Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 7-9)

Tafsir: Aḍwāʾ al-bayān fī īḍāḥ al-Qurʾān bi-l-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اطّرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يُشبه الضدين بعد مقابلةِ ذِكر الشمس والقمرِ بذِكر النجممِ والشجر ، فجيء بِذكر خلق السماء وخلق الأرض . وعاد الكلام إلى طريقة الإِخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله { الرحمٰن علم القرآن } الرحمٰن 1 ، 2 ، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه . ورفع السماء يقتضي خلقَها . وذُكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب . ومعنى رفعها خلقُها مرفوعة إذ كانت مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط وسّع جيب القميص ، أي خِطْه واسعاً على أن في مجرد الرفع إيذاناً بسموّ المنزلة وشرفها لأن فيها منشأَ أحكام الله ومصدرَ قضائه ، ولأنها مكان الملائكة ، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه . وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادةٌ في الاهتمام بالاعتبار بخلقها . و { الميزان } أصله اسمُ آلة الوزن ، والوزن تقديرُ تعادُلِ الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مِفعال من الوزن ، وقد تقدم في قوله تعالى { والوزن يومئذٍ الحق فمن ثقلت موازينه } في سورة الأعراف 8 ، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس . والميزان هنا مراد به العدل ، مثل الذي في قوله تعالى { وأنزلنا معهُم الكتاب والميزان } الحديد 25 لأنه الذي وضعه الله ، أي عيّنه لإِقامة نظام الخلق ، فالوضع هنا مستعار للجعل فهو كالإِنزال في قوله { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } . ومنه قول أبي طلحة الأنصاري « وإنّ أحبَّ أموالي إليّ بئرحاءٍ وأنها صدقة لله فضَعْهَا يا رسول الله حيثُ أراكَ الله » أي اجعلها وعينها لما يدُلُّك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضِدية وإيهامُ طباق مع قوله { رفعها } ففيه محسِّنان بديعيان . وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل ، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به ، ولذلك تكرر ذلك العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق } في سورة يونس 5 ، وقوله { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } في سورة الحجر 85 ، وقوله { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } في سورة الدخان 38 ، 39 . وهذا يصدّق القول المأثور " بالعدل قامت السماوات والأرض " . وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان . و أنْ في قوله { ألا تطغوا } يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل . وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيرُه بحرف أنْ التفسيرية . فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيراً لذلك . فتكون لا ناهية . ويجوز أن تكون أنْ مصدرية بتقدير لاَم الجر محذوفة قبلَها . والتقدير لئلا تَطْغَوْا في الميزان ، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء ، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة . وتكون لا نافية ، وفعْل { تطغوا } منصوباً بــــ أن المصدرية . ولفظ { الميزان } يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه . وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل { وضع } وفعلي { لا تَطْغَوْا } و { أقيموا } وحرف الباء في قوله { بالقسط } وحرف { في } من قوله { في الميزان } ولفظ { القسط } ، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن . والطغيان دحض الحق عمداً واحتقاراً لأصحابه ، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم . ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه . و { في } من قوله { في الميزان } ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان ، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية في قوله تعالى { وارزقوهم فيها واكسوهم } النساء 5 ، أي ارزقوهم من بعضها وقول سَبرة بنِ عَمْرو الفقعسي @ سَبرةَ بنِ عَمْرو الفقعسي ونَشرب في أثمانها ونُقامر @@ إذْ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون ، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت @ نُحابي بها أكفاءنا ونُهينُها @@ وقوله تعالى { وأقيموا الوزن بالقسط } عطف على جملة { ألا تطغوا في الميزان } على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية . وعلى جملة { ووضع الميزان } على احتمال كون المعطوف عليها تعليلاً . والإِقامة جعل الشيء قائماً ، وهو تمثيل للإِتيان به على أكمل ما يراد له وقد تقدم عند قوله { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة 3 . والوزن حقيقته تحقيق تعادل الأجسام في الثقل ، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس . والقسط العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة قسطاس ، ومرة قسط ، وتقدم في قوله تعالى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } في سورة الأنبياء 47 . والباء للمصاحبة . والمعنى اجعلوا العدل ملازماً لما تقوّمونه من أموركم كما قال تعالى { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } الأنعام 152 وكما قال { ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا } المائدة 8 ، فيكون قوله { بالقسط } ظرفاً مستقراً في موضع الحال ، أو الباء للسببية ، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل ، فيكون قوله { بالقسط } طرفاً لغواً متعلقاً ، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } المطففين 1 ـــ 3 . فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه ، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله { ولا تخسروا الميزان } فإن حُمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه ، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيهاً على شدة عناية الله بالعدل ، وإنْ حُمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين 3 { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } والإِخسار جعل الغير خاسرا والخسارة النقص . فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإِخسار جعل صاحب الحق خاسراً مغبوناً ويكون { الميزان } منصوباً على نزع الخافص ، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإِخسار بمعنى النقص ، أي لا تجعلوا الميزان ناقصاً كما قال تعالى { ولا تنقصوا المكيال والميزان } هود 84 ، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل .