهم يكذّبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عُذراً من تكليفٍ بمشقّة فادحة ، أو من حدوث حادثثِ ثائرة ، أو من أجل التّمسّك بدين يأبون مفارقته ، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام ، بل لمجرّد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطّل بتمرّدهم فائدة التّشريع وفائدة طاعة الأمّة لهُداتها . وهذا تعليم عظيم من القرآن بأنّ من حقّ الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها ، وأنّها إذا رامت حمل علمائها وهدَاتها على مسايرة أهوئها ، بحيث يُعْصَوْن إذا دَعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حقّ عليهم الخسران كما حقّ على بني إسرائيل ، لأنّ في ذلك قلباً للحقائق ومحاولة انقلاب التّابع متبوعاً والقائد مقوداً ، وأنّ قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخُلق كانوا غاشِّين لهم ، وزالت فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المَرْعِيّ بالهَمَل والحَابِلُ بالنابل ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من استرعاه الله رعيّة فغشّها لم يَشُمّ رائحةَ الجنّة " فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنّهم قابلوا الرسول من أوّل وهلة بقولهم { إنّا وجدنا آباءَنَا على أمّة وإنَّا على آثارهم مهتدون } الزخرف 22 ، وقال قوم شعيب { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } هود 87 ، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثُمّ انتقضوا عليهم بالتّكذيب والتّقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم ممّا لا يهُوونه . وتقديم المفعول في قوله { فريقاً كذّبوا } لمجرّد الاهتمام بالتفصيل لأنّ الكلام مَسوق مساق التّفصيل لأحوال رُسل بني إسرائيل باعتبار ما لاَقوه من قومهم ، ولأنّ في تقديم مفعول { يقتلون } رعاية على فاصلة الآي ، فقدّم مفعول { كَذّبوا } ليكون المفعولان على وتيرة واحدة . وجيء في قوله { يَقتلون } بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعة إبلاغاً في التعجيب من شناعة فاعليها . والضّمائر كلّها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنّهم أمّة يخلُف بعضُ أجيالها بعضاً ، وأنّها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائدُ متّبعة بحيث يكون الخَلف منهم فيها على ما كان عليه السلف فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعِلين ، فإنّ الّذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الّذين اقتصروا على التكذيب .