Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 73-74)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النّصارى ، وهي مقالة المَلْكَانِيَّةِ المُسَمَّيْن بالجِعاثليقِيَّة ، وعليها معظم طوائف النّصارى في جميع الأرض . وقد تقدّم بيانها عند قوله تعالى { فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة } من سورة النّساء 171 ، وأنّ قوله فيها ولا تقولوا ثلاثة يجمَع الردّ على طوائف النّصارى كلّهم . والمراد بــ { قالوا } اعتقدوا فقالوا ، لأنّ شأن القول أن يكون صادراً على اعتقاد ، وقد تقدّم بيان ذلك . ومعنى قولهم { إنّ الله ثالث ثلاثة } أنّ ما يعرفُه النّاسُ أنّهُ اللّهُ هو مجموع ثلاثةِ أشياء ، وأنّ المستحقّ للاسم هو أحد تلك الثّلاثة الأشياء . وهذه الثّلاثة قد عبّروا عنها بالأقانِيم وهي أقنوم الوجود ، وهو الذات المسمّى الله ، وسمّوه أيضاً الأبَ وأقنوم العِلم ، وسمَّوه أيضاً الابنَ ، وهو الّذي اتّحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلهاً وأقنوم الحياة وسَمَّوه الرّوحَ القُدُس . وصار جمهورهم ، ومنهم الرَّكُوسية طائفة من نصارى العرب ، يقولون إنّه لمّا اتّحد بمريم حينَ حمْلها بالكلمة تألَّهَتْ مريم أيضاً ، ولذلك اختلفوا هل هي أمّ الكلمة أم هي أمّ الله . فقوله { ثالث ثلاثة } معناه واحد من تلك الثّلاثة ، لأنّ العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة ، صيغة فاعِل مضافاً إلى اسم العدد المشتقّ هُو منه لإرادة أنّه جزء من ذلك العَدد نحو { ثاني اثنين } التوبة 40 ، فإن أرادوا أنّ المشتقّ له وزنُ فاعل هو الّذي أكْمَلَ العدد أضافوا وزنَ فاعل إلى اسم العدد الّذي هو أرقَى منه فقالوا رابِعُ ثلاثة ، أي جَاعل الثلاثة أربعة . وقوله { وما من إله إلاّ إله واحد } عطف على جملة { لقد كفر } لبيان الحقّ في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل . ويجوز جعل الجملة حالاً من ضمير { قالوا } ، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفاً للواقع ، فيكون كالتّعليل لكفرهم في قولهم ذلك ، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحقّ أن يكون غير واحد فإنّ مِن لتأكيد عموم النّفي فصار النّفي بــ { ما } المقترنة بها مساوياً للنّفي بـــلا النّافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصّاً . وعدل هنا عن النّفي بلا التبرئة فلم يُقل ولا إله إلاّ إله واحد إلى قوله { وما من إله إلاّ إله واحد } اهتماماً بإبراز حرف مِن الدالّ بعد النّفي على تحقيق النّفي ، فإنّ النّفي بحرف لا ما أفاد نفي الجنس إلاّ بتقدير حرف من ، فلمّا قصدت زيادة الاهتمام بالنّفي هنا جيء بحرف مَا النّافية وأظهر بعده حرف من . وهذا ممّا لم يتعرّض إليه أَحدٌ من المفسّرين . وقوله { إلاّ إله واحد } يفيد حصر وصف الإلهيّة في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم . وأمّا تعيين هذا الواحد مَن هو ، فليس مقصوداً تعيينه هنا لأنّ القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث ، وثبتت الوحدانيّة تعيّن أنّ هذا الواحد هو الله تعالى لأنّه متّفق على إلهيّته ، فلمّا بطلت إلهيّة غيره معه تمحّضت الإلهيّة له فيكون قوله هنا { وما من إله إلاّ إله واحد } مساوياً لقوله في سورة آل عمران 62 { وما من إله إلاّ الله } إلاّ أنّ ذكر اسم الله تقدّم هنا وتقدّم قول المبطلين إنّه ثالث ثلاثة فاستغني بإثبات الوحدانيّة عن تعيينه . ولهذا صرّح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران 62 في قوله تعالى { وما من إله إلاّ الله } إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهيّة في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدّد الآلهة . وقوله { وإن لم ينتهوا عمّا يقولون لَيَمَسَّنّ الّذين كفروا منهم عذاب أليم } عطف على جملة { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة } ، أي لقد كفروا كفراً إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم . ومعنى { عمّا يقولون } أي عن قولهم المذكور آنفاً وهو { إنّ الله ثالث ثلاثة } . وقد جاء بالمضارع لأنّه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنّما يكون عن شيء مستمرّ كما ناسب قوله { قَالوا } قولَهُ { لقد كفر } ، لأنّ الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزّمن الماضي . ومعنى { عمّا يقولون } عمّا يعتقدون ، لأنّهم لو انتهوا عن القول باللّسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك ، فلمّا كان شأن القول لا يصدر إلاّ عن اعتقاد كان صالحاً لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصّريح . وأكّد الوعيد بلام القسم في قوله { ليمسّنّ } ردّاً لاعتقادهم أنّهم لا تمسّهم النّار ، لأنّ صلب عيسى كان كفّارة عن خطايا بني آدم . والمسّ مجاز في الإصابة ، لأنّ حقيقة المسّ وضع اليد على الجسم ، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتّصال ، كقوله تعالى { والّذين كذّبوا بآياتنا يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون } الأنعام 49 ، فهو دالّ على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدّة أو ضعف ، وإنّما يُرجع في الشدّة أو الضعف إلى القرينة ، مثل { أليم } هنا ، ومثل قوله { بما كانوا يفسقون } الأنعام 49 في الآية الأخرى ، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة @ مَسِسْنَا من الآباء شيئاً وكُلُّنا إلى حسب في قومه غيرِ واضع @@ أي تتبّعنا أصول آبائنا . والمراد بــ { الّذين كفروا } عينُ المراد بــ { الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة } فعُدل عن التّعبير عنهم بضميرهم إلى الصّلة المقرّرة لمعنى كفرهم المذكور آنفاً بقوله { لقد كفر الّذين قالوا } إلخ ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئاً إلى سبب الحكم المخبر به عنه . وعلى هذا يكون قوله { مِنْهم } بياناً للّذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهّم السامع أنّ هذا وعيد لكفّار آخرين . ولمّا توعّدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } . فالتّوبة هي الإقلاع عمّا هو عليه في المستقبل والرجوعُ إلى الاعتقاد الحقّ . والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والنّدمُ عمّا فرط منهم من سوء الاعتقاد . وقوله { والله غفور رحيم } تذييل بثناء على الله بأنّه يغفر لمن تاب واستغفر ما سلف منه ، لأنّ { غفور رحيم } من أمثلة المبالغة يدلاّن على شدّة الغفران وشدّة الرّحمة ، فهو وعد بأنّهم إن تابوا واستغفروه رفَع عنهم العذَابَ برحمته وصفح عمّا سلف منهم بغفرانه .